المراثي باب المراثي
المراثي باب المراثي
من رثي نفسه
ووصف قبره وما يكتب على القبر
قال قال ابن قتَيْبة:
بلغني أن أوّل مَنْ بكى على نفسه وذكرَ الموت في شِعْره يزيدُ بن خَذّاق، فقال:
***
أم هل له من حِمام المَوْتِ من رَاقِي
قد رَجَّلوني وما بالشَّعر من شَعَثٍ
***
وألبَسوني ثِيَاباً غيرَ أخْلاق
وطَيَّبوني وقالوِا أيما رَجُلٍ
***
وأدرَجوني كأنّي طيّ مخْرَاق
وأرسَلوا فِتْيَةً من خيْرِهِمْ حَسَباً
***
لِيُسْنِدُوا في ضرَيح القَبْر أطباقي
وقَسمُوا المال وارفضّت عوائدُهم
***
وقال قائلُهُم مات ابن خَذّاق
هَوِّن عليك ولا تُولَع بإشفاق
***
فإنّما مالُنا للوارث الباقي
وقال أبو ذُؤيب الهُذليّ يَصِفُ حُفرته:
مُطأْطَأةً لم ينبطوها وإنها
***
لَيَرْضى بها فُرَّاطها أُمَّ واحدِ
قَضَوْا ما قَضَوْا من رَمِّهَا ثم أقبلوا
***
إلى بِطَاءَ المَشيْ غبْر السَّواعِد
فكنتُ ذَنُوبَ البِئر لما تَبَسَّلت
***
وأدرجتُ أكفاني ووُسَدْت ساعدي
وقال عُروة بن حِزام لما نَزل به الموتُ:
مَن كان مِن أخَوَاتي باكياً أبداً
***
فاليومَ إني أُراني اليوْمَ مَقْبُوضَا
يُسْمِعْنَنِيه فإنّي غيرُ سامِعِه
***
إذا علوتُ رِقابَ القول مَعْروضا
وقال الطرمِّاح بن حَكِيم:
فيا رَبّ لا تَجعل وَفاتِيَ إن أتَتْ
***
على شَرْجَعٍ يُعْلَى بخُضْر المَطَارفِ
ولكنْ شهيداً ثاوياً في عِصابة
***
يُصابون في فَجٍّ من الأرْض خائف
إذا فارَقُوا دًنْياهُم فارَقُوا الأذىَ
***
وصارُوا إلى مَوْعُود ما في الصَّحَائف
فأقْتَلَ قَعْصاً ثم يُرْمى بأعْظُمِي
***
مُفَرقةً أوصالُها في التَنَائف
ويُصْبِحَ لَحْمِي بَطْنَ نَسْر مقيلُه
***
بجَوَ السماءِ في نُسورعواكف
وقال مالك بن الرّيْب يَرْثى نَفْسه ويصِف قَبْرَه، وكان خرَج مع سَعيد بن عثمان بن عفّان لما وَليَ خُراسان، فلما كان ببعض الطَّريق أراد أن يَلْبَس خُفَّه، فإذا بأفعى في داخلها فلسعَتْه، فلما أحسّ الموت استلقى على قَفاه، ثم أنشأ يقول:
دَعاني الهَوَى من أهل أودَ وصُحْبَتي
***
بذِي الطَّبَسينْ؟ فآلتفتُّ ورَائِياً
فما رَاعني إلا سَوَابقُ عَبْرَة
***
تقَنَعتُ منها أنْ ألام ردائيا
ألم تَرَني بِعْتُ الضلالةَ بالهدَى
***
وأصبحتُ في جَيْش ابن عَفّان غازيا
فللّه درِّى حين أَتْرُك طائعاً
***
بَنيَّ بأعْلَى الرقْمَتين وماليا
ودَرّ كبيرَىَّ اللذين كِلاهما
***
علَيَّ شفيقٌ ناصح لو نهانيا
ودرُّ الظِّبَاء السانحات عَشيةً
***
يُخَبَرْن أني هالكٌ من أماميا
تقول ابنتي لما رأت وَشْك رِحْلتي
***
سِفَارُك هذا تارِكي لا أباليا
ألا ليتَ شِعْري هل بَكتْ أمالك
***
كما كنتُ لو عالَوْا نَعِيك باكيا
على جَدَث قد جرَّت الرِّيح فوقَه
***
تُرَابا كسَحْق المَرْنبانيّ هابيا
فيا صاحَبيْ رَحْلِي دَنا الموت فاحفِرَا
***
برابية إنّي مُقيم لياليا
وخُطّا بأطراف الأسِنَّة مَضْجعِي
***
ورُدَّا عَلَى عَيْني فَضْلَ رِدَائيا
ولا تَحْسداني بارَك الله فيكما
***
من الأرض ذاتِ العَرْض أن توسِعاليا
خُذَاني فَجُراني بِبُرْدِي إليكما
***
وقد كنت قبلَ اليوم صَعْباً قيَاديا
تفَقَّدْت مَنْ يَبكى عليّ فلم أجد
***
سوى السَّيف والرُّمح الردَيّنيِّ باكيا
وأدْهَم غِرْبيب يجرُّ لِجَامَه
***
إلى الماء لم يَترك له الموت ساقيا
وبالرمل لو يَعْلمَنْ علْمِي نِحسوَةٌ
***
بَكَين وفَدَّيْن الطبيبَ المُدَاوِيا
عَجُوزِي وأخْتاي اللَّتان أصِيبتا
***
بِمَوتي وبِنْت لي تَهِيج البَوَاكيا
لعمري لَئِن غالت خُراسانُ هامتي
