التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي
تعمد الأساليب البليغة إلى مخالفة مقتضى الظاهر في ميدان استخدام الأفعال ، فتعبر عن المستقبل بلفظ الماضي للتنبيه على تحقق وقوعه ، وأنه في حكم المنقضي الذي لا مدافعة فيه ، ووراء ذلك أيضاً إشارات بلاغية تأنسها الأذواق الصافية وتحسها المدارك القوية . وإليك أمثلة لذلك :
1 - قال سبحانه : « ويوم يُنفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض » . قال سبحانه ( ففَزع ) ، والمراد ( فيفزع ) لأن الحدث لما يقع بعد ولكنه عبر عنه بالماضي إشارة إلى تحقق وقوعه ، فهو لا محالة واقع ليس له من دافع ، ويؤدي استعمال الماضي هنا وظيفة تربوية مهمة ، تتصل بمعالجة أشد أدواء الإنسان ، وهو داء عدم المبالاة بالأمر المستقبلي ، وهكذا يأتي الماضي ليطوي الزمان وليضع الإنسان وجهاً لوجه أمام هذا الذي ينتظره فور النفخ في الصور .
2 - وقال سبحانه : « أتي أمر الله فلا تستعجلوه » ، ومقتضى الظاهر ( يأتي ) ، لكنّه لما كان آتياً حتماً مقضياً عُد كأنه قد ( أتى ) ، والتعبير بالماضي هنا يحرر الإنسان من الوهم ويعيد إليه مشكلته حتى يواجهها قبل أن يعجز عن ذلك .
3 - وتأمل قوله سبحانه : ( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ماكنت منه تحيد ، ونُفخ في الصور ذلك يوم الوعيد ، وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ، لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ، وقال قرينه هذا مالدي عتيد ، ألقيا في جهمّ كل كفار عنيد )
تجد الحق - سبحانه وتعالى - يتحدث بصيغة الماضي عن أمر آتٍ في المستقبل لتأكيده و إزالة الشك عنه فيتمثله القارئ وكأنه مر به.