باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها وانه لو خالف وقع الطلاق ويومر برجعتها
باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها وانه لو خالف وقع الطلاق ويومر برجعتها
أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى تَحْرِيم طَلَاق الْحَائِض الْحَائِل بِغَيْرِ رِضَاهَا فَلَوْ طَلَّقَهَا أَثِمَ وَوَقَعَ طَلَاقه وَيُؤْمَر بِالرَّجْعَةِ لِحَدِيثِ اِبْن عُمَر الْمَذْكُور فِي الْبَاب، وَشَذَّ بَعْض أَهْل الظَّاهِر، فَقَالَ: لَا يَقَع طَلَاقه لِأَنَّهُ غَيْر مَأْذُون لَهُ فيه فَأَشْبَهَ طَلَاق الْأَجْنَبِيَّة.
فَإِنْ قِيلَ الْمُرَاد بِالرَّجْعَةِ الرَّجْعَة اللُّغَوِيَّة وَهِيَ الرَّدّ إِلَى حَالهَا الْأَوَّل لَا أَنَّهُ تُحْسَب عَلَيْهِ طَلْقَة قُلْنَا هَذَا غَلَط لِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّ حَمَلَ اللَّفْظ عَلَى الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة يُقَدَّم عَلَى حَمَلَهُ عَلَى الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة كَمَا تَقَرَّرَ فِي أُصُول الْفِقْه، الثَّانِي أَنَّ اِبْن عُمَر صَرَّحَ فِي رِوَايَات مُسْلِم وَغَيْره بِأَنَّهُ حَسَبَهَا عَلَيْهِ طَلْقَة وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا يُؤْمَر بِرَجْعَتِهَا كَمَا ذَكَرْنَا وَهَذِهِ الرَّجْعَة مُسْتَحَبَّة لَا وَاجِبَة، هَذَا مَذْهَبنَا وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَة وَسَائِر الْكُوفِيِّينَ وَأَحْمَد وَفُقَهَاء الْمُحَدِّثِينَ وَآخَرُونَ، وَقَالَ مَالِك وَأَصْحَابه: هِيَ وَاجِبَة.
فَإِنْ قِيلَ فَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر هَذَا أَنَّهُ أَمَرَ بِالرَّجْعَةِ ثُمَّ بِتَأْخِيرِ الطَّلَاق إِلَى طُهْر بَعْد الطُّهْر الَّذِي يَلِي هَذَا الْحَيْض فَمَا فَائِدَة التَّأْخِير؟ فَالْجَوَاب مِنْ أَرْبَعَة أَوْجُه: أَحَدهَا لِئَلَّا تَصِير الرَّجْعَة لِغَرَضِ الطَّلَاق فَوَجَبَ أَنْ يُمْسِكهَا زَمَانًا كَانَ يَحِلّ لَهُ فيه الطَّلَاق وَإِنَّمَا أَمْسَكَهَا لِتَظْهَر فَائِدَة الرَّجْعَة وَهَذَا جَوَاب أَصْحَابنَا، وَالثَّانِي عُقُوبَة لَهُ وَتَوْبَة مِنْ مَعْصِيَة بِاسْتِدْرَاكِ جِنَايَته، وَالثَّالِث أَنَّ الطُّهْر الْأَوَّل مَعَ الْحَيْض الَّذِي يَلِيه وَهُوَ الَّذِي طَلَّقَ فيه كَقُرْءٍ وَاحِد فَلَوْ طَلَّقَهَا فِي أَوَّل طُهْر لَكَانَ كَمَنْ طَلَّقَ فِي الْحَيْض، وَالرَّابِع أَنَّهُ نَهَى عَنْ طَلَاقهَا فِي الطُّهْر لِيُطَوِّل مَقَامه مَعَهَا فَلَعَلَّهُ يُجَامِعهَا فَيَذْهَب مَا فِي نَفْسه مِنْ سَبَب طَلَاقهَا فَيُمْسِكهَا وَاَللَّه أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
2675- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُر ثُمَّ تَحِيض ثُمَّ تَطْهُر ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْد وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْل أَنْ يَمَسّ فَتِلْكَ الْعِدَّة الَّتِي أَمَرَ اللَّه أَنْ يُطَلَّق لَهَا النِّسَاء» يَعْنِي قَبْل أَنْ يَمَسّ أَيْ قَبْل أَنْ يَطَأهَا، فَفيه تَحْرِيم الطَّلَاق فِي طُهْر جَامَعَهَا فيه.