***
لقد كنتُ عن بابَيْ خرَاسان نائيا
تَحَمَّل أصحابي عِشَاءَ وغادَرُوا
***
أخا ثِقَةٍ في عَرْصَة الدَار ثاوِيا
يَقُولون لا تَبْعَد وهم يَدْفِنُونني
***
وأينَ مَكان البُعْدِ إلا مَكانيا
وقال رجُل من بني تَغْلب يقال له أفْنُون، وهو لَقبه، واسمه صُرَيم بن مَعْشر بن ذُهْل بن تَيْم بن عمرو بن مالك بن حَبيب بن عمرو بن عُثمان بن تَغْلِب، ولَقِيَ كاهناً في الجاهلية، فقال له:
إنك تموت بمكان يقال له إلاهَة. فمكث ما شاء الله، ثم سافر في رَكْب من قومه إلى الشام فأتَوْها، ثم انصرفوا فضلّوا الطَّريق، فمالوا لرجل:
كيف نَأخذ؟ فقال:
سِيرُوا حتى إذا كنتم بمكان كذا وكذا ظَهَر لكم الطريق ورَأيتم إلاهة - وإلاهة قارة بالسّماوة - فلما أتَوْها نزل أصحابُه وأبى أن يَنْزل، فبينما ناقتُه تَرْتعى وهو راكبها إذ أخَذتْ بمشْفر ناقته حَيَّة، فاحتكت الناقةُ بمشْفرِها فلدغتْ ساقه؛ فقال لأخيه وكان معه، واسمَه مُعاوية:
احفر لي فإني ميّت، ثَم تغنِّى قبل أن يموت يبكى نفسه:
فلستُ على شيء فُروحَنْ مُعاويا
***
ولا المُشْفِقاتُ إذ تَبِعْنَ الحوَازيا
ولا خَيْرَ فيما يَكْذِب المرْءُ نفسَه
***
وتَقْوَالِه للشيء يا ليت ذا ليا
وإن أعْجَبَتك الدهرَ حال من آمرىء
***
فَدَعْه ووَاكلْ حاله واللّياليا
يَرُحن عليه أو يُغَيِّرْن ما به
***
وإنْ لم يَكُنْ في خَوْفِه العَيْث وإنيا
فطأ مُعْرضاً إنِّ الحُتُوف كثيرةٌ
***
وأنَّك لا تبْقى بنَفْسِك باقيا
لعَمْرك ما يَدْري آمرؤ كيف يَتَّقىِ
***
إذا هو لم يَجْعل له الله وَاقيا
كفي حَزناً أن يَرحل الرَّكب غُدْوَةَ
***
وأنزِلَ في أعلَى إلاهة ثاويا
قال:
فمات فَدَفَنوه بها. وقال هُدْبة العذُرِي لما أيْقن بالموت:
ألا عَلَلاني قبل نَوْح النوائح
***
وقبلَ آطّلاع النَّفس بين الجَوَانح
وقَبل غدٍ يالَهْفَ نفْسي على غَدٍ
***
إذا راح أصحَابي ولستُ برائح
إذا راح أصحابي بِفَيض دُموعهم
***
وغُودِرتُ في لَحْدٍ عليّ صَفَائحي
يَقولون هل أصلحتمُ لأخِيكُم
***
وما الرمْس في الأرض القِوَاء بصالح
وقال محمد بن بَشير:
ويلٌ لمن لم يَرْحَم الله
***
ومَن تكون النار مثْوَاهُ
والوَيل لي من كل يوم أتى
***
يُذَكِّرُني الموتَ وأنسَاه
كأنّه قد قيل في مَجْلًس
***
قد كنتُ آتية وأغْشاه:
صار البَشيريّ إلى رَبّه
***
يَرْحَمًنا اللهّ وإياه
ولما حَضرت أبا العتاهية الوفاةُ - واسمه إسماعيل بن القاسم - أوصى بأن يُكْتَب على قَبره هذه الأبيات الأربعة:
أذْنَ حَيّ تسمعي
***
اسمعي ثم عِي وَعي
أنا رَهْنٌ بمَضْجَعيِ
***
فاحنَرِي مثلَ مَصْرَعي
عِشْتُ، تسعين حِجّةَ
***
ثم وافيتُ مَضجَعي
لي شيءٌ سِوى التُّقَى
***
فخذِي منه أو دَعِي
وعارَضه بعضُ الشعراء في هذه الأبيات، وأوْصى بأن تُكتب على قَبره أيضاً فكُتبت، وهي:
أَصبح القبرُ مَضْجَعي
***
ومَحلِّي. وِمَوْضِعي
صَرَعَتْني الحُتوف في
***
التُّرْب يا ذُلَ مَصْرَعي
أين إخوانيَ الذي
***
ن إليهم تَطلُّعي
متُّّ وَحْدِي فلم يَمُتْ
***
واحد مِنْهُمُ مَعي
وُجِد على قَبْر جارية إلى جَنْب قبر أبي نُواس ثلاثةُ أبيات، فقِيل إنها من قول أبي نواس، وهي:
أقول لِقَبْر زُرْتُه مُتَلثِّماً
***
سَقَى اللهّ بَرْدَ العفو صاحبة القبر
لقد غَيَّبُوا تحت الثَّرَى قَمَرَ الدُّجى
***
وشَمْس الضُحى بين الصَّفائح والعفْو
عَجِبْت لعينٍ بعدَها مَلَّت الْبكا
***
وقَلْبٍ عليها يَرْتَجى راحةَ الصًبر
الرياشي قال:
وُجدتْ تحت الفِراش الذي مات عليه أبو نُواس رقعةٌ مكتوب فيها هذه الأبيات:
