باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من امر الجنة والنار
باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من امر الجنة والنار
1507- قَوْله: فِي رِوَايَة أَبِي الزُّبَيْر عَنْ جَابِر: «ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ» هَذَا ظَاهِره أَنَّهُ طَوَّلَ الِاعْتِدَال الَّذِي يَلِي السُّجُود وَلَا ذِكْر لَهُ فِي بَاقِي الرِّوَايَات وَلَا فِي رِوَايَة جَابِر مِنْ جِهَة غَيْر أَبِي الزُّبَيْر.
وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي إِجْمَاع الْعُلَمَاء أَنَّهُ لَا يُطَوِّل الِاعْتِدَال الَّذِي يَلِي السُّجُود، وَحِينَئِذٍ يُجَاب عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَة بِجَوَابَيْنِ أَحَدهمَا: أَنَّهَا شَاذَّة مُخَالِفَة لِرِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ فَلَا يُعْمَل بِهَا، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَاد بِالْإِطَالَةِ تَنْفِيس الِاعْتِدَال وَمَدّه قَلِيلًا، وَلَيْسَ الْمُرَاد إِطَالَته نَحْو الرُّكُوع.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَعُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّة وَعُرِضَتْ عَلَيَّ النَّار» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَالَ الْعُلَمَاء: تَحْتَمِل أَنَّهُ رَآهُمَا رُؤْيَة عَيْن كَشَفَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَأَزَالَ الْحُجُب بَيْنه وَبَيْنهمَا كَمَا فَرَّجَ لَهُ عَنْ الْمَسْجِد الْأَقْصَى حِين وَصَفَهُ، وَيَكُون قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي عُرْض هَذَا الْحَائِط» أَيْ فِي جِهَته وَنَاحِيَته أَوْ فِي التَّمْثِيل لِقُرْبِ الْمُشَاهَدَة قَالُوا: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون رُؤْيَة عِلْم وَعَرْض وَحْي بِاطِّلَاعِهِ وَتَعْرِيفه مِنْ أُمُورهَا تَفْصِيلًا مَا لَمْ يَعْرِفهُ قَبْل ذَلِكَ وَمِنْ عَظِيم شَأْنهمَا مَا زَادَهُ عِلْمًا بِأَمْرِهِمَا وَخَشْيَة وَتَحْذِيرًا وَدَوَام ذِكْر، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَم لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا».
قَالَ الْقَاضِي: وَالتَّأْوِيل الْأَوَّل أَوْلَى وَأَشْبَه بِأَلْفَاظِ الْحَدِيث لِمَا فيه مِنْ الْأُمُور الدَّالَّة عَلَى رُؤْيَة الْعَيْن كَتَنَاوُلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُنْقُود وَتَأَخُّره مَخَافَة أَنْ يُصِيبهُ لَفْحُ النَّار.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَعُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّة حَتَّى لَوْ تَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا أَخَذْته» مَعْنَى تَنَاوَلْت مَدَدْت يَدَيَّ لِآخُذهُ.
وَالْقِطْف بِكَسْرِ الْقَاف الْعُنْقُود، وَهُوَ فِعْل بِمَعْنَى مَفْعُول كَالذِّبْحِ بِمَعْنَى الْمَذْبُوح، وَفيه أَنَّ الْجَنَّة وَالنَّار مَخْلُوقَتَانِ مَوْجُودَتَانِ الْيَوْم وَأَنَّ فِي الْجَنَّة ثِمَارًا وَهَذَا كُلّه مَذْهَب أَصْحَابنَا وَسَائِر أَهْل السُّنَّة خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَرَأَيْت فيها اِمْرَأَة تُعَذَّب فِي هِرَّة لَهَا رَبَطَتْهَا» أَيْ بِسَبَبِ هِرَّة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَأْكُل مِنْ خَشَاش الْأَرْض» بِفَتْحِ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَهِيَ هَوَامّهَا وَحَشَرَاتهَا، وَقِيلَ: صِغَار الطَّيْر، وَحَكَى الْقَاضِي فَتْح الْخَاء وَكَسْرهَا وَضَمّهَا، وَالْفَتْح هُوَ الْمَشْهُور.
قَالَ الْقَاضِي: فِي هَذَا الْحَدِيث الْمُؤَاخَذَة بِالصَّغَائِرِ.
قَالَ: وَلَيْسَ فيه أَنَّهَا عُذِّبَتْ عَلَيْهَا بِالنَّارِ.
قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنَّهَا كَانَتْ كَافِرَة فَزِيدَ فِي عَذَابهَا بِذَلِكَ، هَذَا كَلَامه وَلَيْسَ بِصَوَابٍ، بَلْ الصَّوَاب الْمُصَرَّح بِهِ فِي الْحَدِيث أَنَّهَا عُذِّبَتْ بِسَبَبِ الْهِرَّة وَهُوَ كَبِيرَة لِأَنَّهَا رَبَطَتْهَا وَأَصَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَاتَتْ، وَالْإِصْرَار عَلَى الصَّغِير يَجْعَلهَا كَبِيرَة كَمَا هُوَ مُقَرَّر فِي كُتُب الْفِقْه وَغَيْرهَا، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيث مَا يَقْتَضِي كُفْر هَذِهِ الْمَرْأَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَجُرّ قُصْبه فِي النَّار» هُوَ بِضَمِّ الْقَاف وَإِسْكَان الصَّاد وَهِيَ الْأَمْعَاء.
✯✯✯✯✯✯
1508- قَوْله: «ثُمَّ تَأَخَّرَ وَتَأَخَّرَتْ الصُّفُوف خَلْفه حَتَّى اِنْتَهَيْنَا إِلَى النِّسَاء، ثُمَّ تَقَدَّمَ وَتَقَدَّمَ النَّاس مَعَهُ حَتَّى قَامَ فِي مَقَامه» فيه أَنَّ الْعَمَل الْقَلِيل لَا يُبْطِل الصَّلَاة.
وَضَبَطَ أَصْحَابنَا الْقَلِيل بِمَا دُون ثَلَاث خُطُوَات مُتَتَابِعَات، وَقَالُوا: الثَّلَاث مُتَتَابِعَات تُبْطِلهَا.
وَيَتَأَوَّلُونَ هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الْخُطُوَات كَانَتْ مُتَفَرِّقَة لَا مُتَوَالِيَة، وَلَا يَصِحّ تَأْوِيله عَلَى أَنَّهُ كَانَ خُطْوَتَيْنِ لِأَنَّ قَوْله: «اِنْتَهَيْنَا إِلَى النِّسَاء» يُخَالِفهُ، وَفيه اِسْتِحْبَاب صَلَاة الْكُسُوف لِلنِّسَاءِ، وَفيه حُضُورهنَّ وَرَاء الرِّجَال.
قَوْله: «آضَتْ الشَّمْس» هُوَ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَة هَكَذَا ضَبَطَهُ جَمِيع الرُّوَاة بِبِلَادِنَا وَكَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقَاضِي.
قَالُوا: وَمَعْنَاهُ رَجَعَتْ إِلَى حَالهَا الْأَوَّل قَبْل الْكُسُوف، وَهُوَ مِنْ آضَ يَئِيض إِذَا رَجَعَ، وَمِنْهُ قَوْلهمْ: أَيْضًا وَهُوَ مَصْدَر مِنْهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَخَافَة أَنْ يُصِيبنِي مِنْ لَفْحهَا» أَيْ مِنْ ضَرْب لَهَبهَا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ} أَيْ يَضْرِبهَا لَهَبهَا.
قَالُوا: وَالنَّفْح دُون اللَّفْح.
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَة مِنْ عَذَاب رَبّك} أَيْ أَدْنَى شَيْء مِنْهُ، قَالَهُ الْهَرَوِيُّ وَغَيْره.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَرَأَيْت فيها صَاحِب الْمِحْجَن» هُوَ بِكَسْرِ الْمِيم وَهُوَ عَصَا مُغَفَّفَة الطَّرْف.
✯✯✯✯✯✯
1509- قَوْلهَا: «فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاء» فيه اِمْتِنَاع الْكَلَام بِالصَّلَاةِ وَجَوَاز الْإِشَارَة، وَلَا كَرَاهَة فيها إِذَا كَانَتْ لِحَاجَةٍ.
قَوْلهَا: «تَجَلَّانِي الْغَشْي» هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْن وَإِسْكَان الشِّين وَرُوِيَ أَيْضًا بِكَسْرِ الشِّين وَتَشْدِيد الْيَاء، وَهُمَا بِمَعْنَى الْغِشَاوَة، وَهُوَ مَعْرُوف يَحْصُل بِطُولِ الْقِيَام فِي الْحَرّ وَفِي غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَال، وَلِهَذَا جَعَلَتْ تَصُبّ عَلَيْهَا الْمَاء، وَفيه أَنَّ الْغَشْي لَا يَنْقُض الْوُضُوء مَا دَامَ الْعَقْل ثَابِتًا.