قَالَ أَصْحَابنَا: يَحْرُم طَلَاقهَا فِي طُهْر جَامَعَهَا فيه حَتَّى يَتَبَيَّن حَمْلهَا لِئَلَّا تَكُون حَامِلًا فَيَنْدَم، فَإِذَا بَانَ الْحَمْل دَخَلَ بَعْد ذَلِكَ فِي طَلَاقهَا عَلَى بَصِيرَة فَلَا يَنْدَم فَلَا تُحَرَّم وَلَوْ كَانَتْ الْحَائِض حَامِلًا.
فَالصَّحِيح عِنْدنَا وَهُوَ نَصّ الشَّافِعِيّ أَنَّهُ لَا يَحْرُم طَلَاقهَا، لِأَنَّ تَحْرِيم الطَّلَاق فِي الْحَيْض إِنَّمَا كَانَ لِتَطْوِيلِ الْعِدَّة لِكَوْنِهِ لَا يُحْسَب قُرْءًا.
وَأَمَّا الْحَامِل الْحَائِض فَعِدَّتهَا بِوَضْعِ الْحَمْل فَلَا يَحْصُل فِي حَقّهَا تَطْوِيل.
وَفِي قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ» دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَا إِثْم فِي الطَّلَاق بِغَيْرِ سَبَب لَكِنْ يُكْرَه لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُور فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَغَيْره، أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَبْغَض الْحَلَال إِلَى اللَّه الطَّلَاق»، فَيَكُون حَدِيث اِبْن عُمَر لِبَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَهَذَا الْحَدِيث لِبَيَانِ كَرَاهَة التَّنْزِيه.
قَالَ أَصْحَابنَا الطَّلَاق أَرْبَعَة أَقْسَام: حَرَام وَمَكْرُوه وَوَاجِب وَمَنْدُوب، وَلَا يَكُون مُبَاحًا مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ.
فَأَمَّا الْوَاجِب فَفِي صُورَتَيْنِ وَهُمَا فِي الْحُكْمَيْنِ إِذَا بَعَثَهُمَا الْقَاضِي عِنْد الشِّقَاق بَيْن الزَّوْجَيْنِ وَرَأَيَا الْمَصْلَحَة فِي الطَّلَاق وَجَبَ عَلَيْهِمَا الطَّلَاق؛ وَفِي الْمَوْلَى إِذَا مَضَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعَة أَشْهُر وَطَالَبَتْ الْمَرْأَة بِحَقِّهَا فَامْتَنَعَ مِنْ الْفَيْئَة وَالطَّلَاق فَالْأَصَحّ عِنْدنَا أَنَّهُ يَجِب عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُطَلِّق عَلَيْهِ طَلْقَة رَجْعِيَّة.
وَأَمَّا الْمَكْرُوه فَأَنْ يَكُون الْحَال بَيْنهمَا مُسْتَقِيمًا فَيُطَلِّق بِلَا سَبَب وَعَلَيْهِ يُحْمَل حَدِيث: «أَبْغَض الْحَلَال إِلَى اللَّه الطَّلَاق».
وَأَمَّا الْحَرَام فَفِي ثَلَاث صُوَر أَحَدهَا فِي الْحَيْض بِلَا عِوَض مِنْهَا وَلَا سُؤَالهَا؛ وَالثَّانِي فِي طُهْر جَامَعَهَا فيه قَبْل بَيَان الْحَمْل؛ وَالثَّالِث إِذَا كَانَ عِنْده زَوْجَات يَقْسِم لَهُنَّ وَطَلَّقَ وَاحِدَة قَبْل أَنْ يُوفيها قَسْمهَا.
