باب في آداب الحكماء والعلماء
باب في آداب الحكماء والعلماء
فضيلة الأدب أوصى بعضُ الحكماء بنيه فقال:
الأدب أكرم الجواهر طبيعةً، وأنْفسها قيمةً، يَرْفع الأحساب الوَضيعة، ويُفيد الرَّغائب الجليله، ويُعِز بلا عشيرة، ويُكثر الأنصار بغَيْر رزيَّة، فالبسوه حُلّة، وتَزَينُوه حِلْية، يُؤْنسكم في الوَحشة، ويجمع لكم القُلوب المختلفة.
ومن كلام علّي عليه السلام:
مَن حَلم ساد، ومن ساد استفاد، ومن استَحيا حُرم، ومن هاب خاب، ومَن طلب الرّآسة صَبر على السياسة؛ ومَن أبصر عَيْب نفسه عَمِيَ عن عَيب غيره، ومَن سلَّ سيف البَغْي قُتل به، ومن احتقر لأخيه بئراً وقَع فيها، ومَن نَسى زَلَّته استعظم زلّة غيره، ومن هَتَك حِجاب غيره اْنهتكت عورات بَيته، ومن كابر في الأمور عَطِب، ومن اقتحم اللُّجج غَرِق، ومن أعجب برأْيه ضَلَّ، ومن استغنى بعَقله زلَ، ومن تَجَبَّر على الناس ذَلَّ، ومن تَعمَّق في العَمَل مَلَّ؛ ومَن صاحَب الأنذال حُقِّر، ومن جالس العلماء وُقَر؛ ومن دَخل مَداخل السًوء اتُّهم؛ ومَن حَسَنُ خُلقه، سَهُلَت له طُرُقه؛ ومن حَسَّنَ كلامَه، كانت الْهَيْبة أمامَه؛ ومَن خَشي الله فاز؛ ومَن استقاد الجَهْل، تَرك طَرِيق العَدْل؛ ومَن عرف أجَله، قَصًر أمله؛ ثم أنشأ يقول:
البَسْ أخاك على عُيوبه
***
واسْتُر وغَطِّ على ذُنوبه
واصبر على بَهْتِ السَّفِيهِ
***
وللزَّمان على خُطوبه
ودَع الجوابَ تفضلاً
***
وكِل الظلومَ إلى حَسِيبه
وقال شَبِيب بن شَيبة:
اطلُبوا الأدب فإنّه مادًة للعَقْل؛ ودليل على المُروءة، وصاحب في الغُربة، ومُؤنس في الوَحشة، وحِلْية في المَجْلِس، " ويجمع لكم القلوب المختلفة " .
وقال عبدُ الملك بن مَروان لبَنِيه:
عليكم بطلب الأدب فإنكم إن احتجتم إليه كان لكم مالاً، وإن اسْتَغنيتم عنه كان لكمٍ جمالاً.
وقال بعضُ الحكماء:
اعلم أن جاهاً بالمال إنما يَصْحبك ما صَحِبَكَ المال، وجاهاً بالأدب غيرُ زائل عنك.
وقال ابن المقفَّع:
إذا أكرمك الناسُ لمالٍ أو لسُلطانٍ فلا يُعْجِبك ذلك، فإنّ الكرامة تزُول بزوالهما، ولكن ليُعْجبك إذا أكرموك لدِين أو أدب.
وقال الأحْنَف بن قَيس:
رأسُ الأدب المَنْطِق، ولا خَيْر في قوْل إلاِّ بِفِعْل، ولا في مال إلا بجُود، ولا في صَدِيق إلا بوَفاء، ولا في فِقْه إلا بوَرَع، ولا في صدق إلا بِنيّه.
وقال مَصقلة الزُّبيريّ:
لا يَستغني الأديب عن ثلاثة واثنن؛ فأما الثلاثة:
فالبلاغة والفصاحة وحُسن العِبارة، وأما الاثنان، فالعِلْم بالأثر والحِفْظ للخَبر.
