باب من فضائل ابراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم
باب من فضائل ابراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم
4367- قَوْله: «جَاءَ رَجُل إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا خَيْر الْبَرِيَّة فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاكَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام» قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا تَوَاضُعًا وَاحْتِرَامًا لِإِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخُلَّتِهِ وَأُبُوَّته، وَإِلَّا فَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَل كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم» وَلَمْ يَقْصِد بِهِ الِافْتِخَار وَلَا التَّطَاوُل عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ، بَلْ قَالَهُ بَيَانًا لِمَا أُمِرَ بِبَيَانِهِ وَتَبْلِيغه، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا فَخْر» لِيَنْفِيَ مَا قَدْ يَتَطَرَّق إِلَى بَعْض الْأَفْهَام السَّخِيفَة وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِبْرَاهِيم خَيْر الْبَرِيَّة قَبْل أَنْ يَعْلَم أَنَّهُ سَيِّد وَلَد آدَم.
فَالْجَوَاب أَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ أَنَّهُ أَرَادَ أَفْضَل الْبَرِيَّة الْمَوْجُودِينَ فِي عَصْره، وَأَطْلَقَ الْعِبَارَة الْمُوهِمَة لِلْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّوَاضُع، وَقَدْ جَزَمَ صَاحِب التَّحْرِير بِمَعْنَى هَذَا فَقَالَ: الْمُرَاد أَفْضَل بَرِيَّة عَصْره، وَأَجَابَ الْقَاضِي عَنْ التَّأْوِيل الثَّانِي بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا فَهُوَ مِمَّا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ مِنْ الْأَخْبَار؛ لِأَنَّ الْفَضَائِل يَمْنَحُهَا اللَّه تَعَالَى لِمَنْ يَشَاء، فَأَخْبَرَ بِفَضِيلَةِ إِبْرَاهِيم إِلَى أَنْ عَلِمَ تَفْضِيل نَفْسه، فَأَخْبَرَ بِهِ.
وَيَتَضَمَّنُ هَذَا جَوَاز التَّفَاضُل بَيْن الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ، وَيُجَابُ عَنْ حَدِيث النَّهْي عَنْهُ بِالْأَجْوِبَةِ السَّابِقَة فِي أَوَّل كِتَاب الْفَضَائِل.
✯✯✯✯✯✯
4368- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُخْتُتِنَ إِبْرَاهِيم النَّبِيّ، وَهُوَ اِبْن ثَمَانِينَ سَنَة بِالْقَدُومِ»، رُوَاة مُسْلِم مُتَّفِقُونَ عَلَى تَخْفِيف (الْقَدُوم).
وَوَقَعَ فِي رِوَايَات الْبُخَارِيّ الْخِلَاف فِي تَشْدِيده وَتَخْفِيفه.
قَالُوا: وَآلَة النَّجَّار يُقَالُ لَهَا قَدُوم بِالتَّخْفِيفِ لَا غَيْرُ.
وَأَمَّا (الْقَدُوم) مَكَان بِالشَّامِّ فَفيه التَّخْفِيف.
فَمَنْ رَوَاهُ بِالتَّشْدِيدِ أَرَادَ الْقَرْيَة، وَمَنْ رَوَاهُ بِالتَّخْفِيفِ تُحْتَمَلُ الْقَرْيَة وَالْآلَة، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى التَّخْفِيف، وَعَلَى إِرَادَة الْآلَة.
وَهَذَا الَّذِي وَقَعَ هُنَا: وَهُوَ اِبْن ثَمَانِينَ سَنَةً هُوَ الصَّحِيح، وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّأ: وَهُوَ اِبْن مِائَة وَعِشْرِينَ سَنَة مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَة، وَهُوَ مُتَأَوَّلٌ، أَوْ مَرْدُود.
وَسَبَقَ بَيَان حُكْم الْخِتَان فِي أَوَائِل كِتَاب الطَّهَارَة فِي خِصَال الْفِطْرَة.
✯✯✯✯✯✯
4369- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ أَحَقّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيم» إِلَى آخِره.
هَذَا الْحَدِيث سَبَقَ شَرْحُهُ وَاضِحًا فِي كِتَاب الْإِيمَان.