وَأَمَّا الْمَنْدُوب فَهُوَ أَلَّا تَكُون الْمَرْأَة عَفِيفَة أَوْ يَخَافَا أَوْ أَحَدهمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُود اللَّه أَوْ نَحْو ذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا جَمْع الطَّلْقَات الثَّلَاثَة دَفْعَة فَلَيْسَ الثَّلَاث بِحَرَامٍ عِنْدنَا، لَكِنْ الْأَوْلَى تَفْرِيقهَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَأَبُو ثَوْر.
وَقَالَ مَالِك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَاللَّيْث: هُوَ بِدْعَة قَالَ الْخَطَّابِيّ: فِي قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعهَا» لَيْل عَلَى أَنَّ الرَّجْعَة لَا تَفْتَقِر إِلَى رِضَا الْمَرْأَة وَلَا وَلِيّهَا وَلَا تَجْدِيد عَقْد وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَتِلْكَ الْعِدَّة الَّتِي أَمْر اللَّه أَنْ يُطَلَّق لَهَا النِّسَاء» فِي دَلِيل لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَمُوَافِقِيهِمَا أَنَّ الْأَقْرَاء فِي الْعِدَّة هِيَ الْأَطْهَار لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِيُطَلِّقهَا فِي الطُّهْر إِنْ شَاءَ فَتِلْكَ الْعِدَّة الَّتِي أَمَرَ اللَّه أَنْ يُطَلَّق لَهَا النِّسَاء أَيْ فيها، وَمَعْلُوم أَنَّ اللَّه لَمْ يَأْمُر بِطَلَاقِهِنَّ فِي الْحَيْض، بَلْ حَرَّمَهُ، فَإِنْ قِيلَ: الضَّمِير فِي قَوْله: «فَتِلْكَ» يَعُود إِلَى الْحَيْضَة.
قُلْنَا: هَذَا غَلَط لِأَنَّ الطَّلَاق فِي الْحَيْض غَيْر مَأْمُور بِهِ بَلْ مُحَرَّم، وَإِنَّمَا الضَّمِير عَائِد إِلَى الْحَالَة الْمَذْكُورَة وَهِيَ حَالَة الطُّهْر أَوْ إِلَى الْعِدَّة.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء مِنْ أَهْل الْفِقْه وَالْأُصُول وَاللُّغَة عَلَى أَنَّ (الْقُرْء) يُطْلَق فِي اللُّغَة عَلَى الْحَيْض وَعَلَى الطُّهْر وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَقْرَاء الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} وَفِيمَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّة، فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ: هِيَ الْأَطْهَار.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَآخَرُونَ: هِيَ الْحَيْض.
وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ عُمَر وَعَلِيّ وَابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيّ وَزُفَر وَإِسْحَاق وَآخَرُونَ مِنْ السَّلَف، وَهُوَ أَصَحّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد.
قَالُوا: لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِالْأَطْهَارِ يَجْعَلهَا قُرْأَيْنِ وَبَعْض الثَّالِث، وَظَاهِر الْقُرْآن أَنَّهَا ثَلَاثَة.
وَالْقَائِل بِالْحَيْضِ يَشْتَرِط ثَلَاثَة حَيْضَات كَوَامِل فَهُوَ أَقْرَب إِلَى مُوَافَقَة الْقُرْآن، وَلِهَذَا الِاعْتِرَاض صَارَ اِبْن شِهَاب الزُّهْرِيّ إِلَى أَنَّ الْأَقْرَاء هِيَ الْأَطْهَار، قَالَ: وَلَكِنْ لَا تَنْقَضِي الْعِدَّة إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَطْهَار كَامِلَة وَلَا تَنْقَضِي بِطُهْرَيْنِ وَبَعْض الثَّالِث.