وقالوا:
الحَسَب مُحتاجِ إلى الأدب، والمعرفة محتاجة إلى التَّجربة.
وقال بُزُرْجَمْهِر:
ما ورَّث الآباءُ الابناءُ شيئاً خيراً من الأدب، لأنّ بالأدب يَكْسِبون المال، وبالجهل يُتْلفونه وقال الفُضَيل بن عِياضِ:
رأسُ الأدب مَعْرِفة الرجل قَدْره.
وقالوا:
حُسْن الخُلق خيْر قَرِين، والأدب خير ميراث، والتَوفيق خير قَائد.
وقال سُفيان الثَّوريّ:
مَن عَرَف نفسَه لم يَضِرْه ما قال الناس فيه.
وقال أنو شِرْوان للموبذ، وهو العالم " بالفارسيّة " :
ما كان أفضلُ الأشياء؟ قال:
الطبيعة النقيّة تَكْتفي من الأدب بالرائحة، ومن العِلْم بالإشارة، وكلما يَموت البَذْر في السِّباخ، كذلك تموت الحِكْمة بمَوْت الطبيعة، قال له:
صدقت، ونحن لهذا قَلّدناك ما قلّدناك.
وقيل لارْدَشِير:
الأدبُ أغلبُ أم الطَّبيعة؟ فقال:
الأدب زِيادة في العَقل، ومَنْبهة للرأيٍ، ومِكْسبة للصواب، والطَّبيعة أملك، لأن بها الاعتقاد، ونَماء الغِراسة، وتَمام الغِذاء.
وقيل لبعض الحُكماء:
أي أعون للعقل بعد الطٌبيعة المَولودة؟ قال:
أدب مُكْتسب.
وقالوا:
الأدب أدَبان:
أدبُ الغَريزة وهو الأصل، وأدب الرِّواية وهو الفرع، ولا يتفرَّع شيء إلا عن أصله، ولا يَنْمى الأصل إلا باتصال المادة.
وقال الشاعر:
" ولم أرَ فَرْعًا طال إلا بأصْله
***
ولم أرَ بَدْء العِلْم إلا تعلُّما
وقال حَبيب " :
وما السيفُ إلا زُبْرَةٌ لو تركتَه
***
على الحالة الأولى لما كان يَقْطعُ
وقال آخر:
ما وَهب اللهّ لامرىء هِبةً
***
أفضلَ من عَقْله ومن أَدبهْ
هُما حياةُ الفَتى فإن فًقِدَا
***
فإنّ فَقْد الحَياة أحسنُ به
وقال ابن عبّاس:
كَفَاك من عِلْم الدِّين أن تَعْرف مالا يَسعك جهلُه، وكفاكَ من عِلْم الأدب أن تَرْوي الشاهد والمثاللَ.
قال ابن قُتيبة:
إِذا أردتَ أن تكون " عالماً فاطلب فَنّا واحداً؛ وإذ أردتَ أن " تكون أديباً فتفنَّن في العلوم.
وقالت الحُكماء:
إذا كان الرجل طاهرَ الأثواب، كثيرَ الآداب، حسنَ المذْهب، تأدَّب بأدبه وصَلُح لصلاحه جميع أهله وولده. قال الشاعر:
رأيتُ صلاحَ الَمرْء يِصلح أهلَه
***
ويُفسدهم ربُّ الفَساد إذا فَسَدْ
يُعظَّم في الدنيا لِفَضل صَلاحه
***
وحْفَظ بعد الموت في الأهْل والوَلد
وسُئل ديُوجانِس:
أي الخِصال أحمدُ عاقبة؟ قال:
الإيمانُ بالله عزّ وجلّ، وبرّ الوالدين، ومحبّة العُلماء، وقبولُ الأدب.
رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
مَن لا أدب له لا عقل له.
وقالوا:
الأدب يَزيدُ العاقلَ فضلاً ونَباهة، ويُفيده رقّة وظَرفاً.