قَوْلهَا: «فَأَخَذْت قِرْبَة مِنْ مَاء إِلَى جَنْبِي فَجَعَلْت أَصُبّ عَلَى رَأْسِي أَوْ عَلَى وَجْهِي مِنْ الْمَاء» هَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَكْثُر أَفْعَالهَا مُتَوَالِيَة لِأَنَّ الْأَفْعَال إِذَا كَثُرَتْ مُتَوَالِيَة أَبْطَلَتْ الصَّلَاة.
قَوْله: «مَا عِلْمك بِهَذَا الرَّجُل» إِنَّمَا يَقُول لَهُ الْمَلَكَانِ السَّائِلَانِ مَا عِلْمك بِهَذَا الرَّجُل وَلَا يَقُول رَسُول اللَّه اِمْتِحَانًا لَهُ وَإِغْرَابًا عَلَيْهِ لِئَلَّا يَتَلَقَّن مِنْهُمَا إِكْرَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفْع مَرْتَبَته فَيُعَظِّمهُ هُوَ تَقْلِيدًا لَهُمَا لَا اِعْتِقَادًا، وَلِهَذَا يَقُول الْمُؤْمِن: هُوَ رَسُول اللَّه، وَيَقُول الْمُنَافِق: لَا أَدْرِي فَـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة}.
قَوْله: (عَنْ عُرْوَة قَالَ: لَا تَقُلْ: كَسَفَتْ الشَّمْس وَلَكِنْ قُلْ: خَسَفَتْ الشَّمْس) هَذَا قَوْل لَهُ اِنْفَرَدَ بِهِ وَالْمَشْهُور مَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّل الْبَاب.
✯✯✯✯✯✯
1511- قَوْله: «فَفَزِعَ» قَالَ الْقَاضِي يَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ الْفَزَع الَّذِي هُوَ الْخَوْف كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «يَخْشَى أَنْ تَكُون السَّاعَة» وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ الْفَزَع الَّذِي هُوَ الْمُبَادَرَة إِلَى الشَّيْء: «فَأَخْطَأَ بِدِرْعٍ حَتَّى أُدْرِكَ بِرِدَائِهِ» مَعْنَاهُ أَنَّهُ لِشِدَّةِ سُرْعَته وَاهْتِمَامه بِذَلِكَ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذ رِدَاءَهُ فَأَخَذَ دِرْع بَعْض أَهْل الْبَيْت سَهْوًا، وَلَمْ يَعْلَم ذَلِكَ لِاشْتِغَالِ قَلْبه بِأَمْرِ الْكُسُوف، فَلَمَّا عَلِمَ أَهْل الْبَيْت أَنَّهُ تَرَكَ رِدَاءَهُ لَحِقَهُ بِهِ إِنْسَان.
✯✯✯✯✯✯
1512- قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُولَى مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس: «فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا قَدْر نَحْو سُورَة الْبَقَرَة» هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ (قَدْر نَحْو) وَهُوَ صَحِيح وَلَوْ اِقْتَصَرَ عَلَى أَحَد اللَّفْظَيْنِ لَكَانَ صَحِيحًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِكُفْرِهِنَّ قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاَللَّهِ قَالَ: بِكُفْرِ الْعَشِير وَبِكُفْرِ الْإِحْسَان» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ بِكُفْرِ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة الْجَارَة وَضَمِّ الْكَاف وَإِسْكَان الْفَاء، وَفيه جَوَاز إِطْلَاق الْكُفْر عَلَى كُفْرَان الْحُقُوق وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الشَّخْص كَافِرًا بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ سَبَقَ شَرْح هَذَا اللَّفْظ مَرَّات، وَالْعَشِير الْمُعَاشِر كَالزَّوْجِ وَغَيْره، فيه ذَمّ كُفْرَان الْحُقُوق لِأَصْحَابِهَا.
قَوْله: «تَكَعْكَعْتَ» أَيْ تَوَقَّفْتَ وَأَحْجَمْتَ قَالَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْره: يُقَال: تَكَعْكَعَ الرَّجُل وَتَكَاعَى وَكَعَ وَكُوعًا إِذَا أَحْجَمَ وَجَبُنَ.
باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من امر الجنة والنار