يا ربّ إنْ عَظمت ذُنوبي كَثْرةًً
***
فلقد عَلِمتُ بأنَّ عَفْوَك أعْظَمُ
إن كان لا يَرْجوك إلا مُحْسِنٌ
***
فَبِمن يَلوذ ويستجير المُجْرِمُ
أدْعُوك ربِّ كما أمرتَ تَضرُّعاً
***
فإذا رَدَدْتَ يدِي فمن ذا يَرْحم
مالي إليك وسيلةٌ إلا الرّجا
***
وجَميلُ عَفوك ثم أني مُسْلِمُ
الخُشنىّ قال:
أخبرنا بعضُ أصحابنا ممن كان يَغْشى مجلس الرِّياشي، قال:
رأيتُ علي قبر أبي هاشم الإياديّ بواسط:
الموتُ أخْرَجَني من دار مَمْلكتِي
***
والموتُ أضْرَعني من بَعد تَشْريفِي
لله عَبْدٌ رَأى قَبري فأعْبرَه
***
وخاف من دَهْره رَيْبَ التَصارِيف
الأصمعي قال:
أخذ بيدي يحيى بن خالد بن بَرْمك فوقفني على قبره بالحِيرة فإذا عليه مكتوب:
إنَّ بَنِي المُنذر لما آنقضَوْا
***
بحب شاد البَيْعة الراهب
تنفَح بالمِسْك مَحاريبهم
***
وعنبرٍ يقطبه قاطِبُ
والخُبز واللَحم لهم راهنٌ
***
وقهْوَة راوُوقها ساكِب
والقُطْنُ والكَتّان أثوابُهم
***
لم يَجْلِب الصُوفَ لهم جالِب
فأَصْبَحوا قُوتاً لدُود الثَّرى
***
والدَهرُ لا يَبْقى له صاحِب
كأنما حياتُهم لُعْبَة
***
سَرَى إلى بِينِ بها راكب
وقال أبو حاتم:
بِين:
مَوضع من الحِيرة على ثلاث ليال.
الشَيبانيّ قال:
وُجد مكتوباً على بعض القبور:
مَل الأحِبّةُ زَوْرتي فجفيت
***
وسَكنتُ في دار البلَى فنسيتُ
الحيّ يَكْذِب لا صَديقَ لِمَيِّتٍ
***
لو كَان يَصْدُق مات حين يَمُوت
يا مُؤْنِسا سَكن الثَّرى وَبَقِيتُ
***
لو كنتُ أصدُق إذ بليتُ بَليت
أو كان يعمَى للبكاء مُفَجًع
***
من طُول ما أبكِي عليك عَمِيت
وقال محمدُ بن عبد الله:
وعمّا قلَيلٍ لنْ تَرى باكياً لنا
***
سَيَضْحك من يَبْكى وُيعْرض عن ذِكْري
تَرى صاحبي يبكى قليلاً لِفًرْقتي
***
ويَضْحك من طُول اللَيالي على قَبري
ويُحْدِث إخواناً ويَنْسى مَودَتي
***
وتَشْغله الأحباب عنّي وعن ذِكْري
من رثى ولده:
فمن قولى في وَلدي:
بَلِيت عِظامُك والأسىَ يتجَدَد
***
والصبْر يَنْفَد والبُكا لا يَنْفَدُ
يا غائباً لا يُرْتَجَىِ لِإيَابه
***
ولقائه دونَ القِيامة مَوْعد
ما كان أحْسَنَ ملْحَداً ضُمِّنْته
***
لو كان ضَّم أباك ذاك المُلْحَد
باليأس أسْلو عنك لا بتجلّدِي
***
هيهاتَ أين من الحَزين تَجَلّد
ومن قولي فيه أيضاً:
واكَبِدَا قد قُطعت كَبِدي
***
وحَرَّقتها لواعجُ الكَمدِ
ما مات حَيٌ لميِّتٍ أسَفآَ
***
أعذر من والدِ على وَلد
يا رَحْمةَ الله جاوِرِي جَدَثاً
***
دفَنْتُ فيه حُشَاشتي بِيَدي
ونَوِّري ظًلْمة القُبور على
***
مَن لم يَصِلْ ظُلْمُه إلى أحد
من كان خِلْواً من كل بائقِةِ
***
وطَيِّبَ الرُّوح طاهرَ الجَسَد
يا موت، يَحيى لقد ذهبتَ له
***
ليس بُزمَّيْلَةٍ ولا نَكِد
يا مَوْتَه لو أقلتَ عَثْرته
***
يا يومَه لو تركتَه لِغَدِ
يا موتُ لو لم تَكُن تعاجله
***
لكان لا شكّ بَيْضَة البَلد
أو كنتَ راخيتَ في العِنان
***
حاز العُلا واحتَوَى على الأمد
أي حسام سلبت رَوْنَقه
***
وأيَّ رُوح سًللت من جَسد
وأيَ ساقٍ قطعت من قَدَم
***
وأيَ كَفٍّ أزلْت من عَضدُ
يا قمراً أجْحف الخُسوف به
***
قبل بُلوغ السواء في العَدَد
أيُّ حَشاً لم تَذُب له أسفاً
***
وأيّ عَيْن عليه لم تَجُد
لا صَبْر لي بعدَه ولا جَلَدٌ
***
فجعتُ بالصَّبر فيه والجَلَد
لو لم أَمُتْ عند مَوْته كمَداً
***
لَحُقّ لي أن أموت من كَمَدي
يا لَوْعةً ما يزال لاعِجُها
***
يَقْدح نارَ الأسى على كَبِدي
وقلت فيه أيضاً:
