القناعة باب القناعة
القناعة باب القناعة
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
من أصبح وأَمسى آمناً في سربه مُعَافي في بَدنه عنده قوتُ يومه كان كمن حِيزَتْ له الدُّنيا بحذافيرها. والسِّرب:
المَسْلَك؛ يقال:
فلان واسع السِّرب، يعني المسلك والمذهب.
وقال قيسُ بيت عاصم:
يا بَنيّ:
عليكمِ بحِفْظ المال فإنه مَنْبَهةٌ للكريم، ويُسْتَغْنى به عن اللئيم. وإياكم والمَسْألَة، فَإنها آخِر كسْب الرَّجُل. وقال سعد ابن أبي وقّاص لابنه:
يا بُني، إذا طلبتَ الغِنَى فاطلبه بالقَناة، فإِنها مالٌ لا يَنْفَد؛ وإياك والطمعَ، فإنه فقْر حاضر؛ وعليك باليأْس، فإِنك لا تَيْأَس من شيء قطُّ إلا أغناك اللهّ عنه. وقالوا:
الغَنيُّ من استغنى باللّه، والفقيرُ ما افتقر إلى الناس. وقالوا:
لا غِنى إلا غني النّفس. وقيلَ لأبي حازم:
ما مالُك؟ قال:
مالان، الغِنَى بما في يدي عن الناس، وَاليأسُ عما في أيدي الناس. وقيل لآخر:
ما مالُك؟ فقال:
التجمُل في الظاهر، والقَصْد في الباطن. وقال آخر:
لا بُد مما ليس منه بدّ اليَأْس حُرٌ والرجاءُ عَبْدُ وليس يُغْني الكَدَ إلا الجَدّ.
وقالوا:
ثمرةُ القناعة الرَّاحة، وثمرةُ الحِرْص التعب. وقال البُحْتريُّ:
إذا ما كان عندي قُوتُ يوم
***
طَرَحْتُ الهمَّ عنّي يا سعيدُ
ولم تَخْطرُ هُمِوم غدٍ ببالِيً
***
لأنَ غَداً له رِزْقِّ جَدِيد
وقال عُرْوَة بنُ أذَيْنَة:
وقد عَلِمتُ وخَيرُ القَوْل أصْدَقُه
***
بأنَ رِزْقِي وَإنْ لم يَأْتِ يَأْتيني
أسْعى إليه فيعييني تطلبه
***
ولو قَعَدْتُ أتاني لا يُعَنِّيني
وَوَفد عُروة بن أذَينة على عبد الملك بن مَرْوَان في رجال من أهل المدينة، فقال له عبد الملك:
أَلستَ القائلَ يا عُرْوَة؟ أسْعى إليه فَيُعْييني تَطلبه ؟ فما أراك إلا قد سعيتَ له، فخرج عنه عُروة وشَخص من فَوْرِه إلى المدينة. فأفتقده عبدُ الملك، فقيل له:
توجّه إلى المدينة، فبَعث إليه بألف دينار. فلما أتاه الرسول قال:
قُلْ لأمير المؤِمنين:
الأمرُ على ما قلتُ، قد سَعَيتُ له، فأعياني تطلُّبه، وقعدت عنه فأتاني لا يُعنيني.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
إِنّ رُوح القُدس نَفَثَ في رُوعِي:
إِنَّ نفساً لن تموت حتى تَسْتَوْفي رِزْقَهَا، فاتَّقوا الله وأجملوا في الطَّلب. وقالَ تعالى فيما حكى عن لُقمان الحكيم:
" يا بنيَّ إنّها إِنْ تَكُ مِثْقًالَ حًبّةٍ مِن خَرْدَلٍ فَتكُنْ في صَخْرَةٍ أوْ في السَّمَوَاتِ أوْ في الأرْض يَأْتِ بها الله إِنّ الله لَطيفٌ خبِير " .
