باب حد السرقة ونصابها قال القاضي عياض رضي الله تعالى عنه
باب حد السرقة ونصابها قال القاضي عياض رضي الله تعالى عنه
: صَانَ اللَّه تَعَالَى الْأَمْوَال بِإِيجَابِ الْقَطْع عَلَى السَّارِق، وَلَمْ يُجْعَل ذَلِكَ فِي غَيْر السَّرِقَة كَالِاخْتِلَاسِ وَالِانْتِهَاب وَالْغَصْب؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَلِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّرِقَة؛ وَلِأَنَّهُ يُمْكِن اِسْتِرْجَاع هَذَا النَّوْع بِالِاسْتِدْعَاءِ إِلَى وُلَاة الْأُمُور، وَتَسْهُل إِقَامَة الْبَيِّنَة عَلَيْهِ، بِخِلَافِ السَّرِقَة فَإِنَّهُ تَنْدُر إِقَامَة الْبَيِّنَة عَلَيْهَا، فَعَظُمَ أَمْرهَا، وَاشْتَدَّتْ عُقُوبَتهَا لِيَكُونَ أَبْلَغ فِي الزَّجْر عَنْهَا.
قَوْله: «عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْطَع السَّارِق فِي رُبْع دِينَار فَصَاعِدًا» وَفِي رِوَايَة: «قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُقْطَع يَد السَّارِق إِلَّا فِي رُبْع دِينَار فَصَاعِدًا» وَفِي رِوَايَة: «لَا تُقْطَع الْيَد إِلَّا فِي رُبْع دِينَار فَمَا فَوْقه» وَفِي رِوَايَة: «لَمْ تُقْطَع يَد السَّارِق فِي عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقَلّ مِنْ ثَمَن الْمِجَنّ» وَفِي رِوَايَة اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: «قَطَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارِقًا فِي مِجَنّ قِيمَته ثَلَاثَة دَرَاهِم» وَفِي رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة: «قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنَ اللَّه السَّارِق يَسْرِق الْبَيْضَة فَتُقْطَع يَده وَيَسْرِق الْحَبْل فَتُقْطَع يَده».
أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى قَطْع يَد السَّارِق كَمَا سَبَقَ، وَاخْتَلَفُوا فِي اِشْتِرَاط النِّصَاب وَقَدْره، فَقَالَ أَهْل الظَّاهِر: لَا يُشْتَرَط نِصَاب بَلْ وَيُقْطَع فِي الْقَلِيل وَالْكَثِير، وَبِهِ قَالَ اِبْن بِنْت الشَّافِعِيّ مِنْ أَصْحَابنَا، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالْخَوَارِج وَأَهْل الظَّاهِر، وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق وَالسَّارِقَة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهمَا} وَلَمْ يَخُصُّوا الْآيَة، وَقَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء: وَلَا تُقْطَع إِلَّا فِي نِصَاب لِهَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.
ثُمَّ اِخْتَلَفُوا فِي قَدْر النِّصَاب، فَقَالَ الشَّافِعِيّ النِّصَاب رُبْع دِينَار ذَهَبًا، أَوْ مَا قِيمَته رُبْع دِينَار، سَوَاء كَانَتْ قِيمَته ثَلَاثَة دَرَاهِم أَوْ أَقَلّ أَوْ أَكْثَر، وَلَا يُقْطَع فِي أَقَلّ مِنْهُ، وَبِهَذَا قَالَ كَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ قَوْل عَائِشَة وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْث وَأَبِي ثَوْر وَإِسْحَاق وَغَيْرهمْ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ دَاوُدَ، وَقَالَ مَالِك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق فِي رِوَايَة: تُقْطَع فِي رُبْع دِينَار أَوْ ثَلَاثَة دَرَاهِم أَوْ مَا قِيمَته أَحَدهمَا، وَلَا تُقْطَع فِيمَا دُون ذَلِكَ، وَقَالَ سُلَيْمَان بْن يَسَار وَابْن شُبْرُمَةَ وَابْن أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَن فِي رِوَايَة عَنْهُ: لَا تُقْطَع إِلَّا فِي خَمْسَة دَرَاهِم، وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه: لَا تُقْطَع إِلَّا فِي عَشَرَة دَرَاهِم أَوْ مَا قِيمَته ذَلِكَ، وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْض الصَّحَابَة أَنَّ النِّصَاب أَرْبَعَة دَرَاهِم، وَعَنْ عُثْمَان الْبَتِّيّ أَنَّهُ دِرْهَم، وَعَنْ الْحَسَن أَنَّهُ دِرْهَمَانِ، وَعَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَة دَنَانِير، وَالصَّحِيح مَا قَالَهُ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَّحَ بِبَيَانِ النِّصَاب فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث مِنْ لَفْظه وَأَنَّهُ رُبْع دِينَار، وَأَمَّا بَاقِي التَّقْدِيرَات فَمَرْدُودَة لَا أَصْل لَهَا مَعَ مُخَالَفَتهَا لِصَرِيحِ هَذِهِ الْأَحَادِيث.