قَصَد المَنُون له فمات فَقِيدَا
***
ومَضى على صَرْف الخطُوب حَمِيدا
بأبي وأمِّي هالِكاً أفْرِدتُه
***
قد كان في كلِّ العُلوم فَرِيدا
سُود المقَابر أصبحتْ بِيضاً به
***
وغَدت له بيضُ الضمائر سُودا
لم نُرْزَه لما رزِينا وَحْدَه
***
وإن استقلّ به المنون وَحِيدا
لكنْ رُزِينا القاسمَ بنَ محمّد
***
في فَضْله والأسْودَ بنَ يَزيدا
وابن المُبارك في الرقائق مُخْبِراً
***
وابن المُسيِّب في الحديث سَعِيدا
والأخفَشيَنْ فَصاحةً وبلاغةً
***
والأعْشَيَيْن رِوايةً ونشيدا
كان الوَصيَّ إذا أردتُ وصيّةً
***
والمُستفادَ إذا طلبتُ مفِيدا
وَلَّى حَفيظاً في الأذمّة حافظا
***
ومَضى ودودا في الوَرَى مَوْدُودا
ما كان مِثْلى في الرَّزَّية والداً
***
ظَفرتْ يَداه بمثله مَوْلُودا
حتى إذا بَذَ السَّوابق في العلا
***
والعِلْم ضمِّن شِلْوُه مَلْحودا
يا مَن يُفنِّد في البُكاء مُوَلَّها
***
ما كان يَسْمسَ في البُكا تَفْنِيدا
تأبَى القُلوب المسْتَكِينة للأسى
***
مِن أن تَكون حجارةً وحَدَيدا
إن الذي باد السُّرورُ بِموْته
***
ما كان حُزني بعده لِيَبِيدا
الآنَ لما أن حَوَيتَ مآثرِاً
***
أعْيَت عَدُوّا في الوَرَى وحَسُودا
ورأيتُ فيك من الصلاح شمائلاً
***
ومن السَّماح دلائلاً وشُهودا
أبْكِي عليك إذا الحمامة طَرَّبت
***
وَجْهَ الصَّباح وَغَرِّدت تَغْريدا
لولا الحَياء وأنْ أزَنّ بِبِدْعة
***
مما يُعدِّده الوَرى تعْدِيدا
لجعلتُ يومَك في المَنائح مَأتما
***
وجعلتُ يومَك في الموالد عِيدا
وقلت فيه أيضاً:
لا بَيْتَ يُسْكن إلا فارَق السكَنَا
***
ولا امتلا فَرَحاً إلا امتلا حَزَنَا
لَهْفِي على مَيِّت مات السُّرور به
***
لو كَان حَيًّا لأحْيَا الدينَ والسُّنَنا
واهاً عليك أبا بَكْرٍ مُرَدَّدةً
***
لو سَكَّنتْ ولَهاً أو فَتَرت شَجَنا
إذَا ذكرتُك يوماً قُلت واحَزَنا
***
وما يَرُد عليّ القَوْلُ:
واحَزَنا
يا سيّدي ومَراح الرُّوح في جَسدي
***
هلا دَنا الموتُ منّي حين مِنْك دنا
حتى يعود بنا في قعْرِ مُظْلمة
***
لَحْدٍ وُيلْبسَنا في واحدٍ كَفَنا
يا أطيب الناس رُوحا ضمَّه بَدَنٌ
***
أسْتَودع اللهّ ذاك الروح والبَدَنا
لو كنتُ أعطَي به الدنيا مُعاوَضةً
***
منه لما كانت الدُنيا له ثَمنا
وقال أبو ذُؤيب الهُذلي، وكان له أولادٌ سبعة فماتوا كلّهم إلا طفلا، فقال يرثيهم:
أمِنَ المَنون وَرَيْبه نَتَوجع
***
والدَهر ليس بمًعْتِب من يَجْزَعُ
قالت أمَيمة ما لجسْمك شاحباً
***
منذ ابتُذِلْت ومثلُ مالك يَنْفع
أم ما لجسمك لا يُلائِم مَضْجَعاً
***
إلا أقَضَّ عليك ذاك المَضْجع
فأجبتُها أن ما لجسْمي أنّه
***
أوْدىَ بنَي من البِلاَد فودَعوا
أودى بَنيّ وأعقَبُوني حَسْرةً
***
بعد الرُّقاد وعَبْرةً ما تُقلِع
سَبَقُوا هًوىّ وأعْنَقُوا لهواهمُ
***
فَتُخرِّموا ولكلِّ جَنْبٍ مَصرَع
فَبقِيت بعدهُم بعَيْشٍ ناصِبٍ
***
وإخَال أنِّي لاحقٌ مسْتتبِع
ولقد حَرَصْت بأن أدافع عنهم
***
وإذا المَنيّة أقبلتْ لا تُدْفَع
وإذا المنيَّة أنْشَبت أظفارَها
***
ألفيتَ كلَّ تَمِيمة لا تَنْفع
فالعين بَعدهُم كأنّ حِدَاقها
***
سُمِلت بشَوْك فهي عُورٌ تَدْمَع
حتى كأنِّي للحوادثِ مَرْوَةٌ
***
بصفَا المُشرَّق كل يومِ تُقرع
وتَجلُّدي للشامتين أرِيهمُ
***
أَنِّي لِرَيْب الدَّهر لا أتَضَعْضَع
وقال في الطِّفل الذي بقي له:
والنفسُ راغبةٌ إذا رَغَّبْتَها
***
وإذا تُردُّ إلى قليلٍ تَقنَعُ
وقال الأصمعي:
هذا أبْدَع بَيْت قالته العرب.
