باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم
باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَمْس فَوَاسِق يُقْتَلْنَ فِي الْحِلّ وَالْحَرَم: الْحَيَّة وَالْغُرَاب الْأَبْقَع وَالْفَأْرَة وَالْكَلْب الْعَقُور وَالْحُدَيَّا».
وَفِي رِوَايَة: «الْعَقْرَب» بَدَل: «الْحَيَّة»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُولَى: «أَرْبَع» بِحَذْفِ الْحَيَّة وَالْعَقْرَب، فَالْمَنْصُوص عَلَيْهِ السِّتّ.
وَاتَّفَقَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز قَتْلهنَّ فِي الْحِلّ وَالْحَرَم وَالْإِحْرَام، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوز لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُل مَا فِي مَعْنَاهُنَّ، ثُمَّ اِخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى فيهنَّ، وَمَا يَكُون فِي مَعْنَاهُنَّ، فَقَالَ الشَّافِعِيّ: الْمَعْنَى فِي جَوَاز قَتْلهنَّ كَوْنهنَّ مِمَّا لَا يُؤْكَل، وَكُلّ مَا لَا يُؤْكَل وَلَا هُوَ مُتَوَلِّد مِنْ مَأْكُول وَغَيْره فَقَتْله جَائِز لِلْمُحْرِمِ، وَلَا فِدْيَة عَلَيْهِ، وَقَالَ مَالِك: الْمَعْنَى فيهنَّ كَوْنهنَّ مُؤْذِيَات، فَكُلّ مُؤْذٍ يَجُوز لِلْمُحْرِمِ قَتْله، وَمَا لَا فَلَا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِالْكَلْبِ الْعَقُور فَقِيلَ: هُوَ الْكَلْب الْمَعْرُوف، وَقِيلَ: كُلّ مَا يَفْتَرِس؛ لِأَنَّ كُلّ مُفْتَرِس مِنْ السِّبَاع يُسَمَّى كَلْبًا عَقُورًا فِي اللُّغَة.
وَأَمَّا تَسْمِيَة هَذِهِ الْمَذْكُورَات فَوَاسِق فَصَحِيحَة جَارِيَة عَلَى وَفْق اللُّغَة، وَأَصْل الْفِسْق فِي كَلَام الْعَرَب: الْخُرُوج، وَسُمِّيَ الرَّجُل الْفَاسِق لِخُرُوجِهِ عَنْ أَمْر اللَّه تَعَالَى وَطَاعَته، فَسُمِّيَتْ هَذِهِ فَوَاسِق لِخُرُوجِهَا بِالْإِيذَاءِ وَالْإِفْسَاد عَنْ طَرِيق مُعْظَم الدَّوَابّ، وَقِيلَ: لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْم الْحَيَوَان فِي تَحْرِيم قَتْله فِي الْحَرَم وَالْإِحْرَام، وَقِيلَ: فيها لِأَقْوَالٍ أُخَر ضَعِيفَة لَا نَعْتَنِيهَا.
وَأَمَّا: «الْغُرَاب الْأَبْقَع» فَهُوَ الَّذِي فِي ظَهْره وَبَطْنه بَيَاض، وَحَكَى السَّاجِيُّ عَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوز لِلْمُحْرِمِ قَتْل الْفَأْرَة، وَحُكِيَ غَيْره عَنْ عَلِيّ وَمُجَاهِد أَنَّهُ لَا يُقْتَل الْغُرَاب، وَلَكِنْ يُرْمَى، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ عَنْ عَلِيّ.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز قَتْل الْكَلْب الْعَقُور لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلَال فِي الْحِلّ وَالْحَرَم، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَاد بِهِ، فَقِيلَ: هَذَا الْكَلْب الْمَعْرُوف خَاصَّة، حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَة وَالْحَسَن بْن صَالِح، وَأَلْحَقُوا بِهِ الذِّئْب، وَحَمَلَ زُفَر مَعْنَى الْكَلْب عَلَى الذِّئْب وَحْده، وَقَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء: لَيْسَ الْمُرَاد بِالْكَلْبِ الْعَقُور تَخْصِيص هَذَا الْكَلْب الْمَعْرُوف، بَلْ الْمُرَاد هُوَ كُلّ عَادٍ مُفْتَرِس غَالِبًا كَالسَّبُعِ وَالنَّمِر وَالذِّئْب وَالْفَهْد وَنَحْوهَا، وَهَذَا قَوْل زَيْد بْن أَسْلَمَ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَابْن عُيَيْنَةَ وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَغَيْرهمْ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْهُمْ وَعَنْ جُمْهُور الْعُلَمَاء وَمَعْنَى: «الْعَقُور» و«الْعَاقِر»: الْجَارِح، وَأَمَّا: «الْحِدَأَة» فَمَعْرُوفَة وَهِيَ بِكَسْرِ الْحَاء مَهْمُوزَة، وَجَمْعهَا (حِدَأ) بِكَسْرِ الْحَاء مَقْصُور مَهْمُوز كَعِنَبَةِ وَعِنَب، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «الْحُدَيَّا» بِضَمِّ الْحَاء وَفَتْح الدَّال وَتَشْدِيد الْيَاء مَقْصُور، قَالَ الْقَاضِي: قَالَ ثَابِت: الْوَجْه فيه الْهَمْز عَلَى مَعْنَى التَّذْكِير، وَإِلَّا فَحَقِيقَته (حُدَيَّة)، وَكَذَا قَيَّدَهُ الْأَصِيلِيّ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ فِي مَوْضِع، أَو: (الْحُدَيَّة) عَلَى التَّسْهِيل وَالْإِدْغَام، وَقَوْله فِي الْحَيَّة: «تُقْتَل بِصُغْر لَهَا» هُوَ بِضَمِّ الصَّاد أَيْ بِمَذَلَّةٍ وَإِهَانَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَمْس فَوَاسِق» هُوَ بِتَنْوِينِ خَمْس.
