باب امر اهل المدينة بالاحرام من عند مسجد ذي الحليفة
باب امر اهل المدينة بالاحرام من عند مسجد ذي الحليفة
قَوْله عَنْ اِبْن عُمَر: (قَالَ بَيْدَاؤُكُمْ هَذِهِ الَّتِي تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها، مَا أَهَلَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ عِنْد الْمَسْجِد، يَعْنِي ذَا الْحُلَيْفَة)، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (مَا أَهَلَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ عِنْد الشَّجَرَة حِين قَامَ بِهِ بَعِيره) قَالَ الْعُلَمَاء: هَذِهِ الْبَيْدَاء هِيَ الشَّرَف الَّذِي قُدَّام ذِي الْحُلَيْفَة إِلَى جِهَة مَكَّة، وَهِيَ بِقُرْبِ ذِي الْحُلَيْفَة، وَسُمِّيَتْ بَيْدَاء؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فيها بِنَاء وَلَا أَثَر، وَكُلّ مَفَازَة تُسَمَّى بَيْدَاء، وَأَمَّا هُنَا فَالْمُرَاد بِالْبَيْدَاءِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَقَوْله: (تَكْذِبُونَ فيها) أَيْ تَقُولُونَ: إِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ مِنْهَا، وَلَمْ يُحْرِم مِنْهَا وَإِنَّمَا أَحْرَمَ قَبْلهَا مِنْ عِنْد مَسْجِد ذِي الْحُلَيْفَة، وَمِنْ عِنْد الشَّجَرَة الَّتِي كَانَتْ هُنَاكَ، وَكَانَتْ عِنْد الْمَسْجِد.
وَسَمَّاهُمْ اِبْن عُمَر كَاذِبِينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَاف مَا هُوَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّل هَذَا الشَّرْح فِي مُقَدِّمَة صَحِيح مُسْلِم أَنَّ الْكَذِب عِنْد أَهْل السُّنَّة هُوَ الْإِخْبَار عَنْ الشَّيْء بِخِلَافِ مَا هُوَ، سَوَاء تَعَمَّدَهُ أَمْ غَلِطَ فيه أَوْ سَهَا، وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَة: يُشْتَرَط فيه الْعَمْدِيَّة، وَعِنْدنَا أَنَّ الْعَمْدِيَّة شَرْط لِكَوْنِهِ إِثْمًا لَا لِكَوْنِهِ يُسَمَّى كَذِبًا، فَقَوْل اِبْن عُمَر جَارٍ عَلَى قَاعِدَتنَا، وَفيه أَنَّهُ لَا بَأْس بِإِطْلَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَة، وَفيه دَلَالَة عَلَى أَنَّ مِيقَات أَهْل الْمَدِينَة مِنْ عِنْد مَسْجِد ذِي الْحُلَيْفَة، وَلَا يَجُوز لَهُمْ تَأْخِير الْإِحْرَام إِلَى الْبَيْدَاء، وَبِهَذَا قَالَ جَمِيع الْعُلَمَاء، وَفيه أَنَّ الْإِحْرَام مِنْ الْمِيقَات أَفْضَل مِنْ دُوَيْرَة أَهْله؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الْإِحْرَام مِنْ مَسْجِده مَعَ كَمَالِ شَرَفه، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَات لِبَيَانِ الْجَوَاز، قُلْنَا: هَذَا غَلَط لِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّ الْبَيَان قَدْ حَصَلَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة فِي بَيَان الْمَوَاقِيت.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِعْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا يُحْمَل عَلَى بَيَان الْجَوَاز فِي شَيْء يَتَكَرَّر فِعْله كَثِيرًا، فَيَفْعَلهُ مَرَّة أَوْ مَرَّات عَلَى الْوَجْه الْجَائِز، لِبَيَانِ الْجَوَاز، وَيُوَاظِب غَالِبًا عَلَى فِعْله عَلَى أَكْمَل وُجُوهه، وَذَلِكَ كَالْوُضُوءِ مَرَّة وَمَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا كُلّه ثَابِت، وَالْكَثِير أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَمَّا الْإِحْرَام بِالْحَجِّ فَلَمْ يَتَكَرَّر، وَإِنَّمَا جَرَى مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّة وَاحِدَة، فَلَا يَفْعَلهُ إِلَّا عَلَى أَكْمَلَ وُجُوهه.
وَاَللَّه أَعْلَم.باب امر اهل المدينة بالاحرام من عند مسجد ذي الحليفة
باب امر اهل المدينة بالاحرام من عند مسجد ذي الحليفة
باب امر اهل المدينة بالاحرام من عند مسجد ذي الحليفة