باب حكم الفيء
باب حكم الفيء
3300- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيّمَا قَرْيَة أَتَيْتُمُوهَا أَقَمْتُمْ فيها فَسَهْمكُمْ فيها، وَأَيّمَا قَرْيَة عَصَتْ اللَّه وَرَسُوله فَإِنَّ خُمُسهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ»، قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالْأُولَى الْفَيْء الَّذِي لَمْ يُوجِف الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَاب، بَلْ جَلَا عَنْهُ أَهْله أَوْ صَالَحُوا عَلَيْهِ، فَيَكُون سَهْمهمْ فيها، أَيْ: حَقّهمْ مِنْ الْعَطَايَا كَمَا يُصْرَف الْفَيْء، وَيَكُون الْمُرَاد بِالثَّانِيَةِ مَا أُخِذَ عَنْوَة، فَيَكُون غَنِيمَة يُخْرَج مِنْهُ الْخُمُس، وَبَاقِيه لِلْغَانِمِينَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله: «ثُمَّ هِيَ لَكُمْ» أَيْ بَاقِيهَا، وَقَدْ يَحْتَجّ مَنْ لَمْ يُوجِب الْخُمُس فِي الْفَيْء بِهَذَا الْحَدِيث، وَقَدْ أَوْجَبَ الشَّافِعِيّ الْخُمْس فِي الْفَيْء كَمَا أَوْجَبُوهُ كُلّهمْ فِي الْغَنِيمَة، وَقَالَ جَمِيع الْعُلَمَاء سِوَاهُ: لَا خُمُس فِي الْفَيْء، قَالَ اِبْن الْمُنْذِر: لَا نَعْلَم أَحَدًا قَبْل الشَّافِعِيّ قَالَ بِالْخُمُسِ فِي الْفَيْء.
وَاَللَّه أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
3301- قَوْله: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَة بْن سَعِيد، وَمُحَمَّد بْن عَبَّاد، وَأَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة، وَإِسْحَاق اِبْن إِبْرَاهِيم حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ عَمْرو عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ مَالِك بْن أَوْس عَنْ عُمَر ثُمَّ قَالَ بَعْده: وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْن يَحْيَى أَخْبَرَنَا سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ عَنْ مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ بِهَذَا الْإِسْنَاد)، وَهَكَذَا هُوَ فِي كَثِير مِنْ النُّسَخ وَأَكْثَرهَا عَنْ عَمْرو عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ مَالِك بْن أَوْس، وَكَذَا ذَكَرَهُ خَلَف الْوَاسِطِيُّ فِي الْأَطْرَاف وَغَيْره، وَهُوَ الصَّوَاب، وَسَقَطَ فِي كَثِير مِنْ النُّسَخ ذِكْر الزُّهْرِيّ فِي الْإِسْنَاد الْأَوَّل، فَقَالَ: عَنْ عَمْرو عَنْ مَالِك بْن أَوْس، وَهَذَا غَلَط مِنْ بَعْض النَّاقِلِينَ عَنْ مُسْلِم قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ فِي الْإِسْنَاد الثَّانِي عَنْ الزُّهْرِيّ بِهَذَا الْإِسْنَاد فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَهُ فِي الْإِسْنَاد الْأَوَّل فَالصَّوَاب إِثْبَاته.
قَوْله: «كَانَتْ أَمْوَال بَنِي النَّضِير مِمَّا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُوله مِمَّا لَمْ يُوجِف عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَاب فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة، فَكَانَ يُنْفِق عَلَى أَهْله نَفَقَة سَنَة، وَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاع وَالسِّلَاح عُدَّة فِي سَبِيل اللَّه» أَمَّا: «الْكُرَاع»: فَهُوَ الْخَيْل وَقَوْله: «يُنْفِق عَلَى أَهْله نَفَقَة سَنَة» أَيْ: يَعْزِل لَهُمْ نَفَقَة سَنَة، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُنْفِقهُ قَبْل اِنْقِضَاء السَّنَة فِي وُجُوه الْخَيْر فَلَا تَتِمّ عَلَيْهِ السَّنَة، وَلِهَذَا تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعه مَرْهُونَة عَلَى شَعِير اِسْتَدَانَهُ لِأَهْلِهِ، وَلَمْ يَشْبَع ثَلَاثَة أَيَّام تِبَاعًا، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة بِكَثْرَةِ جُوعه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُوع عِيَاله.