في رقة الأدب قال أبو بكر بن أبي شَيْبة:
قيل للعبّاس بن عبد المطّلب:
أنت أكبرُ أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:
هو أكبر منّي وأنا أسنّ منه.
وقيل لأبي وائل:
أيكما أكبر، أنتَ أم الرَّبيع بن خُثَيم؟ قال:
أنا أكبر منه سنًا، وهو أكبر منّي عقلاً.
وقال أبان بنُ عثمان لطُويس المغنّى:
أنا أكبر أم أنت؟ قال:
جُعلتُ فداك، لقد شَهِدْتُ زفاف أمك المُباركة " على أبيك الطيّب. انظر إلى حِذْقه ورقّة أدبه كيف لم يَقُل أمك الطيبة إلى أبيك المبارك " .
وقيل لعُمر بن ذَرّ:
كيف برّ ابنك بك؟ قال:
ما مَشَيت نهاراً قطُّ إلا مشى خَلْفي، ولا ليلاً إلا مَشى أمامي، ولا رَقى عِلّية وأنا تحته.
ومن حديث عائشة، قالت:
ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبجل أحداً تبجيلَه لعمّه العباس.
وكان عمر وعثمان إذا لَقِيا العباس نَزلا إعظاماً له، إذا كانا راكبَين.
الرياشيّ عن الأصمعيّ قال:
قال هارون الرشيد لعبد الملك بن صالح:
هذا منزلُك؟ وقد تقدم هذا الخبر في الخبر الذي فيه مخاطبة الملوك، وكذلك قول الحجَّاج للشعبيّ:
كم عَطاؤك؟ ومن قولنا في رقة الأدب:
أَدبٌ كمثْل الماء لو أفرغتَه
***
يوما لسال كما يَسيلُ الماءُ
أحمد بن بّي طاهر قال:
قلتُ لعليّ بن يحيى، ما رأيتُ أكملَ أدبا منك؛ قال:
كيف لو رأيتَ إسحاق بن إبراهيم؟ فقلتُ ذلك لإسحاق بن إبراهيم؛ قال:
كيف لو رأيتَ إبراهيم بن المهديّ؟ فقلتُ ذلك لإبراهيم؛ فقال:
كيف لو رأيت جعفر بن يحيى؟
وقال عبدُ العزيز بِن عُمر بن عبد العزيز:
قال لي رَجاءُ بن حَيْوة:
ما رأيتُ أكرمَ أدباً ولا أكرم عِشْرَةً من أبيك، سَمَرتُ عنده ليلة، فبينا نحن كذلك إذ عَشى المصباحُ ونام الغلام، فقلتُ:
يا أمير المؤمنين، قد عَشى المصباح ونام الغلام، فلو أذنتَ لي أصلحتُه، فقال:
إنه ليس من مروءة الرجل أن يَسْتخدم ضيفَه، ثم حطّ رداءه عن مَنْكِبيه، وقام إلى الدَبَّة فصبَّ من الزيت في المصباح وأشْخص الفَتيلة، ثم رَجع " وأخذ رداءه وقال:
قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر.
العتبي عن أبيه قال:
صوَت رجل عند عمر بن الخطاب في المسجد، فلما كانت الصلاة قال عمر:
عَزَمتُ على صاحب الصوت إلا قم فتوضّأ " ؟ فلم يَقُم أحدٌ. فقال جريرُ بن عبد اللهّ:
يا أميرَ المؤمنين، اعزم علينا كلِّنا أن نَقوم فنتوضأ؟ قال:
صدقتَ، ولا عَلِمتُك إلا سيّدا في الجاهليّة، فقيها في الإسلام، قُوموا فتوضئوا.
الرياشي عن الأصمعي قال:
حدَّثني عُثمان الشحَّام، قال:
قلتُ للحسن:
يا أبا سعيد، قال:
لَبَّيك؛ قلت:
أتقول لي لَبّيك؟ قال:
إني أقولها لخادمي.