وَأَمَّا رِوَايَة أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَطَعَ سَارِقًا فِي مِجَنّ قِيمَته ثَلَاثَة دَرَاهِم» فَمَحْمُولَة عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْر كَانَ رُبْع دِينَار فَصَاعِدًا، وَهِيَ قَضِيَّة عَيْن لَا عُمُوم لَهَا، فَلَا يَجُوز تَرْك صَرِيح لَفْظه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْدِيد النِّصَاب لِهَذِهِ الرِّوَايَة الْمُحْتَمَلَة، بَلْ يَجِب حَمْلهَا عَلَى مُوَافَقَة لَفْظه، وَكَذَا الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «لَمْ يَقْطَع يَد السَّارِق فِي أَقَلّ مِنْ ثَمَن الْمِجَنّ» مَحْمُولَة عَلَى أَنَّهُ كَانَ رُبْع دِينَار، ولابد مِنْ هَذَا التَّأْوِيل لِيُوَافِق صَرِيح تَقْدِيره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا مَا يَحْتَجّ بِهِ بَعْض الْحَنَفِيَّة وَغَيْرهمْ مِنْ رِوَايَة جَاءَتْ: «قَطَعَ فِي مِجَنّ قِيمَته عَشَرَة دَرَاهِم»، وَفِي رِوَايَة: «خَمْسَة»، فَهِيَ رِوَايَة ضَعِيفَة لَا يُعْمَل بِهَا لَوْ اِنْفَرَدَتْ، فَكَيْف وَهِيَ مُخَالِفَة لِصَرِيحِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة فِي التَّقْدِير بِرُبْعِ دِينَار مَعَ أَنَّهُ يُمْكِن حَمْلهَا عَلَى أَنَّهُ كَانَتْ قِيمَته عَشَرَة دَرَاهِم اِتِّفَاقًا لَا أَنَّهُ شَرَطَ ذَلِكَ فِي قَطْع السَّارِق، وَلَيْسَ فِي لَفْظهَا مَا يَدُلّ عَلَى تَقْدِير النِّصَاب بِذَلِكَ.
وَأَمَّا رِوَايَة: «لَعَنَ اللَّه السَّارِق يَسْرِق الْبَيْضَة أَوْ الْحَبْل فَتُقْطَع يَده» فَقَالَ جَمَاعَة: الْمُرَاد بِهَا بَيْضَة الْحَدِيد وَحَبْل السَّفِينَة، وَكُلّ وَاحِد مِنْهُمَا يُسَاوِي أَكْثَر مِنْ رُبْع دِينَار، وَأَنْكَرَ الْمُحَقِّقُونَ هَذَا وَضَعَّفُوهُ، فَقَالُوا: بَيْضَة الْحَدِيد وَحَبْل السَّفِينَة لَهُمَا قِيمَة ظَاهِرَة، وَلَيْسَ هَذَا السِّيَاق مَوْضِع اِسْتِعْمَالهمَا، بَلْ بَلَاغَة الْكَلَام تَأْبَاهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يُذَمّ فِي الْعَادَة مَنْ خَاطَرَ بِيَدِهِ فِي شَيْء لَهُ قَدْر، وَإِنَّمَا يُذَمّ مَنْ خَاطَرَ بِهَا فِيمَا لَا قَدْر لَهُ فَهُوَ مَوْضِع تَقْلِيل لَا تَكْثِير، وَالصَّوَاب أَنَّ الْمُرَاد التَّنْبِيه عَلَى عَظِيم مَا خَسِرَ، وَهِيَ يَده فِي مُقَابَلَة حَقِير مِنْ الْمَال وَهُوَ رُبْع دِينَار، فَإِنَّهُ يُشَارِك الْبَيْضَة وَالْحَبْل فِي الْحَقَارَة، أَوْ أَرَادَ جِنْس الْبَيْض وَجِنْس الْحَبْل، أَوْ أَنَّهُ إِذَا سَرَقَ الْبَيْضَة فَلَمْ يُقْطَع جَرَّهُ ذَلِكَ إِلَى سَرِقَة مَا هُوَ أَكْثَر مِنْهَا فَقُطِعَ، فَكَانَتْ سَرِقَة الْبَيْضَة هِيَ سَبَب قَطْعه، أَوْ أَنَّ الْمُرَاد بِهِ قَدْ يَسْرِق الْبَيْضَة أَوْ الْحَبْل فَيَقْطَعهُ بَعْض الْوُلَاة سِيَاسَة لَا قَطْعًا جَائِزًا شَرْعًا، وَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا عِنْد نُزُول آيَة السَّرِقَة مُجْمَلَة مِنْ غَيْر بَيَان نِصَاب، فَقَالَهُ عَلَى ظَاهِر اللَّفْظ وَاللَّهُ أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
3189- سبق شرحه بالباب.
✯✯✯✯✯✯
3190- سبق شرحه بالباب.
✯✯✯✯✯✯
3191- سبق شرحه بالباب.
✯✯✯✯✯✯
3192- سبق شرحه بالباب.
✯✯✯✯✯✯
3193- قَوْله: «ثَمَن الْمِجَنّ حَجَفَة أَوْ تُرْس وَكِلَاهُمَا ذُو ثَمَن» الْمِجَنّ: بِكَسْرِ الْمِيم وَفَتْح الْجِيم، وَهُوَ اِسْم لِكُلِّ مَا يُسْتَجَنّ بِهِ، أَيْ يُسْتَتَر، وَالْحَجَفَة بِحَاءٍ مُهْمَلَة ثُمَّ جِيم مَفْتُوحَتَيْنِ هِيَ الدَّرَقَة وَهِيَ مَعْرُوفَة.
وَقَوْله: «حَجَفَة أَوْ تُرْس» هُمَا مَجْرُورَانِ بَدَل مِنْ الْمِجَنّ.
وَقَوْله: «وَكِلَاهُمَا ذُو ثَمَن» إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْقَطْع لَا يَكُون فِيمَا قَلَّ بَلْ يَخْتَصّ بِمَا لَهُ ثَمَن ظَاهِر، وَهُوَ رُبْع دِينَار، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَات.
✯✯✯✯✯✯
3195- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّه السَّارِق» هَذَا دَلِيل لِجَوَازِ لَعْن غَيْر الْمُعَيَّن مِنْ الْعُصَاة، لِأَنَّهُ لَعْن لِلْجِنْسِ لَا لِمُعَيَّنٍ، وَلَعْن الْجِنْس جَائِز كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {أَلَا لَعْنَة اللَّه عَلَى الظَّالِمِينَ} وَأَمَّا الْمُعَيَّن فَلَا يَجُوز لَعْنه، قَالَ الْقَاضِي: وَأَجَازَ بَعْضهمْ لَعْن الْمُعَيَّن مَا لَمْ يُحَدّ، فَإِذَا حُدَّ لَمْ يَجُزْ لَعْنه، فَإِنَّ الْحُدُود كَفَّارَات لِأَهْلِهَا، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا التَّأْوِيل بَاطِل؛ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة فِي النَّهْي عَنْ اللَّعْن، فَيَجِب حَمَلَ النَّهْي عَلَى الْمُعَيَّن لِيُجْمَع بَيْن الْأَحَادِيث.
وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْحِرْز مَشْرُوط، فَلَا قَطْع إِلَّا فِيمَا سُرِقَ مِنْ حِرْز، وَالْمُعْتَبَر فيه الْعُرْف مِمَّا عَدَّهُ أَهْل الْعُرْف حِرْزًا لِذَلِكَ الشَّيْء فَهُوَ حِرْز لَهُ، وَمَا لَا فَلَا.
وَخَالَفَهُمْ دَاوُدُ فَلَمْ يَشْتَرِط الْحِرْز، قَالُوا: وَيُشْتَرَط أَنْ لَا يَكُون لِلسَّارِقِ فِي الْمَسْرُوق شُبْهَة، فَإِنْ كَانَتْ لَمْ يُقْطَع، وَيُشْتَرَط أَنْ يُطَالِب الْمَسْرُوق مِنْهُ بِالْمَالِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا سَرَقَ أَوَّلًا قُطِعَتْ يَده الْيُمْنَى، قَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَهْل الْمَدِينَة وَالزُّهْرِيّ وَأَحْمَد وَأَبُو ثَوْر وَغَيْرهمْ: فَإِذَا سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْله الْيُسْرَى، فَإِذَا سَرَقَ ثَالِثًا قُطِعَتْ يَده الْيُسْرَى، فَإِنْ سَرَقَ رَابِعًا قُطِعَتْ رِجْله الْيُمْنَى، فَإِنْ سَرَقَ بَعْد ذَلِكَ عُزِّرَ، ثُمَّ كُلَّمَا سَرَقَ عُزِّرَ.
قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَمَالِك وَالْجَمَاهِير: تُقْطَع الْيَد مِنْ الرُّسْغ وَهُوَ الْمَفْصِل بَيْن الْكَفّ وَالذِّرَاع، وَتُقْطَع الرِّجْل مِنْ الْمَفْصِل بَيْن السَّاق وَالْقَدَم، وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: تُقْطَع الرِّجْل مِنْ شَطْر الْقَدَم، وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَأَبُو ثَوْر، وَقَالَ بَعْض السَّلَف: تُقْطَع الْيَد مِنْ الْمَرْفِق، وَقَالَ بَعْضهمْ: مِنْ الْمَنْكِب.
وَاللَّهُ أَعْلَم.
باب حد السرقة ونصابها قال القاضي عياض رضي الله تعالى عنه
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب الحدود ﴿ 1 ﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