وَقَوْله: «كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة» هَذَا يُؤَيِّد مَذْهَب الْجُمْهُور أَنَّهُ لَا خُمُس فِي الْفَيْء كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّافِعِيّ أَوْجَبَهُ، وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ مِنْ الْفَيْء أَرْبَعَة أَخْمَاسه وَخُمُسُ خُمُسِ الْبَاقِي، فَكَانَ لَهُ أَحَد وَعِشْرُونَ سَهْمًا مِنْ خَمْسَة وَعِشْرِينَ، وَالْأَرْبَعَة الْبَاقِيَة لِذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل، وَيُتَأَوَّل هَذَا الْحَدِيث عَلَى هَذَا فَنَقُول: قَوْله: «كَانَتْ أَمْوَال بَنِي النَّضِير» أَيْ: مُعْظَمهَا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: جَوَاز اِدِّخَار قُوت سَنَة، وَجَوَاز الِادِّخَار لِلْعِيَالِ، وَأَنَّ هَذَا لَا يَقْدَح فِي التَّوَكُّل، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز الِادِّخَار فِيمَا يَسْتَغِلّهُ الْإِنْسَان مِنْ قَرْيَته كَمَا جَرَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِي مِنْ السُّوق وَيَدَّخِرهُ لِقُوتِ عِيَاله، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْت الطَّعَام؛ لَمْ يَجُزْ، بَلْ يَشْتَرِي مَا لَا يَضِيق عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَقُوتِ أَيَّام أَوْ شَهْر، وَإِنْ كَانَ فِي وَقْت سَعَة اِشْتَرَى قُوت سَنَة وَأَكْثَر، هَكَذَا نَقَلَ الْقَاضِي هَذَا التَّفْصِيل عَنْ أَكْثَر الْعُلَمَاء، وَعَنْ قَوْم إِبَاحَته مُطْلَقًا.
وَأَمَّا مَا لَمْ يُوجِف عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَاب، فَالْإِيجَاف: الْإِسْرَاع.
✯✯✯✯✯✯
3302- قَوْله: «فَجِئْته حِين تَعَالَى النَّهَار» أَيْ: اِرْتَفَعَ، وَهُوَ بِمَعْنَى (مَتَعَ النَّهَار) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاة فَوْق كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ.
قَوْله: «فَوَجَدْته فِي بَيْته جَالِسًا عَلَى سَرِير مُفْضِيًا إِلَى رُمَاله» هُوَ بِضَمِّ الرَّاء وَكَسْرهَا، وَهُوَ مَا يُنْسَج مِنْ سَعَف النَّخْل وَنَحْوه لِيُضْطَجَع عَلَيْهِ، وَقَوْله: «مُفْضِيًا إِلَى رُمَالِهِ» يَعْنِي: لَيْسَ بَيْنه وَبَيْن رُمَالِهِ شَيْء، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْعَادَة أَنْ يَكُون فَوْق الرُّمَال فِرَاش أَوْ غَيْره.
قَوْله: «فَقَالَ لِي يَا مَالِ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: «يَا مَالِ» وَهُوَ تَرْخِيم (مَالِك) بِحَذْفِ الْكَاف، وَيَجُوز كَسْر اللَّام وَضَمّهَا، وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ لِأَهْلِ الْعَرَبِيَّة، فَمَنْ كَسَرَهَا تَرَكَهَا عَلَى مَا كَانَتْ، وَمَنْ ضَمَّهَا جَعَلَهُ اِسْمًا مُسْتَقِلًّا.