وقال الحسنُ:
ابن آدمَ، لستَ بسابقٍ أجلَك، ولا ببالغٍ أمَلَك، ولا مَغْلوب على رِزْقِكَ، ولا بمرزوق ما ليس لك، فعلامَ تَقْتل نفسَك؟ وقال ابن عبد ربه:
قد أخذتُ هذا المعنى فنظمتُه في شعر فقلت:
لستُ بقاض أملِى
***
ولا بعَادٍ أجَلي
ولا بمَغْلُوب عَلَى الرًّزْ
***
قِ الذي قُدِّرَ لَي
ولا بِمُعطًىً رِزْقَ غَي
***
ري بالشقا والعَمَلَ
فليتَ شِعري ما الذي
***
أدْخَلني في شُغُلي
وقال آخر:
سيكون الذي قًضي
***
غضب المرءُ أَمْ رَضي
وقال محمودٌ الورَّاق:
أما عجبٌ أن يَكْفُلَ بُعَضَهُم
***
ببعضٍ فيرضى بالكفِيل المُطالِبُ
وقد كفل اللهّ الوَفي برزقه
***
فلم يَرْضَ والإنسانُ فيه عجائب
عليمٌ بأنّ الله مُوفٍ بوَعْده
***
وفي قَلْبِه شَكٌّ على القَلْبِ دائب
أبَى الجهل إلا أن يَضرُّ بعلْمِه
***
فلم يُغنِ عَنْه عِلْمُه والتجارب
وله أيضاً:
أتطلُبُ رِزْقَ اللهّ من عند غيْره
***
وتُصْبِحُ من خوْفِ العواقِبِ آمنا
وترْضى بعَرّافٍ وَإِنْ كان مُشرْكَاً
***
ضَميناً ولا تَرْضى بربِّكَ ضامنا
وقال أيضاً:
غِنىَ النَّفْس يغْنيها إذا كنْت قانِعاً
***
وليسَ بمُغْنِيك الكثيرُ من الحِرْص
وإنّ اعتقادَ الهمِّ للخير جامعٌ
***
وقِلْةَ هَمِّ المَرْءِ تَدْعًو إلى النَّقص
وله أيضاً:
مَن كان ذا مالٍ كثير وَلم
***
يَقْنَعْ فَذَاك المُوسِرُ المعْسِرُ
وكل من كان قَنُوعاًً وإن
***
كان مقلاً فَهُو المكثر
الفَقْرُ في النفْس وفيها الغِنىَ
***
وفي غِنَى النَفس الغِنى الأكبر
وقالَ بَكْر بن حَمّاد:
تبارك مَن ساسَ الأمورَ بِعِلْمه
***
وذَلَّ له أهلُ السّموات والأرْض
ومنْ قسِمَ الأرزاق بين عِباده
***
وفَضّلَ بَعضَ النَّاس فيها على بعض
فمن ظَنَّ أنّ الحِرْص فيها يَزيده
***
فقُولًوا له يزداد في الطول والعَرْض
وقال ابن أبي حازم:
ومًنْتَظِر للموت في كل ساعةٍ
***
يَشِيدُ وَيِبْني دائباً ويُحَصِّن
له حينَ تَبْلُوه حقيقةُ مُوقِنِ
***
وأفعالُه أفْعَالُ مَن ليس يُوقِن
عَيانٌ كإِنكارٍ وَكالجهْل عِلْمُهَ
***
يَشُكّ به في كلِّ ما يتيقن
وقال أيضاً:
اضرع إلى اللهّ لا تَضْرعَ إلى النَّاس
***
واقْنَعْ بِيأسٍ فإنّ العِزَّ في اليَاس
واستغنِ عن كل ذي قربى وذي رَحِم
***
إنّ الغَنِيَّ مَنِ استغنى عن الناس