وَهَذَا مَذْهَب اِنْفَرَدَ بِهِ بَلْ اِتَّفَقَ الْقَائِلُونَ لِلْأَطْهَارِ عَلَى أَنَّهَا تَنْقَضِي بِقُرْأَيْنِ وَبَعْض الثَّالِث، حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الطُّهْر لَحْظَة يَسِيرَة حُسِبَ ذَلِكَ قُرْءًا، وَيَكْفيها طُهْرَانِ بَعْده.
وَأَجَابُوا عَنْ الِاعْتِرَاض بِأَنَّ الشَّيْئَيْنِ وَبَعْض الثَّالِث يُطْلَق عَلَيْهَا اِسْم: الْجَمِيع، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {الْحَجّ أَشْهُر مَعْلُومَات} وَمَعْلُوم أَنَّهُ شَهْرَانِ وَبَعْض الثَّالِث، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} الْمُرَاد فِي يَوْم وَبَعْض الثَّانِي.
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْأَطْهَارِ: مَتَى تَنْقَضِي عِدَّتهَا؟ فَالْأَصَحّ عِنْدنَا أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَة الدَّم بَعْد الطُّهْر الثَّالِث، وَفِي قَوْل: لَا تَنْقَضِي حَتَّى يَمْضِي يَوْم وَلَيْلَة.
وَالْخِلَاف فِي مَذْهَب مَالِك كَهُوَ عِنْدنَا.
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْحَيْضِ أَيْضًا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه: حَتَّى تَغْتَسِل مِنْ الْحَيْضَة الثَّالِثَة أَوْ يَذْهَب وَقْت صَلَاة.
وَقَالَ عُمَر وَعَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَالثَّوْرِيّ وَزُفَر وَإِسْحَاق وَأَبُو عُبَيْد: حَتَّى تَغْتَسِل مِنْ الثَّالِثَة.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَآخَرُونَ: تَنْقَضِي بِنَفْسِ اِنْقِطَاع الدَّم.
وَعَنْ إِسْحَاق رِوَايَة، أَنَّهُ إِذَا اِنْقَطَعَتْ الدَّم اِنْقَطَعَتْ الرَّجْعَة، وَلَكِنْ لَا تَحِلّ لِلْأَزْوَاجِ حَتَّى تَغْتَسِل اِحْتِيَاطًا وَخُرُوجًا مِنْ الْخِلَاف وَاَللَّه أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
2676- قَوْله: «أَمَّا أَنْتَ طَلَّقْت اِمْرَأَتك مَرَّة أَوْ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي بِهَذَا وَإِنْ كُنْت طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْك» أَمَّا قَوْله: أَمَرَنِي بِهَذَا، فَمَعْنَاهُ أَمَرَنِي بِالرَّجْعَةِ وَأَمَّا قَوْله: أَمَّا أَنْتَ، فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: هَذَا مُشْكِل.
قَالَ: قِيلَ: إِنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَة مِنْ: «أَمَّا» أَيْ أَمَّا إِنْ كُنْت، فَحَذَفُوا الْفِعْل الَّذِي يَلِي (أَنَّ) وَجَعَلُوا (مَا) عِوَضًا مِنْ الْفِعْل، وَفَتَحُوا (أَنَّ) وَأَدْغَمُوا النُّون فِي (مَا)، وَجَاءُوا بِأَنْتَ مَكَان الْعَلَامَة فِي (كُنْت) وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله بَعْده: (وَإِنْ كُنْت طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْك).
قَوْله: (قَالَ مُسْلِم: جَوَّدَ اللَّيْث فِي قَوْله تَطْلِيقَة وَاحِدَة) يَعْنِي أَنَّهُ حَفِظَ وَأَتْقَنَ قَدْر الطَّلَاق الَّذِي لَمْ يُتْقِنهُ غَيْره، وَلَمْ يُهْمِلهُ كَمَا أَهْمَلَهُ غَيْره، وَلَا غَلِطَ فيه وَجَعَلَهُ ثَلَاثًا كَمَا غَلِطَ فيه غَيْره.