وقال أعرابيٌّ يَرْثى بَنِيه:
أسُكّان بَطْن الأرْض لو يُقْبَلُ الفِدَا
***
فَدَينا وأعْطينا بكم ساكِني الظَّهْرِ
فيا ليتَ مَن فيها عليها وليتَ مَن
***
عليها ثَوَى فيها مُقِيماً إلى الحَشْر
وقاسَمني دهرِي بَنيّ بِشَطْره
***
فلما تَقَصىَّ شَطْرُه مالَ في شَطْري
فصارُوا دُيوناً للمَنايا ولم يَكُن
***
عليهم لها دَيْن قَضَوْه على عُسْر
كأنهمُ لم يَعْرف الموتُ غيرَهم
***
فثُكْلٌ على ثُكلِ وقبر إلى قَبْر
وقد كنتُ حَيَّ الخَوْفِ قبل وَفاتهم
***
فلما تُوفّوا مات خوْفي من الدَّهر
فلله ما أعْطى وللّه ما حَوَى
***
وليس لأيّام الرزَّية كالصَّبر
المراثي 2
۞۞۞۞۞۞۞
وقيل لأعرابية مات ابنها:
ما أحسنَ عزاءَك؟ قالت:
إن فَقْدي إياه امنَني كل فَقْدٍ سواه، وإن مُصيبتي به هونت عليّ المصائب بعده. ثم أنشأت تقول:
مَن شاء بعدك فَلْيَمُتْ
***
فَعَليك كنت أحاذِرُ
كُنتَ السَّوادَ لناظري
***
فَعَمِي عليكَ الناظِر
ليتَ المنازلَ والدِّيا
***
رَ حَفائر ومَقابر
إنِّي وَغَيري لا محا
***
لةَ حيثُ صِرْتَ لصائر
أخذ الحسنُ بن هانئ معنى هذا البيت الأول، فقال في الأمين:
طَوَى الموت ما بَيْني وبين محمد
***
وليس لمَا تَطْوِي المِنيّة ناشر
وكنتُ عليه أحذر الموتَ وحدَه
***
فلم يَبْق لي شيءٌ عليه أحاذير
لئن عَمَرت دُورٌ بمن لا أحبّه
***
لقد عَمَرت ممّن أحبّ المقابر
وقال عبدُ الله بن الأهتم يَرْثي ابنا له:
دَعوتُك يا بُنيِّ فلم تجِبْني
***
فَرُدّت دَعْوِتي يأساً عليِّ
بموتك ماتت اللّذات منّي
***
وكانت حَيَّةَ ما دُمتَ حياً
فيا أسفَا عليك وطُولَ شَوْقي
***
إليك لو ان ذلك رَدّ شَيّا
وأصيب أبو العتاهية بابن له، فلما دَفنه وقَف على قبره وقال:
كَفي حَزَناً بَدَفْنك ثم أنِّي
***
نَفَضْتُ تُراب قَبْرك مِن يَدَيّا
وكانت في حياتك لي عِظاتٌ
***
فأنت اليومَ أوْعظُ منك حَيّا
ومات ابن لأعرابيّ فاشتد حُزْنه عليه، وكان الأعرابيّ يُكْنى به، فقيل له:
لو صَبرتَ لكان أعظمَ لثوابك؟ فقال:
بأبي وأمِّي من عَبَأْتُ حَنًوطَه
***
بيدي وفارقَني بماء شَبابه
كيف السُّلوّ وكيف أنسى ذِكْره
***
وإذا دُعِيت فإنما أدْعَي به
خرج عمرُ بن الخطّاب رضي اللهّ عنه يوماً إلى بقيع الغَرْقد، فإذا أعرابي بين يديه، فقال:
يا أعرابيّ، ما أدخلك دارَ الحق؟ قال:
وَدِيعة لي ها هنا منذُ ثلاث سنين؟ قال:
وما وَديعتك؟ قال:
ابنٌ لي حين تَرَعْرع فقدتُه فأنا أنْدُبه؟ قال عمر:
أسْمِعني ما قلتَ فيه؛ فقال:
يا غائباً ما يؤوب من سَفَره
***
عاجَله موتُه على صِغَره
يا قُرّة العَين كُنْتَ لي سَكَناً
***
في طُول لَيْلى نَعم وفي قِصرَه
شَرِبْتَ كأساً أبوكَ شاربُها
***
لا بدُ يوماً له على كِبرَه
أشربُها والأنامِ كلهم
***
مَن كان في بَدْوِه وفي حَضَره
فالحَمْد لله لا شريك له
***
الموتُ في حُكمه وفي قَدَره
قد قَسَّم الموتَ في الأنام فما
***
يَقْدِر خَلْقٌ يَزِيد في عُمرُه
قال عمر:
صدقتَ يا أعرابي، غَير أن الله خيرٌ لك منه.
