من الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم
الحكمة في التعبير عن المستقبل بصيغة الماضي
🔺️وعن الماضي بصيغة المستقبل في القرآن ؟
🔻أولا ً : التعبير عن المستقبل بصيغة الماضي :
نجد في القرآن الكريم أفعالا ماضية استُعملت للدلالة على المستقبل ، حيث إنها وإن جاءت بصيغة الماضي فإنها لم تحدُث بعد .
ومن هنا فتعبير القرآن الكريم بالماضي عن المستقبل دال على تحقُّق وقوعه ، ومن ذلك :
🔅قوله تعالى : ﴿إِذا زُلزِلَتِ الأَرضُ زِلزالَها﴾ [الزلزلة: ١] ، حيث تزلزل الأرض وتلفظ أمواتها أحياء ، وهذا طبعا لا يكون إلا يوم القيامة وهو غيب مستقبل.
🔅وقوله تعالى: ﴿أَتى أَمرُ اللَّهِ فَلا تَستَعجِلوهُ﴾ [النحل: ١] ، أي يأتي .
فجيء بالماضي {أَتى} المراد به المستقبل المحققُ الوقوع ؛ بقرينة قوله: {فَلا تَستَعجِلوهُ} ؛ لأن النهي عن استعجال حلول ذلك اليوم يقتضي أنه لما يحل بعد .
🔅وقوله تعالى :
﴿فَلا صَدَّقَ وَلا صَلّى﴾ [القيامة: ٣١] ، أي لم يصدّق ولم يصلِّ .
🔅وقوله تعالى : ﴿كَلّا إِذا دُكَّتِ الأَرضُ دَكًّا دَكًّا وَجاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: ٢١-٢٢]
🔅وقوله تعالى : ﴿إِذَا السَّماءُ انفَطَرَت وَإِذَا الكَواكِبُ انتَثَرَت﴾ [الانفطار: ١-٢]
🔅وقوله : ﴿فَإِذا جاءَتِ الصّاخَّةُ﴾ [عبس: ٣٣]
وغيرها من الآيات التي جاء فعلُها ماضياً دالاًّ على المستقبل لتحدثنا عن يوم القيامة .
قال الشيخ الشنقيطي - رحمه الله - في تفسيره : " فهذه الأفعال الماضية المذكورة في الآيات بمعنى المستقبل ؛
تنزيلاً لتحقق الوقوع منزلة الوقوع بالفعل ، ونظائرها كثيرة في القرآن ، وهذا الذي ذكرنا - من أن الأفعال الماضية بمعنى المستقبل هو الصواب إن شاء الله " . انتهى كلامه
👈🏻 فائدة هذا الأسلوب هو لإفادة اليقين بوقوعه ، حتى كأنه قد وقع ومضى .
🔶️قال ابن الأثير - : " أن الفعل الماضي إذا أُخبر به عن الفعل المستقبل الذي لم يوجد بعد ،
كان ذلك أبلغ وأوكد في تحقيق الفعل وإيجاده ؛ لأن الفعل الماضي يعطي من المعنى أنه قد كان وُجِد ،
وإنما يفعل ذلك إذا كان الفعل المستقبل من الأشياء العظيمة التي يُستعظم وجودها " .
التعبير عن الماضي بصيغة المستقبل
وفائدة هذا الأسلوب
أن المستقبل إذا أُخبر به عن الماضي ، تبينت من خلاله هيئة الفعل ؛ وذلك باستحضار صورته ؛ فيكون السامع كأنه شاهدٌ يشهد الحدث الآن .
👈🏻 ومن أمثلة ذلك :
🔅قوله تعالى :﴿قُل فَلِمَ تَقتُلونَ أَنبِياءَ اللَّهِ مِن قَبلُ﴾ [البقرة: ٩١] ، أي لِمَ قَتَلتُم ؟
حيث ابتدأ الخبر بلفظ المستقبل في قوله : ﴿ تَقْتُلُونَ ﴾ ثم أخبر أنه قد مضى بقوله :
﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾ ، فالفعل لا يدل على زمن الحدوث ، وإنما يدل على زمن الإخبار ،
فللفعل الماضي زمانان ؛ زمن حدوث ووقوع ، وزمن إخبار عنه ،
وهو ما أشار إليه الزجاجي بقوله : " والفعل الماضي ما تقضى وأتى عليه زمانان ، لا أقل من ذلك ،
زمان وجد فيه ، وزمان خبر فيه عنه " .(أ.هـ)
🔅وقوله تعالى:﴿وَاتَّبَعوا ما تَتلُو الشَّياطينُ﴾ [البقرة: ١٠٢] ، أي ما تلت .
🔅وكذلك وفق هذا الأسلوب جاء قوله سبحانه : ﴿حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيرَ مُشرِكينَ بِهِ وَمَن يُشرِك بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخطَفُهُ الطَّيرُ أَو تَهوي بِهِ الرّيحُ في مَكانٍ سَحيقٍ﴾ [الحج: ٣١] ،
فقال أولاً : {خَرَّ مِنَ السَّماءِ} بلفظ الماضي ، ثم عطف عليه المستقبل {فَتَخطَفُهُ} ، و {تَهوي} ، وإنما عدل في ذلك إلى المستقبل ؛ استحضاراً لصورة خطف الطير إياه ، وهَويِّ الريح به .
