باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع
باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع
:2896- قَوْله: «إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ أَهْل خَيْبَر بِشَطْرِ مَا يَخْرُج مِنْهَا مِنْ ثَمَر أَوْ زَرْع» وَفِي رِوَايَة: «عَلَى أَنْ يَعْتَمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالهمْ، وَلِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَطْر ثَمَرهَا» فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث جَوَاز الْمُسَاقَاة، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالثَّوْرِيّ وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد، وَجَمِيع فُقَهَاء الْمُحَدِّثِينَ، وَأَهْل الظَّاهِر، وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا يَجُوز، وَتَأَوَّلَ هَذِهِ الْأَحَادِيث عَلَى أَنَّ خَيْبَر فُتِحَتْ عَنْوَة، وَكَانَ أَهْلهَا عَبِيدًا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا أَخَذَهُ فَهُوَ لَهُ، وَمَا تَرَكَهُ فَهُوَ لَهُ.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ اِخْتَلَفُوا فِي خَيْبَر هَلْ فُتِحَتْ عَنْوَة، أَوْ صُلْحًا، أَوْ بِجَلَاءِ أَهْلهَا عَنْهَا بِغَيْرِ قِتَال، أَوْ بَعْضهَا صُلْحًا، وَبَعْضهَا عَنْوَة، وَبَعْضهَا جَلَا عَنْهُ أَهْله، أَوْ بَعْضهَا صُلْحًا، وَبَعْضهَا عَنْوَة؟ قَالَ: وَهَذَا أَصَحّ الْأَقْوَال، وَهِيَ رِوَايَة مَالِك وَمَنْ تَابَعَهُ، وَبِهِ قَالَ اِبْن عُيَيْنَةَ.
قَالَ: وَفِي كُلّ قَوْل أَثَر مَرْوِيّ.
وَفِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَر أَرَادَ إِخْرَاج الْيَهُود مِنْهَا، وَكَانَتْ الْأَرْض حِين ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا يَدُلّ لِمَنْ قَالَ عَنْوَة إِذْ حَقّ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَنْوَة، وَظَاهِر قَوْل مَنْ قَالَ صُلْحًا أَنَّهُمْ صُولِحُوا عَلَى كَوْن الْأَرْض لِلْمُسْلِمِينَ وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا تَجُوز عَلَيْهِ الْمُسَاقَاة مِنْ الْأَشْجَار، فَقَالَ دَاوُدَ: يَجُوز عَلَى النَّخْل خَاصَّة، وَقَالَ الشَّافِعِيّ: عَلَى النَّخْل وَالْعِنَب خَاصَّة، وَقَالَ مَالِك: تَجُوز عَلَى جَمِيع الْأَشْجَار، وَهُوَ قَوْل لِلشَّافِعِيِّ.
فَأَمَّا دَاوُدَ فَرَآهَا رُخْصَة فَلَمْ يَتَعَدَّ فيه الْمَنْصُوص عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيّ فَوَافَقَ دَاوُدَ فِي كَوْنهَا رُخْصَة، لَكِنْ قَالَ: حُكْم الْعِنَب حُكْم النَّخْل فِي مُعْظَم الْأَبْوَاب.
وَأَمَّا مَالِك فَقَالَ: سَبَب الْجَوَاز الْحَاجَة وَالْمَصْلَحَة.
وَهَذَا يَشْمَل الْجَمِيع فَيُقَاسَ عَلَيْهِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «بِشَطْرِ مَا يَخْرُج مِنْهَا» فِي بَيَان الْجُزْء الْمُسَاقِي عَلَيْهِ مِنْ نِصْف أَوْ رُبُع أَوْ غَيْرهمَا مِنْ الْأَجْزَاء الْمَعْلُومَة، فَلَا يَجُوز عَلَى مَجْهُول كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بَعْض الثَّمَر.
وَاتَّفَقَ الْمُجَوِّزُونَ لِلْمُسَاقَاةِ عَلَى جَوَازهَا بِمَا اِتَّفَقَ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيل أَوْ كَثِير.
قَوْله: «مِنْ ثَمَر أَوْ زَرْع» يَحْتَجّ بِهِ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ فِي جَوَاز الْمُزَارَعَة تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُزَارَعَة عِنْدهمْ لَا تَجُوز مُنْفَرِدَة، فَتَجُوز تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ، فَيُسَاقِيه عَلَى النَّخْل، وَيُزَارِعهُ عَلَى الْأَرْض كَمَا جَرَى فِي خَيْبَر.