الشَيباني قال:
لما مات جَعفر بن أبي جعفر اْلمَنصور اشتدّ عليه حزنه، فلما فَرغ من دَفْنه التفت إلى الرَّبيع فقال:
يا ربيع، كيف قال مُطيع بن إياس في يحيى بن زياد؟ فأنشد:
يا هل دواء لِقَلْبيَ القَرِح
***
وللدُّموع الذوارِفِ السُّفُح
راحُوا بيحْيى ولو تًطاوعني الْ
***
أقدارُ لم يَبْتكر ولم يَرُح
يا خير من يَحسُن البُكاءُ به
***
الْيومَ ومَن كان أمس للمِدَح
قد ظَفِر الحُزنُ بالسُّرِور وقد
***
أديل مَكْروهُه مِنَ الفَرح
وقالت أعرابيةً تَنْدُب ابناً لها:
ابنيّ غَيّبك المَحلّ المُلْحَدُ
***
إمّا بَعُدت فأين من لا يَبْعُدُ
أنت الذي في كل مُمْسىَ لَيْلةٍ
***
تَبْلى وحُزْنك في الحَشىَ يتجدَّد
وقالت فيه:
لئن كنتَ لهواً للعُيون وقُوَّةً
***
لقد صِرْت سُقْماً للقُلوب الصَّحائح
وهَوَّن حُزْني أنّ يومَك مُدْرِكي
***
وأني غداً من أهل تلك الضَّرائح
وقال أبو الخطّار يَرْثي ابنه الخَطّار:
ألا خَبِّراني بارك الله فِيكماِ
***
مَتى العَهْدُ بالخَطّار يا فَتَيان
فتى لا يَرى نَومَ العِشاء غَنِيمةً
***
ولا يَنْثَني من صَوْلة الحَدَثَان
وقال جرير يرْثي ولده سَوَادَة:
قالوا نَصِيبَك من أجر فقلتُ لهم
***
كيف العزَاء وقد فارقتُ أشْبالي
ذا كم سَوادَةُ يَجْلو مُقْلَتيْ لَحِمٍ
***
بازٍ يُصَرْصر فوق المَرْقب العالَي
فارقتُه حين غَضَّ الدهرُ من بَصري
***
وحين صِرْت كعَظْم الرمّة البالَي
وقال أبو الشَّغْب يَرْثي ابنه شَغْباً:
قد كان شَغْبُ لو آن الله عَمّره
***
عِزًّا تُزاد به في عِزّها مُضَرُ
ليتَ الجبالَ تَدَاعت قبل مَصرعه
***
دَكَّا فلم يَبْقَ من أحجارها حَجَر
فارقتُ شَغْبا وقد قُوِّسْت من كِبَرٍ
***
بِئْس الخلِيطان طولُ الحُزْن والكِبَر
ولما تُوفي أيوبُ بن سُليمان بن عبد الملك في حياة سُليمان، وكانَ ولِيّ عهده وأَكبر ولده، رثاه ابن عبد الأعلى وكان من خاصّته، فقال فيه:
ولقد أقولُ لذي الشَّماتة إذ رَأَى
***
جَزَعي ومن يَذُق الحوادثَ يَجْزَع
أَبْشِر فقد قَرَع الحوادِثُ مَرْوَتي
***
وآفرحْ بِمَرْوَتك التي لم تُقْرَع
إنْ عِشْتَ تُفجَع بالأحِبّة كلِّهم
***
أو يُفْجَعوا بك إن بهم لم تُفْجَع
أَيًّوبُ من يَشْمَت بِموْتك لم يُطِقْ
***
عن نَفْسه دَفْعاً وهل مِن مَدْفع
الأصمعيّ عن رجلِ من الأعراب قال:
كُنّا عشرةَ إخْوة، وكان لنا أخ يقال له حسن، فَنُعِي إلى أبينا، فبقي سَنَتين، يَبْكي عليه حتى كُفَّ بَصَرُه، وقال فيه:
أَفلحتُ إن كان لم يَمُت حَسَنُ
***
وكُفّ عنّي البُكاءُ والحَزَنُ
بل أَكْذَب الله مَن نَعى حَسَناً
***
ليس لتَكْذِيب قَوْله ثَمَن
أَجُول في الدار لا أراك
***
وفي الدَّار أناس جِوارُهم غَبَن
بُدِّلْتُهم منك ليتَ أنهمُ
***
كانُوا وبَيْني وبَيْنهم مُدُن
قد عَلِموا عند ما أنافرهم
***
ما في قَناتي صَدْع ولا أُبَن
قد جَرَّبوني فما ألاوِمُهم
***
ما زال بَيني وبَينهم إحَن
قد بُرى الجسمُ مذ نُعيتَ لنا
***
كما بَرى فَرْع نَبْعة سَفَن
فإن نَعِشِ فالمُنى حَياتُكَ وال
***
خُلْد وأنت الحديثُ والوَسَن
إن تَحْيَ نحْيَ بخير عَيْشٍ وإن
***
تَمْض فتِلْك السَّبيلُ والسَّنن
بَريدُك الحمدُ والسَّلامُ مَعاً
***
فكُلّ حَيٍّ بالموت مُرْتَهَن
يا ويح نَفْسي أن كنتَ في جَدَثٍ
***
دونَك فيه الترابُ والكَفن
علي للّه إن لقيتك من
***
قَبْل الممات الصَيامُ والبُدُن
أسوقُها حافياً مُجلَّلةً
***
أدْما هِجَاناً قد كظَّها السِّمَن
فلا نُبالي إذا بَقيتَ لنا
***
من مات أو مَن أوْدى به الزَمن