وَله أيضاً:
فلا تَحْرِصَنّ فإنّ الأمور
***
بكَفِّ الإله مقَاديرُها
فليسَ بآتيك منْهيهاَ
***
ولا قاصرٍ عنك مأمُورها
وله أيضاً:
كَمْ إلى كم أنت للحِر
***
ص وللآمال عبْد
ليس يُجْدِي الحِرْصُ وَالسع
***
يُ إذا لم يك جد
ما لما قد قَدَّرَ الل
***
ه من الأمر مرد
قد جرى بالشرِّ نَحْسٌ
***
وجَرَى بالخير سعد
وجرى الناسُ على جَر
***
يهما قبل وبعد
أَمِنوا الدهر وما للدَ
***
هر والأيام عهد
غالَهُم فآصطَلَم الجمْ
***
ع وأفنى ما أعدوا
إنّها الدنيا فلا تح
***
فل بها جزرٌ ومد
وقال الأضبَطُ بن قُرَيع:
ارْضَ من الدهر ما أتاك به
***
مَنْ يَرْضَ يوماً بعَيشِهِ نَفَعَهْ
قد يَجْمع المال غيرُ آكله
***
وَيأكلُ المالَ غيرُ مَنْ جَمَعه
وقال مُسلم بن الوليد:
لن يبطئ الأمرُ ما أمَلْتَ أوبتَه
***
إذا أعَانَك فيه رِفْقُ مُتَّئِدِ
والدَهْرُ آخِذُ ما أعطى مًكَدِّرُ ما
***
أصْفي وَمُفْسِدُ ما أهْوَى له بيَد
فلا يَغُرَّنْك من دهرٍ عَطيَّتُهُ
***
فليس يترُكُ ما أعطى على أحد
وقال كُلْثوم العَتَابي:
تَلُومُ على تَرك الغنَى باهليَّةٌ
***
لوَى الدهر عنها كلَّ طِرْفٍ وتالِد
رَأتْ حولها النسوانَ يرفُلْنَ في الكُسَا
***
مقَلَّدَةً أجيادُها بالقلائد
يَسُرَكِ أني نِلْتُ ما نال جَعْفرٌ
***
وما نال يحيى في الحياة ابن خالد
وأنّ أمير المؤمنين أعضّني
***
مُعَضهما بالمُرهفات الحدائد
ذَرِيني تَجِئْني ميتتي مُطمَئنَّه
***
ولم أتجشم هول تلك الموارد
فإنّ الذي يَسْمو إلى الرتب العُلا
***
سَيُرْمَى بألوان الدُّهى والمكايد
وَجَدْتُ لَذَاذات الحياة مَشوبَةً
***
بمُسْتودعات في بطون الأسَاوِد
وقال:
حتّى متى أنا في حِلّ وتَرْحال
***
وطُول شُغلٍ بإدْبار وإِقْبَال
ونازح الدار ما ينفكُّ مُغتَرباً
***
عن الأحَبِّة ما يَدْرُون ما حالي
بِمَشْرق الأرض طوْراً ثم مَغْرِبَها
***
لا يَخْطُر الموت من حِرْص على بالي
ولوَ قَنعْتُ أتاني الرِّزْقُ في دَعَةٍ
***
إنّ القُنُوع الغِنَى لا كثرةُ المال
وقال عبدُ الله بن عباس:
القَناعة مال لا نَفَاد له. وقال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه:
الرِّزق رِزْقان:
فرِزْقٌ تطلبه ورِزْقٌ يطلبك، فإن لم تأته أتاك.