✯✯✯✯✯✯
4370- هَذَا الْحَدِيث سَبَقَ شَرْحه وَاضِحًا فِي كِتَاب الْإِيمَان.
✯✯✯✯✯✯
4371- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا ثَلَاث كَذَبَات: ثِنْتَيْنِ فِي ذَات اللَّه تَعَالَى: قَوْله إِنِّي سَقِيم، وَقَوْله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وَوَاحِدَة فِي شَأْن سَارَة وَهِيَ قَوْله: إِنْ سَأَلَك فَأَخْبِرِيهِ أَنَّك أُخْتِي، فَإِنَّك أُخْتِي فِي الْإِسْلَام»، قَالَ الْمَازِرِيّ: أَمَّا الْكَذِب فِيمَا طَرِيقه الْبَلَاغ عَنْ اللَّه تَعَالَى فَالْأَنْبِيَاء مَعْصُومُونَ مِنْهُ، سَوَاء كَثِيره وَقَلِيله، وَأَمَّا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَاغِ، وَيُعَدُّ مِنْ الصِّفَات كَالْكَذْبَةِ الْوَاحِدَة فِي حَقِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَفِي إِمْكَان وُقُوعه مِنْهُمْ وَعِصْمَتِهِمْ مِنْهُ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَف.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: الصَّحِيح أَنَّ الْكَذِب فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَاغِ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعه مِنْهُمْ، سَوَاء جَوَّزْنَا الصَّغَائِر مِنْهُمْ وَعِصْمَتهمْ مِنْهُ، أَمْ لَا، وَسَوَاء قَلَّ الْكَذِب، أَمْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ يَرْتَفِعُ عَنْهُ، وَتَجْوِيزه يَرْفَعُ الْوُثُوق بِأَقْوَالِهِمْ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثِنْتَيْنِ فِي ذَات اللَّه تَعَالَى وَوَاحِدَة فِي شَأْن سَارَة» فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْكَذَبَات الْمَذْكُورَة إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَهْم الْمُخَاطَب وَالسَّامِع، وَأَمَّا فِي نَفْس الْأَمْر فَلَيْسَتْ كَذِبًا مَذْمُومًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّهُ وَرَّى بِهَا، فَقَالَ فِي سَارَة: أُخْتِي فِي الْإِسْلَام، وَهُوَ صَحِيح فِي بَاطِن الْأَمْر، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى تَأْوِيل اللَّفْظَيْنِ الْآخَرَيْنِ.
وَالْوَجْه الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذِبًا لَا تَوْرِيَةَ فيه لَكَانَ جَائِزًا فِي دَفْع الظَّالِمِينَ، وَقَدْ اِتَّفَقَ الْفُقَهَاء عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ ظَالِم يَطْلُب إِنْسَانًا مُخْتَفِيًا لِيَقْتُلَهُ، أَوْ يَطْلُب وَدِيعَة لِإِنْسَانٍ لِيَأْخُذَهَا غَصْبًا، وَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، وَجَبَ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ إِخْفَاؤُهُ وَإِنْكَار الْعِلْم بِهِ، وَهَذَا كَذِب جَائِز، بَلْ وَاجِب لِكَوْنِهِ فِي دَفْع الظَّالِم، فَنَبَّهَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَذَبَات لَيْسَتْ دَاخِلَة فِي مُطْلَق الْكَذِب الْمَذْمُوم.
قَالَ الْمَازِرِيّ: وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضهمْ هَذِهِ الْكَلِمَات، وَأَخْرَجَهَا عَنْ كَوْنهَا كَذِبًا، قَالَ: وَلَا مَعْنَى لِلِامْتِنَاعِ مِنْ إِطْلَاق لَفْظ أَطْلَقَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْت: أَمَّا إِطْلَاق لَفْظ الْكَذِب عَلَيْهَا فَلَا يُمْتَنَعُ لِوُرُودِ الْحَدِيث بِهِ، وَأَمَّا تَأْوِيلُهَا فَصَحِيحٌ لَا مَانِع مِنْهُ.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْوَاحِدَة الَّتِي فِي شَأْن سَارَة هِيَ أَيْضًا فِي ذَات اللَّه تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ دَفْعِ كَافِرٍ ظَالِمٍ عَنْ مُوَاقَعَة فَاحِشَة عَظِيمَة، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي غَيْر مُسْلِم، فَقَالَ: مَا فيها كَذْبَة إِلَّا بِمَا حَلَّ بِهَا عَنْ الْإِسْلَام أَيْ يُجَادِلُ وَيُدَافِعُ.