كُنتَ خليلَي وكنتَ خالِصتي
***
لِكل حيٍّ من أهلْهِ سَكَن
لا خيرَ لي فيَ الحَياة بعدَك إِذْ
***
أصبحتَ تحت التراب يا حَسن
وقال اعرابي يرثي ابنه:
ولما دعوتُ الصبرَ بعدك والأسى
***
أجابَ الأسى طَوْعاً ولم يُجب الصَّبْرُ
فإِن يَنْقَطع منك الرَّجاء فإنه
***
سَيَبْقى عليك الحُزْن ما بَقِيَ الدَّهر
وقال أعرِابِيّ يرثي ابنه:
بُنَيّ لئن ضنَّت جُفونٌ بمائها
***
لقد قَرِحَتْ منّي عليك جُفُونُ
دَفنتُ بكفّي بَعْضَ نفسي فأصبحتْ
***
وللنفس منها دافِنٌ ودَفِين
وهذا نظير قوِلِي في طِفل أصبْت به:
على مِثْلها من فجْعة خانني الصَّبْر
***
فِراق حبيب دون أوْبته الحَشْرُ
ولي كَبِدٌ مَشْطُورة في يَدِ الأسى
***
فَتَحْتَ الثّرى شَطرٌ وفوق الثّرى شَطر
يَقولون لي صَبِّر فُؤادَك بعدَه
***
فقلتُ لهم مالي فؤادٌ ولا صَبر
فُرَيخ من الحُمْر الحواصل ما اكْتَسى
***
من الرِّيش حتى ضَمّه الموتُ والقَبْر
إذا قلتُ أسْلو عنه هاجت بلابلٌ
***
يُجدِّدها فِكْر يُجدِّده ذِكْر
وأنظر حَوْلي لا أرى غير قَبْرِه
***
كأنّ جَمِيعِ الأرْض عندي له قَبر
أفَرْخ جِنَان الخُلْد طِرْتَ بمُهْجتي
***
وليس سِوى قَعْرِ الضَّريح له وَكْر
وقالت أعرابيّة تَرْثي ولدها:
يا قَرْحة القَلْب والأحْشاء والكَبِدِ
***
يا ليت أمَّك لم تَحْبَل ولم تَلِدِ
لما رأيتًك قد أدْرِجْت في كَفن
***
مُطَيَّباً للمَنايا آخرَ الأبد
أيقنتُ بعدكَ أنِّي غيرُ باقيةٍ
***
وكيف يَبْقى ذراعٌ زال عن عَضُد
تُوفي ابنٌ لأعرابيّ فَبكى عليه حينا، فلما هَمّ أن يَسْلُو عنه تُوفيِّ له ابن آخر، فقال في ذلك:
إنْ أُفِقْ مِن حَزَنٍ هاج حَزَنْ
***
فَفُؤادي ما له اليومَ سَكَنْ
وكما تَبْلَى وُجوهٌ في الثَّرى
***
فَكذا يَبْلَى عليهنّ الحَزَن
وقال في ذلك:
عُيون قد بَكَيْنَك مُوجَعاتٍ
***
أضرَّ بها البُكاء وما يَنِينَا
إذا أنْفَذْن دَمْعاً بعد دمْعٍ
***
يُرَاجِعْن الشُؤونَ فيستقينا
أبو عبد الله البَجَلي قال:
وقفتْ أعرابيةٌ على قبر ابن لها يقال له عامر، فقالت:
أقمتُ أَبْكِيه على قَبْرِه
***
مَنْ ليَ مِن بَعْدك يا عامرُ
تَرَكْتَني في الدّار لي وَحْشَةٌ
***
قد ذلَّ مَن ليس له ناصِر
وقالت فيه:
هو الصَّبْرُ والتَسْلِيم للِهّ والرضّا
***
إِذ نَزلتْ بي خُطَّة لا أَشاؤُهَا
إذا نحنُ أُبْنا سالمِينَ بأنْفُسٍ
***
كِرَام رَجَتْ أمْراً فَخاب رجاؤُها
فأنْفَسُنا خير الغنيمة إنَّها
***
تَؤُوب ويَبْقَى ماؤُها وحَياؤُها
ولا برَّ إلا دون ما بَرَّ عامِرٌ
***
ولكنَّ نفساً لا يَدُوم بقاؤها
هو ابنىَ أَمْسى أجره " لي " وعَزَّني
***
على نَفْسِه رَبُّ إليه وَلاَؤُها
فإنْ احْتَسِب أوجَر وإن أبكِه أكنْ
***
كباكيةٍ لم يُحْي مَيّتَاً بُكاؤُها
الشَيبانيّ قال:
كانت امرأة من هُذَيل لها عَشرة إخْوة وعَشْرَة أعمام، فَهَلكوا جمعياً في الطاعون، وكانت بِكْراً لم تَتزوّج، فَخَطبها ابن عمّ لها فتزوّجها، فلم تَلْبث أنْ اشتملت على غُلام فولدتْه، فنَبت نباتاً كأنما يُمد بناصِيَته، وبلغ، فزوّجتْه وأخذتْ في جَهازه، حتى إذا لم يَبْق إلا البِنَاء " بأهْله " أتاه أجلُه فلم تَشُقِّ لها جَيْباً ولم تَدْمَع لها عَين، فلما فَرغوا من جَهازه دُعِيت لتوديعه، فأكبَّت عليه ساعةَ، ثم رَفعت رأسَها ونظرت إليه وقالت:
ألا تلك المَسَرَّة لا تَدُوم
***
ولا يَبْقَى على الدَّهر النَّعيمُ
ولا يبقى على الحَدَثان غُفْر
***
بشَاهِقَةٍ له أمٌّ رءُوم
ثم اكبَّتْ عليه أخرى، فلم تقطع نَحيبها حتى فاضت نَفسُها، فَدُفِنا جميعاً.