وَقَالَ مَالِك: لَا تَجُوز الْمُزَارَعَة لَا مُنْفَرِدَة وَلَا تَبَعًا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ الْأَرْض بَيْن الشَّجَر.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَزُفَر: الْمُزَارَعَة وَالْمُسَاقَاة فَاسِدَتَانِ سَوَاء جَمَعَهُمَا أَوْ فَرَّقَهُمَا.
وَلَوْ عُقِدَتَا فَسَخَتَا.
وَقَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو يُوسُف، وَمُحَمَّد، وَسَائِر الْكُوفِيِّينَ، وَفُقَهَاء الْمُحَدِّثِينَ، وَأَحْمَد، وَابْن خُزَيْمَةَ، وَابْن شُرَيْح وَآخَرُونَ: تَجُوز الْمُسَاقَاة وَالْمُزَارَعَة مُجْتَمِعَتَيْنِ، وَتَجُوز كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا مُنْفَرِدَة.
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر الْمُخْتَار لِحَدِيثِ خَيْبَر.
وَلَا يُقْبَل دَعْوَى كَوْن الْمُزَارَعَة فِي خَيْبَر إِنَّمَا جَازَتْ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ، بَلْ جَازَتْ مُسْتَقِلَّة، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّز لِلْمُسَاقَاةِ مَوْجُود فِي الْمُزَارَعَة قِيَاسًا عَلَى الْقِرَاض؛ فَإِنَّهُ جَائِز بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ كَالْمُزَارَعَةِ فِي كُلّ شَيْء، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيع الْأَمْصَار وَالْأَعْصَار مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الْعَمَل بِالْمُزَارَعَةِ.
وَأَمَّا الْأَحَادِيث السَّابِقَة فِي النَّهْي عَنْ الْمُخَابَرَة فَسَبَقَ الْجَوَاب عَنْهَا، وَأَنَّهَا مَحْمُولَة عَلَى مَا إِذَا شَرَطَا لِكُلِّ وَاحِد قِطْعَة مُعَيَّنَة مِنْ الْأَرْض.
وَقَدْ صَنَّفَ اِبْن خُزَيْمَةَ كِتَابًا فِي جَوَاز الْمُزَارَعَة، وَاسْتَقْصَى فيه وَأَجَادَ، وَأَجَابَ عَنْ الْأَحَادِيث بِالنَّهْيِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
2897- قَوْله: «فَكَانَ يُعْطِي أَزْوَاجه كُلّ سَنَة مِائَة وَسْق ثَمَانِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْر وَعِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ شَعِير» قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْبَيَاض الَّذِي كَانَ بِخَيْبَر الَّذِي هُوَ مَوْضِع الزَّرْع أَقَلّ مِنْ الشَّجَر.
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث دَلِيل لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ الْأَرْض الَّتِي تُفْتَح عَنْوَة تُقَسَّم بَيْن الْغَانِمِينَ الَّذِينَ اِفْتَتَحُوهَا كَمَا تُقَسَّم بَيْنهمْ الْغَنِيمَة الْمَنْقُولَة بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ خَيْبَر بَيْنهمْ.
قَالَ مَالِك وَأَصْحَابه: يَقِفهَا الْإِمَام عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي أَرْض سَوَاد الْعِرَاق.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْكُوفِيُّونَ: يَتَخَيَّر الْإِمَام بِحَسَبِ الْمَصْلَحَة فِي قِسْمَتهَا أَوْ تَرْكهَا فِي أَيْدِي مَنْ كَانَتْ لَهُمْ بِخَرَاجٍ يُوَظِّفهُ عَلَيْهَا، وَتَصِير مِلْكًا لَهُمْ كَأَرْضِ الصُّلْح.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُقِرّكُمْ فيها عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا» وَفِي رِوَايَة الْمُوَطَّأ: «أُقِرّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّه» قَالَ الْعُلَمَاء: وَهُوَ عَائِد إِلَى مُدَّة الْعَهْد، وَالْمُرَاد إِنَّمَا نُمَكِّنكُمْ مِنْ الْمُقَام فِي خَيْبَر مَا شِئْنَا، ثُمَّ نُخْرِجكُمْ إِذَا شِئْنَا؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَازِمًا عَلَى إِخْرَاج الْكُفَّار مِنْ جَزِيرَة الْعَرَب كَمَا أَمَرَ بِهِ فِي آخِر عُمْره، وَكَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيث وَغَيْره.