قَوْله: «دَفّ أَهْل أَبْيَات مِنْ قَوْمك» الدَّفّ: الْمَشْي بِسُرْعَةٍ كَأَنَّهُمْ جَاءُوا مُسْرِعِينَ لِلضُّرِّ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ، وَقِيلَ: السَّيْر الْيَسِير.
قَوْله: «وَقَدْ أَمَرْت فيهمْ بِرَضْخٍ» هُوَ بِإِسْكَانِ الضَّاد وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ، وَهِيَ الْعَطِيَّة الْقَلِيلَة.
قَوْله: «فَجَاءَ يَرْفَا» هُوَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاة تَحْت وَإِسْكَان الرَّاء وَبِالْفَاءِ غَيْر مَهْمُوز هَكَذَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُور، وَمِنْهُمْ مَنْ هَمَزَه وَفِي سُنَن الْبَيْهَقِيِّ فِي بَاب الْفَيْء تُسَمِّيه: «الْيَرْفَا» بِالْأَلِفِ وَاللَّام، وَهُوَ حَاجِب عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
قَوْله: «اِقْضِ بَيْنِي وَبَيْن هَذَا الْكَاذِب» إِلَى آخِره، قَالَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ: هَذَا الْكَاذِب إِنْ لَمْ يُنْصِف، فَحَذَفَ الْجَوَاب، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا اللَّفْظ الَّذِي وَقَعَ لَا يَلِيق ظَاهِره بِالْعَبَّاسِ، وَحَاشَ لِعَلِيٍّ أَنْ يَكُون فيه بَعْض هَذِهِ الْأَوْصَاف، فَضْلًا عَنْ كُلّهَا، وَلَسْنَا نَقْطَع بِالْعِصْمَةِ إِلَّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنْ شَهِدَ لَهُ بِهَا، لَكِنَّا مَأْمُورُونَ بِحُسْنِ الظَّنّ بِالصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ- وَنَفْي كُلّ رَذِيلَة عَنْهُمْ، وَإِذَا اِنْسَدَّتْ طُرُق تَأْوِيلهَا نَسَبْنَا الْكَذِب إِلَى رُوَاتهَا، قَالَ: وَقَدْ حَمَلَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْض النَّاس عَلَى أَنَّهُ أَزَالَ هَذَا اللَّفْظ مِنْ نُسْخَته تَوَرُّعًا عَنْ إِثْبَات مِثْل هَذَا، وَلَعَلَّهُ حَمَلَ الْوَهْم عَلَى رُوَاته، قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَإِذَا كَانَ هَذَا اللَّفْظ لابد مِنْ إِثْبَاته؛ وَلَمْ نُضِفْ الْوَهْم إِلَى رُوَاته فَأَجْوَد مَا حُمِلَ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْ الْعَبَّاس عَلَى جِهَة الْإِدْلَال عَلَى اِبْن أَخِيهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ اِبْنه، وَقَالَ مَا لَا يَعْتَقِدهُ وَمَا يَعْلَم بَرَاءَة ذِمَّة اِبْن أَخِيهِ مِنْهُ، وَلَعَلَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ رَدْعه عَمَّا يَعْتَقِد أَنَّهُ مُخْطِئ فيه، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَاف يَتَّصِف بِهَا لَوْ كَانَ يَفْعَل مَا يَفْعَلهُ عَنْ قَصْد، وَأَنَّ عَلِيًّا كَانَ لَا يَرَاهُ إِلَّا مُوجِبَة لِذَلِكَ فِي اِعْتِقَاده، وَهَذَا كَمَا يَقُول الْمَالِكِيّ: شَارِب النَّبِيذ نَاقِص الدِّين، وَالْحَنَفِيّ يَعْتَقِد أَنَّهُ لَيْسَ بِنَاقِصٍ، فَكُلّ وَاحِد مُحِقّ فِي اِعْتِقَاده، ولابد مِنْ هَذَا التَّأْوِيل؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّة جَرَتْ فِي مَجْلِس فيه عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَهُوَ الْخَلِيفَة، وَعُثْمَان وَسَعْد وَزُبَيْر وَعَبْد الرَّحْمَن رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْكِر أَحَد مِنْهُمْ هَذَا الْكَلَام مَعَ تَشَدُّدهمْ فِي إِنْكَار الْمُنْكَر، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا بِقَرِينَةِ الْحَال أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْتَقِد ظَاهِره مُبَالَغَة فِي الزَّجْر، قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَكَذَلِكَ قَوْل عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِنَّكُمَا جِئْتُمَا أَبَا بَكْر فَرَأَيْتُمَاهُ كَاذِبًا آثِمًا غَادِرًا خَائِنًا، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ عَنْ نَفْسه أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ كَذَلِكَ، وَتَأْوِيل هَذَا عَلَى نَحْو مَا سَبَقَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَاد أَنَّكُمَا تَعْتَقِدَانِ أَنَّ الْوَاجِب أَنْ نَفْعَل فِي هَذِهِ الْقَضِيَّة خِلَاف مَا فَعَلْته أَنَا وَأَبُو بَكْر، فَنَحْنُ عَلَى مُقْتَضَى رَأْيكُمَا لَوْ أَتَيْنَا مَا أَتَيْنَا وَنَحْنُ مُعْتَقِدَانِ مَا تَعْتَقِدَانِهِ لَكِنَّا بِهَذِهِ الْأَوْصَاف، أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ: أَنَّ الْإِمَام إِنَّمَا يُخَالِف إِذَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَاف وَيُتَّهَم فِي قَضَايَاهُ فَكَانَ مُخَالَفَتكُمَا لَنَا تُشْعِر مَنْ رَآهَا أَنَّكُمْ تَعْتَقِدَانِ ذَلِكَ فِينَا.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَأَمَّا الِاعْتِذَار عَنْ عَلِيّ وَالْعَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي أَنَّهُمَا تَرَدَّدَا إِلَى الْخَلِيفَتَيْنِ مَعَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نُورَث مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَة» وَتَقْرِير عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُمَا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ، فَأَمْثَل مَا فيه مَا قَالَهُ بَعْض الْعُلَمَاء أَنَّهُمَا طَلَبَا أَنْ يَقْسِمَاهَا بَيْنهمَا نِصْفَيْنِ يُنْفِقَانِ بِهَا عَلَى حَسَب مَا يَنْفَعهُمَا الْإِمَام بِهَا لَوْ وَلِيَهَا بِنَفْسِهِ، فَكَرِهَ عُمَر أَنْ يُوقِع عَلَيْهَا اِسْم الْقِسْمَة، لِئَلَّا يُظَنّ لِذَلِكَ مَعَ تَطَاوُل الْأَزْمَان أَنَّهَا مِيرَاث، وَأَنَّهُمَا وَرِثَاهُ، لاسيما وَقِسْمَة الْمِيرَاث بَيْن الْبِنْت وَالْعَمّ نِصْفَانِ، فَيَلْتَبِس ذَلِكَ، وَيُظَنّ أَنَّهُمْ تَمَلَّكُوا ذَلِكَ، وَمِمَّا يُؤَيِّد مَا قُلْنَاهُ مَا قَالَهُ أَبُو دَاوُدَ: أَنَّهُ لَمَّا صَارَتْ الْخِلَافَة إِلَى عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَمْ يُغَيِّرهَا عَنْ كَوْنهَا صَدَقَة، وَبِنَحْوِ هَذَا اِحْتَجَّ السَّفَّاح، فَإِنَّهُ لَمَّا خَطَبَ أَوَّل خُطْبَة قَامَ بِهَا قَامَ إِلَيْهِ رَجُل مُعَلِّق فِي عُنُقه الْمُصْحَف فَقَالَ: أَنْشُدك اللَّه إِلَّا مَا حَكَمْت بَيْنِي وَبَيْن خَصْمِي بِهَذَا الْمُصْحَف فَقَالَ: مَنْ هُوَ خَصْمك؟ قَالَ: أَبُو بَكْر فِي مَنْعه فَدَك، قَالَ: أَظَلَمَك؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَنْ بَعْده؟ قَالَ: عُمَر: قَالَ: أَظَلَمَك؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقَالَ: فِي عُثْمَان كَذَلِكَ، قَالَ: فَعَلِيّ ظَلَمَك؟ فَسَكَتَ الرَّجُل فَأَغْلَظَ لَهُ السَّفَّاح، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَقَدْ تَأَوَّلَ قَوْم طَلَب فَاطِمَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا مِيرَاثهَا مِنْ أَبِيهَا عَلَى أَنَّهَا تَأَوَّلَتْ الْحَدِيث إِنْ كَانَ بَلَغَهَا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نُورَث» عَلَى الْأَمْوَال الَّتِي لَهَا بَال فَهِيَ الَّتِي لَا تُورَث لَا مَا يَتْرُكُونَ مِنْ طَعَام وَأَثَاث وَسِلَاح، وَهَذَا التَّأْوِيل خِلَاف مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْر وَعُمَر وَسَائِر الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَكْت بَعْد نَفَقَة نِسَائِي وَمُؤْنَة عَامِلِي» فَلَيْسَ مَعْنَاهُ إِرْثهنَّ مِنْهُ بَلْ لِكَوْنِهِنَّ مَحْبُوسَات عَنْ الْأَزْوَاج بِسَبَبِهِ، أَوْ لِعِظَمِ حَقّهنَّ فِي بَيْت الْمَال لِفَضْلِهِنَّ، وَقِدَم هِجْرَتهنَّ، وَكَوْنهنَّ أُمَّهَات الْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَلِكَ اِخْتَصَصْنَ بِمَسَاكِنِهِنَّ لَمْ يَرِثهَا وَرَثَتهنَّ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَفِي تَرْك فَاطِمَة مُنَازَعَة أَبِي بَكْر بَعْد اِحْتِجَاجه عَلَيْهَا بِالْحَدِيثِ التَّسْلِيم لِلْإِجْمَاعِ عَلَى قَضِيَّة، أَنَّهَا لَمَّا بَلَغَهَا الْحَدِيث وَبَيَّنَ لَهَا التَّأْوِيل تَرَكَتْ رَأْيهَا، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا وَلَا مِنْ ذُرِّيَّتهَا بَعْد ذَلِكَ طَلَب مِيرَاث، ثُمَّ وَلِيَ عَلِيّ الْخِلَافَة فَلَمْ يَعْدِل بِهَا عَمَّا فَعَلَهُ أَبُو بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ طَلَب عَلِيّ وَالْعَبَّاس إِنَّمَا كَانَ طَلَب تَوَلِّي الْقِيَام بِهَا بِأَنْفُسِهِمَا، وَقِسْمَتهَا بَيْنهمَا، كَمَا سَبَقَ، قَالَ: وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ هِجْرَان فَاطِمَة أَبَا بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَمَعْنَاهُ: اِنْقِبَاضهَا عَنْ لِقَائِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْهِجْرَان الْمُحَرَّم الَّذِي هُوَ تَرْك السَّلَام وَالْإِعْرَاض عِنْد اللِّقَاء.
قَوْله فِي هَذَا الْحَدِيث: «فَلَمْ تُكَلِّمهُ» يَعْنِي فِي هَذَا الْأَمْر أَوْ لِانْقِبَاضِهَا لَمْ تَطْلُب مِنْهُ حَاجَة، وَلَا اِضْطَرَّتْ إِلَى لِقَائِهِ فَتُكَلِّمهُ، وَلَمْ يُنْقَل قَطُّ أَنَّهُمَا اِلْتَقَيَا فَلَمْ تُسَلِّم عَلَيْهِ وَلَا كَلَّمَتْهُ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْل عُمَر جِئْتُمَانِي تُكَلِّمَانِي وَكَلَّمْتُكُمَا فِي وَاحِدَة، جِئْت يَا عَبَّاس تَسْأَلنِي نَصِيبك مِنْ اِبْن أَخِيك، وَجَاءَنِي هَذَا يَسْأَلنِي نَصِيب اِمْرَأَته مِنْ أَبِيهَا.