قَالُوا: وَإِنَّمَا خَصَّ الِاثْنَتَيْنِ بِأَنَّهُمَا فِي ذَات اللَّه تَعَالَى لِكَوْنِ الثَّالِثَة تَضَمَّنَتْ نَفْعًا لَهُ، وَحَظًّا مَعَ كَوْنهَا فِي ذَات اللَّه تَعَالَى.
وَذَكَرُوا فِي قَوْله: «إِنِّي سَقِيمٌ» أَيْ سَأَسْقُمُ لِأَنَّ الْإِنْسَان عُرْضَة لِلْأَسْقَامِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ الِاعْتِذَار عَنْ الْخُرُوج مَعَهُمْ إِلَى عِيدهمْ، وَشُهُود بَاطِلهمْ وَكُفْرهمْ.
وَقِيلَ: سَقِيم بِمَا قُدِّرَ عَلَيَّ مِنْ الْمَوْت.
وَقِيلَ: كَانَتْ تَأْخُذُهُ الْحُمَّى فِي ذَلِكَ الْوَقْت.
وَأَمَّا قَوْله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ» فَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة وَطَائِفَة: جُعْل النُّطْق شَرْطًا لِفِعْلِ كَبِيرهمْ، أَيْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ.
وَقَالَ الْكَسَائِيّ: يُوقَفُ عِنْد قَوْله: بَلْ فَعَلَهُ أَيْ فَعَلَهُ فَاعِله، فَأَضْمَرَ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ فَيَقُولُ: كَبِيرُهُمْ هَذَا، فَاسْأَلُوهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْفَاعِل.
وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهَا عَلَى ظَاهِرهَا، وَجَوَابهَا مَا سَبَقَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: «فَلَك اللَّهُ» أَيْ شَاهِدًا وَضَامِنًا أَنْ لَا أَضُرَّك.
قَوْله: (مَهْيَم) بِفَتْحِ الْمِيم وَالْيَاء وَإِسْكَان الْهَاء بَيْنهمَا أَيْ مَا شَأْنُك وَمَا خَبَرُك؟ وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيّ لِأَكْثَر الرُّوَاة (مَهِيمًا) بِالْأَلْفِ، وَالْأَوَّل أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ.
قَوْلهَا: «وَأَخْدَمَ خَادِمًا» أَيْ وَهَبَنِي خَادِمًا، وَهِيَ هَاجَرَ، وَيُقَال: آجَرَ بِمَدِّ الْأَلْف.
وَالْخَادِمُ يَقَع عَلَى الذَّكَر وَالْأُنْثَى.
قَوْله: «قَالَ أَبُو هُرَيْرَة فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاء السَّمَاء» قَالَ كَثِيرُونَ: الْمُرَاد بِبَنِي مَاء السَّمَاء الْعَرَب كُلّهمْ، لِخُلُوصِ نَسَبِهِمْ، وَصَفَائِهِ.
وَقِيلَ: لِأَنَّ أَكْثَرهمْ أَصْحَاب مَوَاشِي، وَعَيْشهمْ مِنْ الْمَرْعَى وَالْخِصْب، وَمَا يَنْبُتُ بِمَاءِ السَّمَاء.
وَقَالَ الْقَاضِي: الْأَظْهَر عِنْدِي أَنَّ الْمُرَاد بِذَلِكَ الْأَنْصَار خَاصَّة، وَنِسْبَتُهُمْ إِلَى جَدّهمْ عَامِر بْن حَارِثَة بْن اِمْرِئِ الْقَيْس بْن ثَعْلَبَة بْن مَازِن بْن الْأَدَد وَكَانَ يُعْرَفُ بِمَاءِ السَّمَاء، وَهُوَ الْمَشْهُور بِذَلِكَ، وَالْأَنْصَارُ كُلُّهُمْ مِنْ وَلَد حَارِثَة بْن ثَعْلَبَة بْن عَمْرو بْن عَامِر الْمَذْكُور.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِإِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
باب من فضائل ابراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب الفضائل ﴿ 40 ﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