وقال حبيب:
فالرِّزق لا تَكْمَدْ عليه فإنه
***
يأتي ولم تَبْعث إليه رسولا
وفي كتاب للهند:
لا ينبغي للمُلتمس أن يَلْتمس من العيش إلا الكفَافَ الذي به يَدْفع الحاجة عن نَفْسه، وما سِوىَ ذلك إنما هو زيادة في تَعَبه وغَمِّه. ومن هذا قالت الحكماء:
أقلُّ الدنيا يَكْفي وأكثرُها لا يَكفي. وقال أبو ذُؤَيب:
والنَّفْسُ راغبة إذَا رغبتها
***
وإذا تُرَدُّ إلى قليل تَقْنَعُ
وقال المسيح عليه السلام:
عجباً منكم، إنكم تعملون للدُّنيا وأنتم تُرزَقُون فيها بلا عمل، ولا تَعْملون للآخرة و " أنتم " لا تُرْزَقون فيها إلا بالعمل. وقال الحسن:
عَيَرَت اليهود عيسى عليه السلام بالفَقْر، فقالت:
مِن الغِنَى أتيتم. أخذ هذا المعنى محمودٌ الورَّاق فقال:
يا عائبَ الفَقْرِ ألاَ تَزْدَجِر
***
عَيْبُ الغِنَى أكثَرُ لو تَعْتَبِرْ
من شرًف الفَقْر ومن فَضْله
***
عَلَى الغِنَى إن صَحَ منك النظر
أنك تَعْصى كي تنالَ الغِنَى
***
وليس تَعصى الله كي تَفْتقِر
سُفيان عن مُغيرة عن إبراهيم قال:
كانوا يَكرِهون الطلب في أطارف الأرض. وقال الأعمش:
أعطاني البُنَانيُّ مَضَارِبه أخرُج بها إلى ماهٍ، فسألتُ إبراهيم، فقال لي:
ما كان يَطْلبون الدنَيا هذا الطلب. وبين ماهٍ وبن الكوِفة عشرةُ أيام. الأصمعيُّ عن يُونس بن حَبيب قال:
ليس دون الإيمان غِنًىِ ولا بعده فقْر. قيل لخالد بن صَفْوان:
ما أصْبرَك عَلَى هذا الثَوْب " الخَلَق؟ قال:
رُبَ مَمْلولٍ لا يُسْتطاع فِرَاقه.
وكتب حكيم إلى حكيم يشكو إليه دهرَه:
إنه ليس من أحد أنْصَفه زمانُه فتصرفت به الحالُ حسب استحقاقه، وإنك لا تَرَى الناسَ إلا أحدَ رجلين:
إمَا مُقدَّم أخّره حظه، أو متأخِّر قدَّمَه جَدُّه، فارضَ بالحال التِي أنت عليها وإن كانت دون أملك واستحقاقك اختياراً، وإلا رضيت بها اضطراراَ. وقيل للأحْنف بن قيس:
ما أصبرك على هذا الثوب " ، فقال:
أحقِ ما صُبِر عليه ما ليس إلى مُفارقته سَبيل.
" قال الأصمعيُّ:
رأيت أعرابيةَ ذات جمال تسأل بمنى، فقلت لها:
يا أمَة اللهّ، تسألين ولك هذا الجمال؟ قالت:
قدَرً الله فما أصنع؟ قلت:
فمن أين معاشكم؟ قالت:
هذا الحاج، نَسْقيهم ونغسل ثيابهم؟ قلت:
فإذا ذهب الحال فمن أين؟ فنظرت إليّ وقالت:
يا صَلْت الجبين، لو كنّا نعيش من حيث نعلم ما عِشْنا " . وقيل لرجلٍ من أهل المدينة:
ما أصْبرَك على الخُبْز والتَّمْر؟ قال:
ليتَهما صبرَا عليّ.
الرضا بقضاء اللّه
قالت الحُكماء:
أصلُ الزُهد الرِّضا عن اللّه. وقال الفُضَيل بن عِياض:
استَخيروا الله ولا تتخيروا عليه، فرُبما اختار العبدُ أمرًا هلاَكُه فيه. وقالت الحكماء:
رُبَّ مَحْسود على رَخاء هو شَقاؤه، ومَرْحُوم من سُقم هو شِفاؤه، ومَغْبُوط بنِعْمَة هي بَلاَؤُه. وقال الشاعر:
قد ينعِم الله بالبَلْوَى وإن عَظُمَت
***
وَيبْتَلِى الله بَعْضَ القوم بالنِّعَم
" وقال بعضُهم:
خاطَبني أخٌ من إخواني وعاتبني في طلب الرُتب، فأنشدته:
كم افتقرتُ فلم أَقْعُد على كَمَدِ
***
وكم غَنِيتُ فلم أكبر على أحدِ
إنَي آمرؤ هانت الدنيا عليّ فما
***
أشتاق فيها إلى مال ولا وَلَدِ
وقالوا:
من طَلب فوق الكفاية رجع من الدَّهر إلى أبعد غاية " .
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب الزمردة في المواعظ والزهد ﴿ 26 ﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞
القناعة باب القناعة القناعة باب القناعة