وَقَوْله: «بِقَتْلِ خَمْس فَوَاسِق» بِإِضَافَةِ خَمْس لَا بِتَنْوِينِهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَة زُهَيْر: «خَمْس لَا جُنَاح عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحَرَم وَالْإِحْرَام» اِخْتَلَفُوا فِي ضَبْط (الْحَرَم) هُنَا فَضَبَطَهُ جَمَاعَة مِنْ الْمُحَقِّقِينَ بِفَتْحِ الْحَاء وَالرَّاء.
أَيْ الْحَرَم الْمَشْهُور، وَهُوَ حَرَم مَكَّة.
وَالثَّانِي بِضَمِّ الْحَاء وَالرَّاء، وَلَمْ يَذْكُر الْقَاضِي عِيَاض فِي الْمَشَارِق غَيْره، قَالَ: وَهُوَ جَمْع (حَرَام) كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ حُرُم}.
قَالَ: وَالْمُرَاد بِهِ الْمَوَاضِع الْمُحَرَّمَة، وَالْفَتْح أَظْهَر.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث دَلَالَة لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ فِي أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يُقْتَل فِي الْحَرَم كُلّ مَنْ يَجِب عَلَيْهِ قَتْلٌ بِقِصَاصٍ أَوْ رَجْم بِالزِّنَا أَوْ قَتْل فِي الْمُحَارَبَة وَغَيْر ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَجُوز إِقَامَة كُلّ الْحُدُود فيه، سَوَاء كَانَ مُوجَب الْقَتْل وَالْحَدّ جَرَى فِي الْحَرَم أَوْ خَارِجه، ثُمَّ لَجَأَ صَاحِبه إِلَى الْحَرَم، وَهَذَا مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَآخَرِينَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَطَائِفَة: مَا اِرْتَكَبَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَرَم يُقَام عَلَيْهِ فيه، وَمَا فَعَلَهُ خَارِجه ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ إِتْلَاف نَفْس لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ فِي الْحَرَم، بَلْ يُضَيَّق عَلَيْهِ وَلَا يُكَلَّم وَلَا يُجَالَس وَلَا يُبَايَع حَتَّى يُضْطَرّ إِلَى الْخُرُوج مِنْهُ فَيُقَام عَلَيْهِ خَارِجه، وَمَا كَانَ دُون النَّفْس يُقَام فيه، قَالَ الْقَاضِي: وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء وَالشَّعْبِيّ وَالْحَكَم نَحْوه لَكِنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْن النَّفْس وَدُونهَا، وَحُجَّتهمْ ظَاهِر قَوْل اللَّه تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وَحُجَّتنَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَحَادِيث لِمُشَارَكَةِ فَاعِل الْجِنَايَة لِهَذِهِ الدَّوَابّ فِي اِسْم الْفِسْق، بَلْ فِسْقه أَفْحَش، لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا، وَلِأَنَّ التَّضْيِيق الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يَبْقَى لِصَاحِبِهِ أَمَان، فَقَدْ خَالَفُوا ظَاهِر مَا فَسَّرُوا بِهِ الْآيَة، قَالَ الْقَاضِي: وَمَعْنَى الْآيَة عِنْدنَا وَعِنْد أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ إِخْبَار عَمَّا كَانَ قَبْل الْإِسْلَام، وَعَطَفَهُ عَلَى مَا قَبْله مِنْ الْآيَات، وَقِيلَ: آمِنٌ مِنْ النَّار، وَقَالَتْ طَائِفَة: يُخْرَج وَيُقَام عَلَيْهِ الْحَدّ، وَهُوَ قَوْل اِبْن الزُّبَيْر وَالْحَسَن وَمُجَاهِد وَحَمَّاد.
وَاَللَّه أَعْلَم.باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم
باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم
باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم