باب تحريم بيع الخمر
باب تحريم بيع الخمر
2956- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه يَعْرِض بِالْخَمْرِ وَلَعَلَّ اللَّه سَيُنْزِلُ فيها أَمْرًا فَمَنْ كَانَ عِنْده مِنْهَا شَيْء فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ» قَالَ: فَمَا لَبِثْنَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه حَرَّمَ الْخَمْر، فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَة وَعِنْده مِنْهَا شَيْء فَلَا يَشْرَب وَلَا يَبِعْ، قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ النَّاس بِمَا كَانَ عِنْدهمْ مِنْهَا فِي طَرِيق الْمَدِينَة فَسَفَكُوهَا» وَيَعْنِي رَاقُوهَا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاء قَبْل وُرُود الشَّرْع لَا تَكْلِيف فيها بِتَحْرِيمٍ وَلَا غَيْره، وَفِي الْمَسْأَلَة خِلَاف مَشْهُور لِلْأُصُولِيِّينَ، الْأَصَحّ أَنَّهُ لَا حُكْم وَلَا تَكْلِيف قَبْل وُرُود الشَّرْع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَث رَسُولًا}.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَصْلهَا عَلَى التَّحْرِيم حَتَّى يَرِد الشَّرْع بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالثَّالِث: عَلَى الْإِبَاحَة.
وَالرَّابِع عَلَى الْوَقْف، وَهَذَا الْخِلَاف فِي غَيْر التَّنَفُّس وَنَحْوه مِنْ الضَّرُورِيَّات الَّتِي لَا يُمْكِن الِاسْتِغْنَاء عَنْهَا؛ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَة بِلَا خِلَاف إِلَّا عَلَى قَوْل مَنْ يَجُوز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث أَيْضًا بَذْل النَّصِيحَة لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينهمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَحَهُمْ فِي تَعْجِيل الِانْتِفَاع بِهَا مَا دَامَتْ حَلَالًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا يَشْرَب وَلَا يَبِعْ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبهَا حَرَّمَ بَيْعهَا» فيه تَحْرِيم بَيْع الْخَمْر، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ، وَالْعِلَّة فيها عِنْد الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ كَوْنهَا نَجِسَة أَوْ لَيْسَ فيها مَنْفَعَة مُبَاحَة مَقْصُودَة، فَيَلْحَق بِهَا جَمِيع النَّجَاسَات كَالسِّرْجِينِ وَذَرْق الْحَمَام وَغَيْره وَكَذَلِكَ يَلْحَق بِهَا مَا لَيْسَ فيه مَنْفَعَة كَالسِّبَاعِ الَّتِي لَا تَصْلُح لِلِاصْطِيَادِ وَالْحَشَرَات وَالْحَبَّة الْوَاحِدَة مِنْ الْحِنْطَة، وَنَحْو ذَلِكَ، فَلَا يَجُوز بَيْع شَيْء مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْحَدِيث الْمَشْهُور فِي كِتَاب السُّنَن عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّه إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْم أَكْل شَيْء حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنه» فَمَحْمُول عَلَى مَا الْمَقْصُود مِنْهُ الْأَكْل، بِخِلَافِ مَا الْمَقْصُود مِنْهُ غَيْر ذَلِكَ، كَالْعَبْدِ وَالْبَغْل وَالْحِمَار الْأَهْلِيّ، فَإِنَّ أَكْلهَا حَرَام، وَبَيْعهَا جَائِز بِالْإِجْمَاعِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَة» أَيْ أَدْرَكَتْهُ حَيًّا وَبَلَغَتْهُ، وَالْمُرَاد بِالْآيَةِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِر} الْآيَة.
قَوْله: «فَاسْتَقْبَلَ النَّاس بِمَا كَانَ عِنْدهمْ مِنْهَا فِي طَرِيق الْمَدِينَة فَسَفَكُوهَا» هَذَا دَلِيل عَلَى تَحْرِيم تَخْلِيلهَا، وَوُجُوب الْمُبَادَرَة بِإِرَاقَتِهَا، وَتَحْرِيم إِمْسَاكهَا، وَلَوْ جَازَ التَّخْلِيل لَبَيَّنَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ، وَنَهَاهُمْ عَنْ إِضَاعَتهَا، كَمَا نَصَحَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى الِانْتِفَاع بِهَا قَبْل تَحْرِيمهَا حِين تَوَقَّعَ نُزُول تَحْرِيمهَا، وَكَمَا نَبَّهَ أَهْل الشَّاة الْمَيْتَة عَلَى دِبَاغ جِلْدهَا وَالِانْتِفَاع بِهِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ تَخْلِيلهَا وَأَنَّهَا لَا تَطْهُر بِذَلِكَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَالثَّوْرِيّ وَمَالِك فِي أَصَحّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَجَوَّزَهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْث وَأَبُو حَنِيفَة وَمَالِك فِي رِوَايَة عَنْهُ.
وَأَمَّا إِذَا اِنْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا خَلًّا فَيَطْهُر عِنْد جَمِيعهمْ، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ سَحْنُون الْمَالِكِي أَنَّهُ قَالَ: لَا يَطْهُر.