🔅وقوله تعالى : ﴿إِذ تَبَرَّأَ الَّذينَ اتُّبِعوا مِنَ الَّذينَ اتَّبَعوا وَرَأَوُا العَذابَ وَتَقَطَّعَت بِهِمُ الأَسبابُ﴾ [البقرة: ١٦٦]
جاء بصيغة الماضي {وَرَأَوُا} ؛ للتنبيه على تحقيق وقوعه ،
والقرينة قوله سبحانه في الآية بعدُ:﴿كَذلِكَ يُريهِمُ اللَّهُ أَعمالَهُم﴾ [البقرة: ١٦٧] ، الذي هو مستقبل ؛ إذ ليست الرؤية المذكورة بحاصلة في الحال ، فكأنه قيل: (لما يرون العذاب).
🔅وقوله تعالى : ﴿وَاللَّهُ الَّذي أَرسَلَ الرِّياحَ فَتُثيرُ سَحابًا فَسُقناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحيَينا بِهِ الأَرضَ بَعدَ مَوتِها كَذلِكَ النُّشورُ﴾ [فاطر: ٩]
جاء بالفعل {فَتُثيرُ} مستقبلاً ، وما قبله {أَرسَلَ} ، وما بعده {فَسُقناهُ} ، و {فَأَحيَينا} ماضياً ؛ حكاية للحال التي يقع فيها إثارة الريح السحاب ، واستحضاراً لتلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة .
قال الزمخشري : " فإن قلت : لِمَ جاء {فتثير} على المضارعة ، دون ما قبله وما بعده ؟
قلت : ليحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب ، وتُستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية ". انتهى كلامه .
🔶️قال ابن الأثير موضحاً فائدة هذا الأسلوب :
اعلم أن الفعل المستقبل ، إذا أُتي به في حالة الإخبار عن وجود الفعل ، كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي ؛
وذاك لأن الفعل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيها ، ويستحضر تلك الصورة ، حتى كأن السامع يشاهدها، وليس كذلك الفعل الماضي... وهكذا يفعل بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية ، كحال تُستغرب ، أو تهم المخاطب
🔻ثالثاً : الفرق بين الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل ، وبين الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي :
👈🏻 ذكر ابن قتيبة في كتابه " تأويل مشكل القرآن " : ( أن التعبير بالماضي عن المستقبل ، وبالمستقبل عن الماضي ،
إنما هو مذهب من مذاهب العرب في كلامها ، وتفنن في أساليب خطابها ،
وإيقاع أحدهما موقع الآخر لا يخلو من نكتة بلاغية ، أو لفتة بيانية ،
كدلالة المضارع على التجدد ، والماضي على التحقيق ) .
👈🏻 وقد بيَّن علماء العربية هذا الأسلوب من البلاغة ، وأكدوا على أهميته في الكلام ،
يقول أبو حاتم في هذا الصدد:
" اتسعت العرب فجعلوا (فَعَلَ) في مواضع لما لم ينقطع بعد ،
وجعلوا (يفعل) وأخواتها لما قد كان " .
والفرق بين الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل
وبين الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي ،
أن الغرض من الأول الدلالة على إيجاد الفعل الذي لم يوجد ، وتقريبه كأنه كائن ، وتأكيداً على أنه سيكون .
والغرض من الثاني تبيين هيئة الفعل واستحضار صورته ؛ ليكون السامع كأنه يشاهدها .
👈🏻 والمتحصل مما تقدم ، أن الأفعال في القرآن تكتسب دلالتها الزمنية من السياق الواردة فيه ،
لا من بنيتها الصرفية فحسب ، وغالباً ما يكون وراء تحولها ماضياً ومستقبلاً معنى بلاغيًّا .
👈🏻 ومما يجدر التنبيه إليه هنا، هو أنه ليس كل فعل مستقبل ، يُعطف على ماض ، جارٍ هذا المجرى ،
فقد يكون المستقبل المعطوف على الماضي
ليس من باب إخبار بمستقبل عن ماض ،
وإنما هو مستقبل دل على معنى مستقبل غير ماض ،
ويراد به أن ذلك الفعل مستمر الوجود لم يمض ، ومن أمثلة ذلك :
🔅قوله سبحانه : ﴿إِنَّ الَّذينَ كَفَروا وَيَصُدّونَ عَن سَبيلِ اللَّهِ﴾ [الحج: ٢٥] ، فقد عطف المستقبل {وَيَصُدّونَ} على الماضي {كَفَروا} ؛
لأن كفرهم كان قد وُجِد ، ولم يستجدوا بعده كفراً ثانياً ، في حين أن صدهم عن سبيل الله متجدد على الأيام ، لم يمض ، وإنما هو مستمر يستأنف في كل حين .
🔅ونحو هذا قوله عز وجل : ﴿أَلَم تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصبِحُ الأَرضُ مُخضَرَّةً﴾ [الحج: ٦٣] ،
فقد عدل عن لفظ الماضي {أَنزَلَ} إلى المستقبل {فَتُصبِحُ الأَرضُ مُخضَرَّةً}، ولم يقل: (فأصبحت) عطفاً على {أَنزَلَ} ؛
لإفادة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان ، فإنزال الماء مضى وجوده ، واخضرار الأرض باق لم يمض .