وَقَدْ تَظَاهَرَتْ رِوَايَات مُسْلِم بِأَنَّهَا طَلْقَة وَاحِدَة.
✯✯✯✯✯✯
2680- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ لِيُطَلِّقهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا» فيه دَلَالَة لِجَوَازِ طَلَاق الْحَامِل الَّتِي تَبَيَّنَ حَمْلهَا وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ، قَالَ اِبْن الْمُنْذِر وَبِهِ قَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاء مِنْهُمْ طَاوُس وَالْحَسَن وَابْن سِيرِينَ وَرَبِيعَة وَحَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان وَمَالِك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عُبَيْد، قَالَ اِبْن الْمُنْذِر: وَبِهِ أَقُول.
وَبِهِ قَالَ بَعْض الْمَالِكِيَّة، وَقَالَ بَعْضهمْ: هُوَ حَرَام.
وَحَكَى اِبْن الْمُنْذِر رِوَايَة أُخْرَى عَنْ الْحَسَن أَنَّهُ قَالَ طَلَاق الْحَامِل مَكْرُوه، ثُمَّ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ لَهُ أَنْ يُطَلِّق الْحَامِل ثَلَاثًا بِلَفْظٍ وَاحِد، وَبِأَلْفَاظٍ مُتَّصِلَة، وَفِي أَوْقَات مُتَفَرِّقَة.
وَكُلّ ذَلِكَ جَائِز لَا بِدْعَة فيه.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف: يَجْعَل بَيْن الطَّلْقَتَيْنِ شَهْرًا.
وَقَالَ مَالِك وَزُفَر وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن.
لَا يُوقِع عَلَيْهَا أَكْثَر مِنْ وَاحِدَة حَتَّى تَضَع.
✯✯✯✯✯✯
2682- قَوْله: (لَقِيت أَبَا غَلَّاب يُونُس بْن جُبَيْر) هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد اللَّام وَآخِره بَاء مُوَحَّدَة هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ وَكَذَا ذَكَرَهُ اِبْن مَاكُولَا وَالْجُمْهُور وَذَكَرَ الْقَاضِي عَنْ بَعْض الرُّوَاة تَخْفِيف اللَّام.
قَوْله: (وَكَانَ ذَا ثَبَت) هُوَ بِفَتْحِ الثَّاء وَالْبَاء أَيْ مُثْبَتًا.
قَوْله: (قُلْت أَفَحُسِبَتْ عَلَيْهِ قَالَ فَمَهْ أَوْ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ) مَعْنَاهُ أَفَيَرْتَفِع عَنْهُ الطَّلَاق وَإِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ وَهُوَ اِسْتِفْهَام إِنْكَار، وَتَقْدِيره نَعَمْ تُحْسَب وَلَا يَمْتَنِع اِحْتِسَابهَا لِعَجْزِهِ وَحَمَاقَته.
قَالَ: الْقَاضِي: أَيْ إِنْ عَجَزَ عَنْ الرَّجْعَة وَفَعَلَ فِعْل الْأَحْمَق.
وَالْقَائِل لِهَذَا الْكَلَام هُوَ اِبْن عُمَر صَاحِب الْقِصَّة، وَأَعَادَ الضَّمِير بِلَفْظِ الْغِيبَة وَقَدْ بَيَّنَهُ بَعْد هَذِهِ فِي رِوَايَة أَنَس بْن سِيرِينَ.
قَالَ: قُلْت- يَعْنِي لِابْنِ عُمَر- فَاعْتَدَدْت بِتِلْكَ التَّطْلِيقَة الَّتِي طَلُقَتْ وَهِيَ حَائِض.