وقال الشاعر:
يا حبذا حين تُمسى الريحُ باردةً
***
وادي أًشيٍَ وفِتْيانٌ به هُضمُ
مُخدَمون كِرامٌ في مجالسهم
***
وفي الرّحال إذا جَربتَهم خَدم
وما أصاحب من قوم فأذْكُرهم
***
إلا يَزيدُهم حُبّا إليَ هُم
الأدب في الحديث والاستماع وقالت الحُكماء:
رأسُ الأدب كلِّه حُسنُ الفَهم والتفهّم والإِصغاء للمتكلّم.
وذكر الشّعبي قوماً فقال:
ما رأيتُ مثلَهم أسدَّ تَنَاوباَ في مَجلس، ولا أحسن فهما من مُحدِّث.
وقال الشعبي، فيما يَصِف به عبدَ الملك بن مروان:
والله ما علمتُه إلا آخذاً بثلاث، تاركاً لثلاث آخذاً بحُسن الحدِيث إذا حدث، وبُحسن الاستماع إذا حُدِّث، وبأيسر المؤونة إذا خُولف، تاركاً لمجاوبة اللئيم، ومماراة السَّفيه، ومُنازعة اللجُوج.
وقال بعض الحُكماء لابنه:
يا بُني، تعلِّم حُسن الاستماع كما تتعلّم حُسن الحديث، وليعلم الناسُ أنك أحرصُ على أن تَسمع منك على أن تقول، فاحذرْ أن تُسرع في القَوْل فيما تُحِبّ عنه الرجوع بالفِعْل، حتى يعلم الناسُ أنك على فِعْل ما لم تَقُل منك إلى قَوْل ما لم تَفْعل.
وقالوا:
من حُسن الأدب أن لا تُغالب أحداً على كلامه، وإذا سُئِل غيرُك فلا تُجب عنه، وإذا حَدًث بحديث فلا تُنازعه إياه، ولا تَقْتحم عليه فيه، ولا تُره أنك تعَلمه، وإذا كلّمت صاحبك فأخذتْه حُجّتك فحسِّن مخرج ذلك عليه، ولا تُظهر الظَّفر به، وتَعلَم حُسنَ الاستماع، كما تعلم حُسنَ الكلام.
وقال الحسنُ البَصريّ:
حَدِّثوا الناسَ ما أقبلوا عليكم بوجُوههم.
وقال أبو عبًاد " الكاتب " :
إذا أنكر المُتكلِّم عين السامع فَلْيسأله عن مَقاطع حديثه، والسبَب الذي أُجري ذلك له؛ فإن وَجده يقف على الحقّ أتم له الحديث، وإلاّ قطعه عنه وحَرمه مُؤانسته، وعَرّفه ما في سُوء الاستماع من الفُسُولة والحِرْمان للفائدة.
الأدب في المجالسة ومن حديث أبي بكر بن أبي شَيبة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
لا يَقم الرجلُ " للرجل " عن مجلسه ولكن ليُوسع له.
وكان عبد الله بن عمر إِذا قام له الرجلُ عن مجلسه لم يجلس فيه؛ وقال:
لا يقم أحد لأحد عن مجلسه، ولكن افْسَحوا يَفسح الله لكم.
أبو أمامة قال:
خرج إلينا النبي صلى الله عليه وسلم فقمنا إليه؛ فقال:
لا تقوموا كما يقوم العجم لعُظمائها. فما قام إليه أحد منّا بعد ذلك.
ومن حديث ابن عمر:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
إن خرجتُ عليكم وأنتم جُلوس فلا يقومنَّ أحدٌ منكم في وجهي، وإن قمت فكما أنتم، وإن جلست فكما أنتم، فإنّ ذلك خلق من أخلاق المشركين.
وقال صلى الله عليه وسلم:
الرّجل أحقُّ بصَدْر دابتَّه وصدْر مجلسه وصَدْر فراشه، ومن قام من مجلسه وَرَجع إليه فهو أحقّ به.
وقال صلى الله عليه وسلم:
إذا جلس إليك أحدٌ فلا تَقم حتى تستأذنه وجَلس رجلٌ إلى الحسن بن عليّ عليهما الرِّضوانُ، فقال له:
إنك جلستَ إلينا، ونحن نريد القيام؛ أفتأذَنُ؟ وقال سعيدُ بنُ العاص:
ما مددتُ رجْلي قَطًّ بين يَدي جليسي، ولا قمتُ " عن مجلسي " حتى يقوم.
وقال إبراهيمُ النِّخَعيّ:
إذا دخل أحدُكمِ بيتاً فَلْيَجْلس حيثُ أجلسه أهلُه.
وطَرح أبو قِلابة لِرَجُل جَلَس إليه وسادةً فرَدَّها؟ فقال:
أَمَا سَمِعْتَ الحديثَ؛ لا تَردَّ على أخيك كرامَته؟ وقال عليّ بن أبي طالب رضوانُ الله عليه:
لا يأبى الكرامةَ إلا حِمار.
وقال سَعِيد بن العاص:
لجليسي عَلَيَّ ثلاثٌ:
إذا دنَا رَحَّبْتُ به، وإذا جَلَس وَسَّعتُ له، وإذا حَدًث أقبلْت عليه. وقال:
إني لأكره أن يمرّ الذُّباب بجليسي مخافةَ أن يُؤذِيه.
الهيثم بن عديّ " عن عامر الشَّعبي " قال:
دَخل الأحنفُ بنُ قيس على مُعاوية فأشار إليه إلى وِسادةِ فلم يَجلس عليها، فقال له:
ما مَنعك يا أَحْنف أن تَجلِس على الوسادة؟ فقال:
يا أمير المُؤمنين، إنَّ فيما أَوصى به قَيسُ بن عاصم ولدَه أن قال:
لا تَسْع للسُّلطان حتى يَمَلَّك، ولا تَقْطعه حتى يَنْساك، ولا تَجْلِس له على فراش ولا وِسادة، واجعل! بَينك وبينه مَجْلسَ رجل أو رجلين.
وقال الحسن:
" مُجالسةُ الرجل من غير أن يُسأل عن اسمه واسم أبيه مُجالسة النوكى.
ولذلك قال شَبيب بن شَيْبة لأبي جعفر، ولَقِيه في الطّواف وهو لا يَعرفه، فأَعجبه حسن هَيْئته وسَمته:
أصلحك الله، إنِّي أحب المعرفةَ، وأجلَّك عن المسألة؟ فقال:
أنا فُلان بنُ فلان.
قال زياد:
ما أتيت مجلساً قطّ إلا تركتُ منه ما لو جلستُ فيه لكان لي؛ وتَرْك ما لي أحبُ من أخذ ما ليس لي.
وقال:
إيّاكَ وصدور المجالس وإن صَدَّرك صاحبُها، فإنها مجالس قُلَعة.
وقال " الشعبي " :
لأن أدعي مِن بُعْد إلى قُرْب أحبُّ إليَّ من أقصى من قُرْب إلى بعد.
وذكروا أنه كان يوماً أبو السَّمراء عند عبد الله بن طاهر، وعنده إسحاقُ ابن إبراهيم، فاستدعى عبد الله إِسحاقَ فَناجاه بشيء، وطالت النَجوى بينهما. قال:
فاعترَتْني حَيْرَةٌ فيما بين القُعود على ما هما عليه والقيام، حتى انقطع ما بينهما وتنَحّى إسحاق إلى مَوْقفه، ونظر عبد الله إلي، " يا أبا السمراء "
إذا النَجيان سرًا عنك أمرهَما
***
فانزحْ بِسَمْعك تَجْهلْ ما يَقُولانِ
ولا تُحَملهما ثِقْلاً لخوفهما
***
على تَناجِيهما بالمجلس الدَّاني
فما رأيتُ أكرَم منه، ولا أرفق أدباً، ترك مُطالبتي في هَفْوتي بحق الأمراء، وأدَبني أدبَ النُظراء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
إنما أحدُكم مرآة أخيه، فإذا رأى عليه أَذىَ فليمطه عنه، وإذا أخذ أحدُكم على أخيه شيئاً فليقل:
لا بك السُّوء، وصَرَف اللهّ عنك السُّوء.