وَاحْتَجَّ أَهْل الظَّاهِر بِهَذَا عَلَى جَوَاز الْمُسَاقَاة مُدَّة مَجْهُولَة.
وَقَالَ الْجُمْهُور: لَا تَجُوز الْمُسَاقَاة إِلَّا إِلَى مُدَّة مَعْلُومَة كَالْإِجَارَةِ، وَتَأَوَّلُوا الْحَدِيث عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
جَازَ ذَلِكَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام خَاصَّة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ لَنَا إِخْرَاجكُمْ بَعْد اِنْقِضَاء الْمُدَّة الْمُسَمَّاة، وَكَانَتْ سُمِّيَتْ مُدَّة، وَيَكُون الْمُرَاد بَيَان أَنَّ الْمُسَاقَاة لَيْسَتْ بِعَقْدٍ دَائِم كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاح، بَلْ بَعْد اِنْقِضَاء الْمُدَّة تَنْقَضِي الْمُسَاقَاة.
فَإِنْ شِئْنَا عَقَدْنَا عَقْدًا آخَر، وَإِنْ شِئْنَا أَخْرَجْنَاكُمْ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْر: إِذَا أَطْلَقَا الْمُسَاقَاة اِقْتَضَى ذَلِكَ سَنَة وَاحِدَة وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «وَكَانَ الثَّمَر يُقْسَم عَلَى السُّهْمَان فِي نِصْف خَيْبَر، فَيَأْخُذ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُمُس» هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ خَيْبَر فُتِحَتْ عَنْوَة لِأَنَّ السُّهْمَان كَانَتْ لِلْغَانِمِينَ.
وَقَوْله: «يَأْخُذ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُمُس» أَيْ يَدْفَعهُ إِلَى مُسْتَحَقّه وَهُمْ خَمْسَة الْأَصْنَاف الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} فَيَأْخُذ لِنَفْسِهِ خُمُسًا وَاحِدًا مِنْ الْخُمُس، وَيَصْرِف الْأَخْمَاس الْبَاقِيَة مِنْ الْخُمُس إِلَى الْأَصْنَاف الْأَرْبَعَة الْبَاقِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَة مَعَ أَهْل خَيْبَر كَانَتْ بِرِضَى الْغَانِمِينَ وَأَهْل السُّهْمَان.
وَقَدْ اِقْتَسَمَ أَهْل السُّهْمَان سُهْمَانهمْ، وَصَارَ لِكُلِّ وَاحِد سَهْم مَعْلُوم.
قَوْله: «فَلَمَّا وَلِيَ عُمَر قَسْم خَيْبَر» يَعْنِي قَسْمهَا بَيْن الْمُسْتَحَقِّينَ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ نَفْس الْأَرْض حِين أَخَذَهَا مِنْ الْيَهُود حِين أَجَلَاهُمْ عَنْهَا.
✯✯✯✯✯✯
2898- قَوْله: «عَلَى أَنْ يَعْتَمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالهمْ» بَيَان لِوَظِيفَةِ عَامِل الْمُسَاقَاة، وَهُوَ أَنَّ عَلَيْهِ كُلّ مَا يَحْتَاج إِلَيْهِ فِي إِصْلَاح الثَّمَر وَاسْتِزَادَته مِمَّا يَتَكَرَّر كُلّ سَنَة كَالسَّقْيِ وَتَنْقِيَة الْأَنْهَار، وَإِصْلَاح مَنَابِت الشَّجَر، وَتَلْقِيحه، وَتَنْحِيَة الْحَشِيش وَالْقُضْبَان عَنْهُ، وَحِفْظ الثَّمَرَة وَجُذَاذهَا، وَنَحْو ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَا يُقْصَد بِهِ حِفْظ الْأَصْل، وَلَا يَتَكَرَّر كُلّ سَنَة، كَبِنَاءِ الْحِيطَان وَحَفْر الْأَنْهَار فَعَلَى الْمَالِك.
وَاَللَّه أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
2899- قَوْله: (فَأَجَلَاهُمْ عُمَر إِلَى تَيْمَاء وَأَرِيحَاء) هُمَا مَمْدُودَتَانِ، وَهُمَا قَرْيَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ، وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ مُرَاد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْرَاجِ الْيَهُود وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَة الْعَرَب إِخْرَاجهمْ مِنْ بَعْضهَا، وَهُوَ الْحِجَاز خَاصَّة، لِأَنَّ تَيْمَاء مِنْ جَزِيرَة الْعَرَب، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْحِجَاز.
وَاَللَّه أَعْلَم.
باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب المساقاة ﴿ 1 ﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