قصة اكتشاف العروض
قصة اكتشاف العروض
لاحظ الخليل وقوعَ تغيرٍ طارئ على ثواني الأسباب الخفيفة، بسقوط سواكنها أحياناً، وسلامة الأوتاد منه دائماً، فنصّ في أولى قواعده على أن (الزحافَ) يُلازمُ الأسباب أينما وقعت من الأوزان!
*ولَمّا وقع هذا الزحافُ على ثاني الفاصلة (///ه) في (الكامل والوافر) بإسكان متحرّكها الثاني، افترض أن الفاصلةَ مؤلّفةٌ من سببين؛ ثقيلٌ (//) وخفيف (/ه) لينسجم ذلك مع قاعدته.
*ولَمّا لاحظَ ثباتَ بعض الأسباب، وعدمَ قبولها للزحاف في بعض الأوزان (كالمنسرح والخفيف والمقتضب والمضارع) وهي أوزانٌ متشابهة في أنساقها، وأماكن الزحاف فيها، نشأت عند الخليل فكرة الوتد المفروق، فاعتبر السببَ الثابت جزءًا من وتد، لكنه مفروق هذه المرّة (/ه/)، لكي ينسجم ذلك مع قاعدته أيضًا.
ونظرًا لتشابه نسقي (الخفيف والمضارع) مع نسقَيْ (المنسرح والمقتضب) في احتواء كل منها على ثلاثة أسباب متوالية، وبالتالي تشابه أماكن الزحاف فيها، فلقد كان لا بد للخليل من افتراض (الوتد المفروق) فيهما، ولكنه يوجد هذه المرّة في تفعيلتين أخريين غير (مفعولاتُ) هما: (مسْتَفْعِ لن /ه./ه/./ه) في (الخفيف)، و(فاع لاتن /ه/./ه./ه) في (المضارع).
المقتضب = ........../ه /ه /ه /-/ه /ه //ه (مفعولاتُ) مستفعلن
المنسرح = /ه /ه //ه-/ه /ه /ه /-/ه /ه //ه مستفعلن (مفعولاتُ) مستفعلن
الخفيف = ......./ه //ه-/ه /ه /ه /-/ه /ه //ه /ه فاعلاتن (مستفعِ لن) فاعلاتن
المضارع = ...........//ه-/ه /ه /ه /-/ه /ه مفاعيلن (فاعِ لاتن)
وهكذا أحدث الخليل تفعيلتين وهميتين أخريين، وقرّر أنه: إذا توالى سببان كان ثالثهما وتدًا حتمًا، إنْ لم يكن مجموعًا فهو مفروق، نافِيًا احتمال وقوع الوتد المجموعِ بعد ثلاثة أسباب متتالية، مع أنّ الواقعَ يؤيد ذلك.
وعلى الرغم من مخالفة (المجتث) لأفراد دائرته في عدم احتواء نسَقِهِ على ثلاثة أسباب متتالية إلاّ أنّ اعتبارَه مجتثًّا (أي مقتطعًا) من (الخفيف)، ووقوعَه في دائرته، جعله يرثُ وتدَهُ المفروق، فأصبح (المجتث) مساويًا (مستفعِ لن فاعلاتن)، بوتدٍ مفروقٍ في (مستفعِ لن) كما في الخفيف. وأجاز بالتالي سقوطَ نونها (مستفعِ لُ)، لأنها عنده جزءٌ من سبب خفيف، ولم يُجِزْ سقوطَ الفاء (مستَعِ لن)، لأنها عنده جزءٌ من وتدٍ مفروق!
قصة اكتشاف الخليل العروض
والحقيقة التي لا ريب فيها أنّ (مستَعِلن) في (المجتث) كثيرة الاستخدام والورود، بينما ليس لـِ(مستفعِلُ) ولا (مُتَفْعِلُ) استخدامٌ فيه كما تُظهر شواهد (المجتث) الكثيرة جداً. ولو أنه اعتبره مقتطَعاً من (البسيط) -مثلاً- لَما ورِثَ هذا الوتد الموهوم.
الخفيف = /ه //ه /ه - /ه /ه //ه /ه //ه /ه
المجتثّ = ............../ه /ه //ه /ه //ه /ه
البسيط = ............ /ه /ه //ه /ه //ه /ه-/ه //ه /ه //ه
وليس لمُنصفٍ أبدًا أن يصفَ عملَ الخليل هذا "بالعبث المطلق" كما فعل د.كمال أبو ديب، فإيجاد الوتد المفروق كان حَلاًّ ذكيّاً وجادًّا (لا عابثاً) لمشكلة قامت لديه، وذلك على الرغم مما أدّى إليه هذا العمل. ولعلّ إحساسَه القويّ بضرورة الوتد لكل تفعيلة، مع قبوله (مفعولاتُ) تفعيلةً حقيقيةً قائمةً بذاتها في بحري (المنسرح والمقتضب)، قَوَّيا عنده قبولَ الوتد المفروق فيها.