فيه: إِشْكَال مَعَ إِعْلَام أَبِي بَكْر لَهُمْ قَبْل هَذَا الْحَدِيث، وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا نُورَث» وَجَوَابه أَنَّ كُلّ وَاحِد إِنَّمَا طَلَبَ الْقِيَام وَحْده عَلَى ذَلِكَ، وَيَحْتَجّ هَذَا بِقُرْبِهِ بِالْعُمُومَةِ، وَذَلِكَ بِقُرْبِ اِمْرَأَته بِالْبُنُوَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهُمَا طَلَبَا مَا عَلِمَا مَنْع النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنَعَهُمَا مِنْهُ أَبُو بَكْر، وَبَيَّنَ لَهُمَا دَلِيل الْمَنْع، وَاعْتَرَفَا لَهُ بِذَلِكَ، قَالَ الْعُلَمَاء: وَفِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُوَلَّى أَمْر كُلّ قَبِيلَة سَيِّدهمْ، وَتُفَوَّض إِلَيْهِ مَصْلَحَتهمْ، لِأَنَّهُ أَعْرَف بِهِمْ وَأَرْفَق بِهِمْ، وَأَبْعَد مِنْ أَنْ يَأْنَفُوا مِنْ الِانْقِيَاد لَهُ، لِهَذَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْله وَحَكَمًا مِنْ أَهْلهَا} وَفيه: جَوَاز نِدَاء الرَّجُل بِاسْمِهِ مِنْ غَيْر كُنْيَته.
فيه: جَوَاز اِحْتِجَاب الْمُتَوَلِّي فِي وَقْت الْحَاجَة لِطَعَامِهِ أَوْ وُضُوئِهِ أَوْ نَحْو ذَلِكَ.
وَفيه: جَوَاز قَبُول خَبَر الْوَاحِد.
وَفيه: اِسْتِشْهَاد الْإِمَام عَلَى مَا يَقُولهُ بِحَضْرَةِ الْخَصْمَيْنِ الْعُدُول لِتَقْوَى حُجَّته فِي إِقَامَة الْحَقّ وَقَمْع الْخَصْم.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «فَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْهُ اِتَّئِدَا» أَيْ: اِصْبِرَا وَأَمْهِلَا.
قَوْله: «أَنْشُدكُمْ بِاَللَّهِ» أَيْ: أَسْأَلكُمْ بِاَللَّهِ، مَأْخُوذ مِنْ النَّشِيد.
وَهُوَ رَفْع الصَّوْت يُقَال: أَنْشَدْتُك وَنَشَدْتُك بِاَللَّهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه كَانَ خَصَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَاصَّةٍ لَمْ يَخْصُصْ بِهَا أَحَدًا غَيْره قَالَ اللَّه تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُوله} الْآيَة» ذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَعْنَى هَذَا اِحْتِمَالَيْنِ:أَحَدهمَا: تَحْلِيل الْغَنِيمَة لَهُ وَلِأُمَّتِهِ.
وَالثَّانِي: تَخْصِيصه بِالْفَيْءِ، إِمَّا كُلّه أَوْ بَعْضه كَمَا سَبَقَ مِنْ اِخْتِلَاف الْعُلَمَاء، قَالَ: وَهَذَا الثَّانِي أَظْهَرُ لِاسْتِشْهَادِ عُمَر عَلَى هَذَا بِالْآيَةِ.
باب حكم الفيء باب حكم الفيء
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب الجهاد والسير ﴿ 15 ﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