باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة
باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة
3231- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضكُمْ أَنْ يَكُون أَلْحَن بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْو مِمَّا أَسْمَع مِنْهُ، فَمَنْ قَطَعْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذهُ فَإِنَّمَا أَقْطَع لَهُ بِهِ قِطْعَة مِنْ النَّار»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «إِنَّمَا أَنَا بَشَر وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْم فَلَعَلَّ بَعْضهمْ أَنْ يَكُون أَبْلَغ مِنْ بَعْض فَأَحْسَب أَنَّهُ صَادِق فَأَقْضِي لَهُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِحَقِّ مُسْلِم فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَة مِنْ النَّار فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرهَا».
✯✯✯✯✯✯
3232- وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَر» مَعْنَاهُ التَّنْبِيه عَلَى حَالَة الْبَشَرِيَّة، وَأَنَّ الْبَشَر لَا يَعْلَمُونَ مِنْ الْغَيْب وَبَوَاطِن الْأُمُور شَيْئًا إِلَّا أَنْ يُطْلِعهُمْ اللَّه تَعَالَى عَلَى شَيْء مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَجُوز عَلَيْهِ فِي أُمُور الْأَحْكَام مَا يَجُوز عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْكُم بَيْن النَّاس بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِر، فَيُحْكَم بِالْبَيِّنَةِ وَبِالْيَمِينِ وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ أَحْكَام الظَّاهِر مَعَ إِمْكَان كَوْنه فِي الْبَاطِن خِلَاف ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا كُلِّفَ الْحُكْم بِالظَّاهِرِ، وَهَذَا نَحْو قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابهمْ عَلَى اللَّه» وَفِي حَدِيث الْمُتَلَاعِنَيْنِ: «لَوْلَا الْأَيْمَان لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْن» وَلَوْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى لَأَطْلَعَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَاطِن أَمْر الْخَصْمَيْنِ فَحَكَمَ بِيَقِينِ نَفْسه مِنْ غَيْر حَاجَة إِلَى شَهَادَة أَوْ يَمِين، لَكِنْ لَمَّا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى أُمَّته بِاتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاء بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَاله وَأَحْكَامه أَجْرَى لَهُ حُكْمهمْ فِي عَدَم الِاطَّلَاع عَلَى بَاطِن الْأُمُور، لِيَكُونَ حُكْم الْأُمَّة فِي ذَلِكَ حُكْمه، فَأَجْرَى اللَّه تَعَالَى أَحْكَامه عَلَى الظَّاهِر الَّذِي يَسْتَوِي فيه هُوَ وَغَيْره؛ لِيَصِحّ الِاقْتِدَاء بِهِ، وَتَطِيب نُفُوس الْعِبَاد لِلِانْقِيَادِ لِلْأَحْكَامِ الظَّاهِرَة مِنْ غَيْر نَظَر إِلَى الْبَاطِن.
وَاللَّهُ أَعْلَم.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيث ظَاهِر أَنَّهُ قَدْ يَقَع مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظَّاهِر مُخَالِف لِلْبَاطِنِ، وَقَدْ اِتَّفَقَ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقَرّ عَلَى خَطَأ فِي الْأَحْكَام، فَالْجَوَاب أَنَّهُ لَا تَعَارُض بَيْن الْحَدِيث وَقَاعِدَة الْأُصُولِيِّينَ؛ لِأَنَّ مُرَاد الْأُصُولِيِّينَ فِيمَا حَكَمَ فيه بِاجْتِهَادِهِ، فَهَلْ يَجُوز أَنْ يَقَع فيه خَطَأ؟ فيه خِلَاف، الْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازه، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ، فَاَلَّذِينَ جَوَّزُوهُ قَالُوا: لَا يُقَرّ عَلَى إِمْضَائِهِ، بَلْ يُعْلِمهُ اللَّه تَعَالَى بِهِ وَيَتَدَارَكهُ، وَأَمَّا الَّذِي فِي الْحَدِيث فَمَعْنَاهُ: إِذَا حَكَمَ بِغَيْرِ اِجْتِهَاد كَالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِين فَهَذَا إِذَا وَقَعَ مِنْهُ مَا يُخَالِف ظَاهِره بَاطِنه لَا يُسَمَّى الْحُكْم خَطَأ، بَلْ الْحُكْم صَحِيح بِنَاء عَلَى مَا اِسْتَقَرَّ بِهِ التَّكْلِيف، وَهُوَ وُجُوب الْعَمَل بِشَاهِدَيْنِ مَثَلًا، فَإِنْ كَانَا شَاهِدَيْ زُور أَوْ نَحْو ذَلِكَ فَالتَّقْصِير مِنْهُمَا وَمِمَّنْ سَاعَدَهُمَا، وَأَمَّا الْحُكْم فَلَا حِيلَة لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا عَيْب عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا أَخْطَأَ فِي الِاجْتِهَاد، فَإِنَّ هَذَا الَّذِي حَكَمَ بِهِ لَيْسَ هُوَ حُكْم الشَّرْع.
وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: دَلَالَة لِمَذْهَبِ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَجَمَاهِير عُلَمَاء الْإِسْلَام وَفُقَهَاء الْأَمْصَار مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ أَنَّ حُكْم الْحَاكِم لَا يُحِيل الْبَاطِن، وَلَا يُحِلّ حَرَامًا، فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدًا زُور لِإِنْسَانٍ بِمَالٍ، فَحَكَمَ بِهِ الْحَاكِم؛ لَمْ يَحِلّ لِلْمَحْكُومِ لَهُ ذَلِكَ الْمَال، وَلَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِقَتْلٍ لَمْ يَحِلّ لِلْوَلِيِّ قَتْله مَعَ عِلْمه بِكَذِبِهِمَا، وَإِنْ شَهِدَا بِالزُّورِ أَنَّهُ طَلَّقَ اِمْرَأَته لَمْ يَحِلّ لِمَنْ عَلِمَ بِكَذِبِهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجهَا بَعْد حُكْم الْقَاضِي بِالطَّلَاقِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: يُحِلّ حُكْم الْحَاكِم الْفُرُوج دُون الْأَمْوَال، فَقَالَ: يَحِلّ نِكَاح الْمَذْكُورَة، وَهَذَا مُخَالِف لِهَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح وَلِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْله، وَمُخَالِف لِقَاعِدَةٍ وَافَقَ هُوَ وَغَيْره عَلَيْهَا، وَهِيَ أَنَّ الْأَبْضَاع أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ مِنْ الْأَمْوَال.
وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّمَا أَقْطَع لَهُ بِهِ قِطْعَة مِنْ النَّار» مَعْنَاهُ: إِنْ قَضَيْت لَهُ بِظَاهِرٍ يُخَالِف الْبَاطِن فَهُوَ حَرَام يَؤُول بِهِ إِلَى النَّار.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرهَا» لَيْسَ مَعْنَاهُ التَّخْيِير، بَلْ هُوَ التَّهْدِيد وَالْوَعِيد، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} وَكَقَوْلِهِ سُبْحَانه: {اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}.
قَوْله: «سَمِعَ لَجَبَة خَصْم بِبَابِ أُمّ سَلَمَة» هِيَ بِفَتْحِ اللَّام وَالْجِيم وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة، وَفِي الرِّوَايَة الَّتِي قَبْل هَذِهِ: «جَلَبَة خَصْم» بِتَقْدِيمِ الْجِيم وَهُمَا صَحِيحَانِ، وَالْجَلَبَة وَاللَّجَبَة اِخْتِلَاط الْأَصْوَات، وَالْخَصْم هُنَا الْجَمَاعَة، وَهُوَ مِنْ الْأَلْفَاظ الَّتِي تَقَع عَلَى الْوَاحِد وَالْجَمْع.
وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِحَقِّ مُسْلِم» هَذَا التَّقْيِيد بِالْمُسْلِمِ خَرَجَ عَلَى الْغَالِب وَلَيْسَ الْمُرَاد بِهِ الِاحْتِرَاز مِنْ الْكَافِر، فَإِنَّ مَال الذِّمِّيّ وَالْمُعَاهَد وَالْمُرْتَدّ فِي هَذَا كَمَالِ الْمُسْلِم.
وَاللَّهُ أَعْلَم.
باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب الأقضية ﴿ 4 ﴾
۞۞۞۞۞۞
۞۞