✯✯✯✯✯✯
2957- قَوْله: (عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن وَعْلَة السَّبَئِيّ) هُوَ بِسِينٍ مُهْمَلَة مَفْتُوحَة ثُمَّ بَاء مُوَحَّدَة ثُمَّ هَمْزَة مَنْسُوب إِلَى سَبَأ، وَأَمَّا (وَعْلَة) فَبِفَتْحِ الْوَاو وَإِسْكَان الْعَيْن الْمُهْمَلَة، وَسَبَقَ بَيَانه فِي آخِر كِتَاب الطَّهَارَة فِي حَدِيث الدِّبَاغ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي أَهْدَى إِلَيْهِ الْخَمْر: «هَلْ عَلِمْت أَنَّ اللَّه قَدْ حَرَّمَهَا؟ قَالَ: لَا» لَعَلَّ السُّؤَال كَانَ لِيُعْرَف حَاله، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ هَدِيَّتهَا وَإِمْسَاكهَا وَحَمْلهَا وَعَزَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ عَذَرَهُ.
وَالظَّاهِر أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّة كَانَتْ عَلَى قُرْب تَحْرِيم الْخَمْر قَبْل اِشْتِهَار ذَلِكَ، وَفِي هَذَا أَنَّ مَنْ اِرْتَكَبَ مَعْصِيَة جَاهِلًا تَحْرِيمهَا لَا إِثْم عَلَيْهِ وَلَا تَعْزِير.
قَوْله: «فَسَارَ إِنْسَانًا فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَ سَارَرْته؟ فَقَالَ: أَمَرْته بِبَيْعِهَا» الْمَسَار الَّذِي خَاطَبَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الرَّجُل الَّذِي أَهْدَى الرَّاوِيَة، كَذَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْر هَذِهِ الرِّوَايَة، وَأَنَّهُ رَجُل مِنْ دَوْس.
قَالَ الْقَاضِي: وَغَلِطَ بَعْض الشَّارِحِينَ فَظَنَّ أَنَّهُ رَجُل آخَر، وَفيه دَلِيل لِجَوَازِ سُؤَال الْإِنْسَان عَنْ بَعْض أَسْرَار الْإِنْسَان فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجِب كِتْمَانه كَتَمَهُ وَإِلَّا فَيَذْكُرهُ.
قَوْله: «فَفَتْح الْمَزَاد» هَكَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَر النُّسَخ (الْمَزَاد) بِحَذْفِ الْهَاء فِي آخِرهَا، وَفِي بَعْضهَا: (الْمَزَادَة) بِالْهَاءِ، وَقَالَ فِي أَوَّل الْحَدِيث: أَهْدَى رَاوِيَة وَهِيَ هِيَ، قَالَ أَبُو عُبَيْد: هُمَا بِمَعْنًى، وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت: إِنَّمَا يُقَال لَهَا: مَزَادَة، وَأَمَّا الرَّاوِيَة: فَاسْم لِلْبَعِيرِ خَاصَّة، وَالْمُخْتَار قَوْل أَبِي عُبَيْد، وَهَذَا الْحَدِيث يَدُلّ لِأَبِي عُبَيْد فَإِنَّهُ سَمَّاهَا رَاوِيَة وَمَزَادَة، قَالُوا: سُمِّيَتْ رَاوِيَة لِأَنَّهَا تَرْوِي صَاحِبهَا وَمَنْ مَعَهُ، وَالْمَزَادَة لِأَنَّهُ يَتَزَوَّد فيها الْمَاء فِي السَّفَر وَغَيْره، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُزَاد فيها جِلْد لِيَتَّسِع، وَفِي قَوْله: (فَفَتْح الْمَزَاد) دَلِيل لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور أَنَّ أَوَانِي الْخَمْر لَا تُكْسَر وَلَا تُشَقّ، بَلْ يُرَاق مَا فيها.
وَعَنْ مَالِك رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا كَالْجُمْهُورِ، وَالثَّانِيَة يُكْسَر الْإِنَاء، وَيُشَقّ السِّقَاء، وَهَذَا ضَعِيف لَا أَصْل لَهُ، وَأَمَّا حَدِيث أَبِي طَلْحَة أَنَّهُمْ كَسَرُوا الدِّنَان فَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْر أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
✯✯✯✯✯✯
2959- قَوْلهَا: «لَمَّا أُنْزِلَتْ الْآيَات مِنْ آخِر سُورَة الْبَقَرَة فِي الرِّبَا، خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْتَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاس ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَة فِي الْخَمْر» قَالَ الْقَاضِي وَغَيْره: تَحْرِيم الْخَمْر هُوَ فِي سُورَة الْمَائِدَة وَهِيَ نَزَلَتْ قَبْل آيَة الرِّبَا بِمُدَّةٍ طَوِيلَة، فَإِنَّ آيَة الرِّبَا آخِر مَا نَزَلَ، أَوْ مِنْ آخِر مَا نَزَلَ، فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون هَذَا النَّهْي عَنْ التِّجَارَة مُتَأَخِّرًا عَنْ تَحْرِيمهَا، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ أَخْبَرَ بِتَحْرِيمِ التِّجَارَة حِين حُرِّمَتْ الْخَمْر، ثُمَّ أُخْبِرَ بِهِ مَرَّة أُخْرَى بَعْد نُزُول آيَة الرِّبَا تَوْكِيدًا وَمُبَالَغَة فِي إِشَاعَته، وَلَعَلَّهُ حَضَرَ الْمَجْلِس مَنْ لَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ تَحْرِيم التِّجَارَة فيها قَبْل ذَلِكَ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
باب تحريم بيع الخمر
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب المساقاة ﴿ 12 ﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