خَليفة بن خَيّاط قال:
ما رأيت أشدَّ كَمَداً من آمرأة من بني شَيبان قُتِل ابنها وأبوها وزَوجُها وأمّها وعَمَّتها وخالتُها معِ الضَّحّاك الحَرُورِيّ، فما رأيتُها قطُّ ضاحكةً ولا مُتَبَسِّمَةَ حتى فارقت الدنيا، وقالت ترثيهم:
مَنْ لِقَلْبٍ شَفَّه الحَزَنُ
***
ولنَفْس ما لها سَكَن
ظَعَنِ الأبرًارُ فآنْقلَبُوا
***
خَيْرَهم من مَعْشر ظَعَنُوا
مَعْشر قضَوْا نُحوبهم
***
كل ما قد قدَّموا حَسَن
صَبَرُوا عند السّيُوف فلم
***
يَنْكلُوا عنها ولا جَبُنُوا
فِتْيةٌ باعُوا نًفوسَهُم
***
لا وَرَبِّ البَيْتِ ما غُبِنُوا
فأصاب القومُ ما طَلَبوا
***
مِنَّةً ما بعدها مِنَن
وقال عبدُ الله بن ثَعلبة يَرْثي ولداً له:
أأخْضِب رَأسي أم أطَيِّبُ مَفْرِقي
***
ورَأْسُك مَرْموسٌ وأنتَ سلِيبُ
نَسِيبُك من أمْسى يُناجِيك طَرْفُه
***
وليس لمن تحت التراب نَسِيب
غَرِيبٌ وأطْرافُ البُيوت تُكِنّه
***
ألاَ كلّ مَن تحت التراب غريب
قال العُتْبِيّ - محمدُ بن عُبيد اللّه - يرثِي ابنا له:
أَضْحَتْ بخدي للدُّموع رُسُومُ
***
أسَفاً عليك وفي الفؤاد كُلُومُ
والصَّبْر يُحمد في المَوَاطن كلِّها
***
إلاّ عليك فإنّه مَذْمُوم
خَرج أعرابيّ هارباً من الطاعون، فبينما هو سائر إذْ لدغته أفعَى فمات، فقال أبوه يَرْثيه:
طافَ يَبْغِي نَجْوَة
***
مِنْ هَلاَكٍ فَهَلَكْ
والمَنَايَا رَصَدٌ
***
للْفَتَى حيثُ سَلَك
ليتَ شِعْري ضَلّةً
***
أي شيءٍ قَتَلك
كلُّ شيءٍ قاتِلٌ
***
حين تَلْقى أجلَك
لما قَتل عبد الله المأمون أخاه محمدَ بنَ زبيدة أرسلت أمه زُبيدة بنت جَعْفر إلى أبي العَتاهية أن يقول أبياتاً على لسانها للمأمون، فقال:
ألا إن رَيْبَ الدّهر يُدْنىِ ويًبْعِد
***
وللدَّهْرِ أيَّام تُذَمّ وتُحْمَدُ
أَقول لرَحيب الدَّهر إن ذَهبتْ يدٌ
***
فقد بَقِيتْ والحمدُ للهّ لِي يَد
إذا بَقِيَ المأمونُ لِي فالرَّشِيدُ لِي
***
وليِ جَعْفَرٌ لم يَهْلِكَا ومحمّد
وكَتبت إليه من قوله:
لخير إمام مِن خَير مَعْشَر
***
وأكرم بَسَّام على عُودِ مِنْبَرِ
كَتبتُ وَعينىِ تستهلُّ دُموعُها
***
إليْك ابن يَعْلي من دمُوعي ومحْجري
فُجِعْنا بأدنىَ الناس مِنك قَرَابةً
***
ومَن زلَّ عن كِبْدي فقَلّ تَصبُّري
أتىَ طاهرٌ لا طهَّر الله طاهراً
***
وما طاهرٌ في فِعْله بمُطَهَّر
فأبْرزَني مَكْشوفَة الوَجْه حاسِراً
***
وأنْهَب أمْوالِي وخَرَّب أدْوُرِي
وعَزَّ على هارونَ ما قد لَقِيتُه
***
وما نابني مِن ناقِص الخَلْق أعْوَرِ
فلما نَظر المأمونُ إلى كِتَابها وَجّه إليها بِحباء جَزِيل، وكتب إليها يَسألها القُدومَ عليه، فلم تَأْتِهِ في ذلك الوقت وقَبِلتْ منه ما وجّه " به " إليها. فلما صارتْ إليه بعد ذلك قال لها:
مَن قائل الأبيات؟ قالت:
أبو العَتاهية؛ قال:
وبكم أمرْتِ له؟ فقالت:
بعشرين ألفَ دِرْهم؟ قال المأمون:
وقد أمرنا له بمثل ذلك. واعتذر إليها من قَتْل أخيه محمد، وقال " لها " :
لستُ صاحبَه ولا قاتِلَه. فقالت:
يا أميرَ المؤمنين، إنّ لكما يوماً تَجْتمعان فيه، وأرْجو أنْ يَغْفِر اللهّ لكما إن شاء اللّه.
أبُو شَأس يَرثي ابنه شأسا:
ورَبيَّتُ شأساً لِرَيْب الزمان
***
فلله تَرْبيتي والنَّصبْ
فلَيتَك يا شأسُ فيمن بَقِي
***
وكنتُ مكانَك فيمنْ ذَهَب "
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب الدرة في المعازي والمراثي ﴿ 7 ﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