وقالوا:
إذا اجتمعت حُرْمتان، أسقطت الكبرى الصُّغرى:
وقال المُهلَب بن أبي صفرة:
العيْش كلّه في الجَليس المُمْتع.
الأدب في المماشاة وَجه هِشامُ بن عبد الملك ابنه على الصَّائفة، ووجَّه معه ابن أخيه، وأوصى كلَّ واحد منهما بصاحبه؛ فلما قَدِما عليه، قال لابن أخيه:
كيف رأيتَ ابن عمّك؟ فقال:
إن شئت أجملت، وإن شئت فسّرْتُ؛ قال:
بل أجمل؛ قال:
عرضتْ بيننا جادة فتركها كلُّ واحد منَّا لصاحبه فما رَكِبناها حتى رَجعنا إليك.
وقال يحيى بن أكثم:
ما شيتُ المأمون يوماً من الأيام في بُستان مُؤْنسة بنت المَهديّ، فكنت من الجانب الذي يَسترٌه من الشَمس، فلما انتهى إلى آخره وأراد الرجوع، وأردتُ أن أدور إلى الجانب الذي يَسْترٌه من الشمس، فقال:
لا تفعل، ولكن كُن بحالك حتى أسترك كما سَتَرْتني، فقلت:
يا أمير المؤمنين، لو قدرتُ أن أقيك حَرَّ النار لفعلتُ فكيف الشمسُ؟ فقال:
ليس هذا من كرم الصُحبة، ومَشى ساتراً لي من الشّمس كما سترته.
وقيل لعُمَر بن ذرّ:
كيف برُ ابنك بك؟ قال:
ما مشيتُ نهاراً قط إلا مَشى خَلفي، ولا ليلاً إلا مشى أمامي، ولا رَقِي سَطحاً وأنا تحته.
وقيل لزياد:
إنك تَستخلص حارثة بن بَدْر وهو يُواقع الشراب؛ فقال:
وكيف لا أَسْتَخْلصه وما سألته عن شيء قط إلا وجدتُ عنده منه عِلْماً، ولا استودعتُه سِرّاً قطْ فضيّعته، ولا راكبني قطّ فمست رُكْبتي رُكْبته.
محمد بن يزيد بن عُمر بن عبد العزيز قال:
خرجتُ مع موسى الهادي أمير المُؤمنين من جُرْجان؛ فقال لي:
إمّا أن تَحملين، وإمّا أن أحْملك، فعلمتُ ما أراد، فأنْشدتُه أبياتَ ابن صِرْمة:
أوصيكم بالله أولَ وَهْلةٍ
***
وأَحْسابِكِم والبرُّ باللّه أَوَّلُ
وإنْ قومُكم سادوا فلا تَحْسُدوهم
***
وإن كُنتم أهلَ السِّيادة فاعْدِلوا
وإن أنتمُ أعْوَزْتُمُ فتَعفَفَّوا
***
وإن كان فَضْلُ المال فيكم فأَفْضِلوا
وإنْ نزلتْ إحدى الدَواهي بقَوْمكم
***
فأنْفُسَكم دون العَشيرة فاجعلوا
وإنّ طَلبوا عُرْفاً فلا تَحْرموهمُ
***
وما حَمَّلوكم في المُلمّات فاحملوا
قال:
فأمر لي بعشرين ألف دِرْهم.
وقيل:
إن سعيد بن سَلْم راكب موسى الهادي، والحَربةُ بيد عبد الله بن مالك، وكانت الريح تَسْفي التراب، وعبد الله يَلْحظ موضع مَسير موسى، فيتكلَّف أن يسير على مُحاذاته، وإذا حاذاه ناله ذلك التراب، فلما طال ذلك عليه أقبلَ على سَعيد بن سَلْم، فقال:
أما ترى ما نَلقى من هذا الخائن؟ قال:
واللّه يا أميرَ المؤمنين ما قَصَّر في الاجتهاد، ولكن حُرِم التوفيق.