والمشكلة الحقيقية لقبول الوتد المفروق (/ه/) والسبب الثقيل (//) هي في شطْرِ الوتد المجموع (//ه) والفاصلة (///ه) إلى نصفين، وأنّ النصفَ الثاني منهما يُشكّلُ سببًا خفيفًا (/ه) لابدَّ له -لكي ينسجمَ مع نظرية الزحاف الخليلية- أن يقبلَ هو ذلك الزحاف، على الرغم من قبْحِ ذلك -إنْ وقع- في عالم الشعر. وبالتالي اضطر الخليل إلى قبول سقوط نون (مستفعلن) في (الخفيف والمجتث)، ونون (مُفاعلْتن) في (الوافر)، وألف (متْفاعلن) في (الكامل).
ولَمّا لم تكن هنالك شواهدُ شعرية حقيقية لمثل هذه الزحافات المفترضة، فقد اضطر الخليل إلى وضعِ شواهدَ مصنوعة، تبدو عليها الصنعةُ والتكلّف، ويتحطّم بها الإيقاع الشعري للبحر موضع الشاهد، كما في شاهد البحر الخفيف:
يا عُمَيْرُ ما تُظْهرُ منْ هواكَ ** أو تُجِنُّ يُسْتكْثَرُ حينَ يبدو
فاعِلاتُ مستفعِلُ فاعِلاتُ ** فاعِلاتُ مستفعِلُ فاعِلاتُن
وشاهد المجتث:
ما كانَ عَطاؤهُنَّ** إلاّ عِدَةً ضمارا
مستفعِلُ فاعلاتُ** مستفعِلُ فاعلاتُن
وشاهدُ الوافر:
لسَلاّمَةَ دارٌ بِحَفيرٍ ** كباقي الخَلَقِ السَّحْقِ قِفارُ
مفاعيلُ مفاعيلُ فعولن ** مفاعيلُ مفاعيلُ فعولن
وشاهد الكامل:
مَنْزِلَةٌ صَمَّ صَداها وعَفَتْ ** أرسُمُها إنْ سُئِلتْ لم تُجِبِ
مستَعِلن مستَعِلن مستَعِلن ** مستَعِلن مستَعِلن مستَعِلن
ومع ذلك كلِّه، فقد استطاعت النظرية الخليلية -الأساسية- التي تتّخذُ من المتحرِّك والساكن أساسًا لتحليل الإيقاع الشعري، أن تضبطَ إيقاعَ الشعر العربي، وتفي بمتطلّبات هذا الضبْط، حتى يوم الناس هذا، فطَغَتْ على جميع الدراسات العروضية التالية. ولا زالت تُشكِّل الركيزةَ الأولى في علم العروض العربي.
إلاّ أنّ نظرية الخليل لم تسْلمْ قطّ من انتقادات بعض العروضيين، ومحاولة آخرين التعديلَ فيها أو رفضها و إلغائها. وهي إن لم تستطع تقديمَ البديل فإن لها فضْلَ الرِّيادة وخلخلة الراكد.
...
ولعلّ من أهم هذه المحاولات:
• محاولةُ الجوهري (-398هـ) اختصارَ عدد البحور بدمج بحر في آخر.
• خروج ابن القطاع (-515 هـ) على طريقة الخليل في فكِّ البحور من دوائرها.
• مخالفة الشنتريني (-549هـ) والمحلّي (-673هـ) الخليلَ في ترتيب الدوائر فالبحور.
• محاولة السكاكي (-626هـ) إيجادَ طريقة مختلفةٍ في استنباط البحور من أصل واحد.
• خروجَ ابن الفرخان (بعد-560هـ) فالقرطاجني (-684هـ) من بعده، على منهج الخليل في دراسة التفاعيل فالبحور.
وسيكون لنا -إن شاء الله- مع كلّ واحدة من هذه.قصة اكتشاف العروض الدراسات الرائدة، وقفات نستعرض فيها ما لها وما عليها، عَرضاً موجَزاً لها، ونقداً لنتائجها.
انتهت قصة اكتشاف العروض🌷
هذا والله تعالى أعلم
د.عمر خَلُّوف 🌷