قَالَ: مَا لِي لَا أَعْتَدّ بِهَا وَإِنْ كُنْت عَجَزْت وَاسْتَحْمَقْت؟ وَجَاءَ فِي غَيْر مُسْلِم أَنَّ اِبْن عُمَر قَالَ: رَأَيْت إِنْ كَانَ اِبْن عُمَر عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ فَمَا يَمْنَعهُ أَنْ يَكُون طَلَاقًا؟قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُطَلِّقهَا فِي قُبُل عِدَّتهَا» هُوَ بِضَمِّ الْقَاف وَالْبَاء أَيْ فِي وَقْت تَسْتَقْبِل فيه الْعِدَّة وَتَشْرَع فيها، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاء هِيَ الْأَطْهَار، وَأَنَّهَا إِذَا طَلُقَتْ فِي الطُّهْر شَرَعَتْ فِي الْحَال فِي الْأَقْرَاء لِأَنَّ الطَّلَاق الْمَأْمُور بِهِ إِنَّمَا هُوَ فِي الطُّهْر لِأَنَّهَا إِذَا طَلُقَتْ فِي الْحَيْض لَا يُحْسَب ذَلِكَ الْحَيْض قُرْءًا بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا تَسْتَقْبِل فيه الْعِدَّة وَإِنَّمَا تَسْتَقْبِلهَا إِذَا طَلُقَتْ فِي الطُّهْر وَاَللَّه أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
2683- وَأَمَّا قَوْله: (فَمَهْ) فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون لِلْكَفِّ وَالزَّجْر عَنْ هَذَا الْقَوْل، أَيْ لَا تَشُكّ فِي وُقُوع الطَّلَاق وَأَجْزَمَ بِوُقُوعِهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: الْمُرَاد (بِمَهْ) (مَا) فَيَكُون اِسْتِفْهَامًا أَيْ فَمَا يَكُون أَنْ أَحْتَسِب بِهَا؟ وَمَعْنَاهُ لَا يَكُون إِلَّا الِاحْتِسَاب بِهَا فَأَبْدَلَ مِنْ الْأَلِف (هَاء) كَمَا قَالُوا فِي (مَهْمَا) أَنَّ أَصْلهَا (مَامَا) أَيْ أَيّ شَيْء.
✯✯✯✯✯✯
2687- قَوْله: (عَنْ اِبْن جُرَيْجٍ عَنْ اِبْن طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ اِبْن عُمَر يَسْأَل عَنْ رَجُل طَلَّقَ اِمْرَأَته إِلَى آخِره) وَقَالَ فِي آخِره: لَمْ أَسْمَعهُ يَزِيد عَلَى ذَلِكَ لِأَبِيهِ.
فَقَوْله (لِأَبِيهِ) بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة ثُمَّ الْيَاء الْمُثَنَّاة مِنْ تَحْت، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اِبْن طَاوُسٍ قَالَ: لَمْ أَسْمَعهُ أَيْ لَمْ أَسْمَع أَبِي طَاوُسًا يَزِيد عَلَى هَذَا الْقَدْر مِنْ الْحَدِيث.
وَالْقَائِل لِأَبِيهِ هُوَ اِبْن جُرَيْجٍ وَأَرَادَ تَفْسِير الضَّمِير فِي قَوْله اِبْن طَاوُسٍ (لَمْ أَسْمَعهُ) وَاللَّام زَائِدَة فَمَعْنَاهُ يُعْنَى أَبَاهُ وَلَوْ قَالَ يَعْنِي أَبَاهُ لَكَانَ أَوْضَح.
✯✯✯✯✯✯
2688- قَوْله: «وَقَرَأَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُل عِدَّتهنَّ» هَذِهِ قِرَاءَة اِبْن عَبَّاس وَابْن عُمَر وَهِيَ شَاذَّة لَا تَثْبُت قُرْآنًا بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يَكُون لَهَا حُكْم خَبَر الْوَاحِد عِنْدنَا وَعِنْد مُحَقِّقِي الْأُصُولِيِّينَ وَاَللَّه أَعْلَم.
باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها وانه لو خالف وقع الطلاق ويومر برجعتها
باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها وانه لو خالف وقع الطلاق ويومر برجعتها