باب السلام والإذن قال النبي صلى الله عليه وسلم:
أَطِيبوا الكلام، وأفشوا السلام، وأطعِموا الأيتام، وَصَلُّوا بالليل والناسُ نِيام.
وقال صلى الله عليه وسلم:
إن أبخل الناس الذي يَبخل بالسلام.
وأتى رجلٌ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
عليك السلامُ يا رسول الله؛ فقال:
لا تقُل:
عليك السلام، فإِنها تحيِّة الموتى، وقل:
السلام عليك.
وقال صاحبُ حَرس عمر بن عبد العزيز:
خرج علينا عمرُ في يوم عِيد وعليه قميصُ كَتَّان وعِمامة؛ على قلنسوة لاطئة، فقُمْنا إليه وسَلّمنا عليه؛ فقال:
مَه، أنا واحدٌ وأنتم جماعة، السلامُ عليّ والردُّ عليكم. ثم سلّم ورَددنا عليه ومشى، فمشينا معه إلى المسجد.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
يُسَلِّم الماشي على القاعد، والرَّاكب على الراجل، والصًغير على الكبير.
ودخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:
أبي يُقْرِئك السلام؛ فقال:
عليك وعلى أبيك السلام.
إبراهيم عن الأسود قال قال " لي " عبد الله بن مسعود:
إذا لقيتَ عُمرَ فاقرأ علية السلام قال:
فلقيتُه فأَقْرأْته السلام؛ فقال:
عليك وعليه السلام.
دخل مَيْمون بن مِهْران على سُليمان بن هِشام، وهو والي الجزيرة، فقال:
السلام عليكم؛ فقال له سُليمان:
ما مَنعك أن تُسَّلِّم بالأمرة؟ فقال:
إنما يُسلَّم على الوالي بالإمرة إذا كان عنده الناس.
أبو بكر بن أبي شَيْبة قال:
كان الحَسن وإبراهيم ومَيمون بن مِهران يَكْرهون أن يقول الرجلُ:
حيَّاك الله حتى يقول السَّلام.
وسُئل عبد الله بن عُمر عن الرجل يَدْخل المَسجدَ أو البيتَ ليس فيه أحد؛ قال يقول:
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
ومر رجل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يبَول، فسلّم عليه، فلم يرد عليه السلام.
وقال رجلٌ لعائشة " رضي الله عنها " :
كيف أصبحت " يا أم المؤمنين " ؟ قالت:
بنِعْمة من اللّه.
وقال رجل لشُرَيح:
كيف أصبحتَ؟ " قال:
بنعمة " ومدَ إصبعه السَّبابة إلى السماء.
وقيلِ لمحمد بن وكيع:
كيف أصبحت؟ " قال:
أصبحتُ طويلاً أملى، قصيراً أجلى، سيئاً عملي.
وقيل لسًفْيان الثَّوْري:
كيف أصبحتَ؟ قال:
أصبحتُ في دار حارتْ فيها الأدِلاء.
واستأذن رجلٌ من بني عامر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال:
أَلِجُ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه:
اخرُج إلى هذا فعَلِّمه الاستئذان، وقُل له يقول:
السَّلام عليكم، أدْخُل؟ جابر بن عبد الله قال:
استأذنتُ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
مَن أنت؟ فقلت:
أنا؛ قال:
أنا أنا.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
الاستئذان ثلاثة، فإن أُذن لك وإلاّ فارجع.
وقال عليُّ بن أبي طالب رضى الله عنه:
الأولى إذْن، والثانية مؤامرة، والثالثة عزيمة، إمّا أن يأذنوا وإمّا أن يردّوا.
باب في آداب الحكماء والعلماء
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب الياقوتة في العلم والأدب ﴿ 67 ﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞
باب في آداب الحكماء والعلماء