باب من فضائل ابي بكر الصديق رضي الله عنه
باب من فضائل ابي بكر الصديق رضي الله عنه
4389- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا بَكْر مَا ظَنّك بِاثْنَيْنِ اللَّه ثَالِثهمَا» مَعْنَاهُ ثَالِثهمَا بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَة، وَالْحِفْظ وَالتَّسْدِيد، وَهُوَ دَاخِل فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اِتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وَفيه بَيَان عَظِيم تَوَكُّل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى فِي هَذَا الْمَقَام.
وَفيه فَضِيلَة لِأَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَهِيَ مِنْ أَجَلّ مَنَاقِبه، وَالْفَضِيلَة مِنْ أَوْجُه: مِنْهَا هَذَا اللَّفْظ، وَمِنْهَا بَذْله نَفْسه، وَمُفَارَقَته أَهْله وَمَاله وَرِيَاسَته فِي طَاعَة اللَّه تَعَالَى وَرَسُوله، وَمُلَازَمَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُعَادَاة النَّاس فيه.
وَمِنْهَا جَعْله نَفْسه وِقَايَة عَنْهُ وَغَيْر ذَلِكَ.
✯✯✯✯✯✯
4390- قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَبْدٌ خَيَّرَهُ اللَّه بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَة الدُّنْيَا، وَبَيْن مَا عِنْده، فَاخْتَارَ مَا عِنْده فَبَكَى أَبُو بَكْر وَبَكَى، وَقَالَ: فَدَيْنَاك بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتنَا» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: «فَبَكَى أَبُو بَكْر وَبَكَى» مَعْنَاهُ بَكَى كَثِيرًا، ثُمَّ بَكَى.
وَالْمُرَاد بِزَهْرَةِ الدُّنْيَا نَعِيمهَا وَأَعْرَاضهَا وَحُدُودهَا، وَشَبَّهَهَا بِزَهْرَةِ الرَّوْض.
وَقَوْله: «فَدَيْنَاك» دَلِيل لِجَوَازِ التَّفْدِيَة، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه مَرَّات.
وَكَانَ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْعَبْد الْمُخَيَّر، فَبَكَى حُزْنًا عَلَى فِرَاقه، وَانْقِطَاع الْوَحْي، وَغَيْره مِنْ الْخَيْر دَائِمًا.
وَإِنَّمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ عَبْدًا» وَأَبْهَمَهُ، لِيَنْظُر فَهْم أَهْل الْمَعْرِفَة، وَنَبَاهَة أَصْحَاب الْحِذْق.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَمَنَّ النَّاس عَلَيَّ فِي مَاله وَصُحْبَته أَبُو بَكْر» قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ أَكْثَرُهُمْ جُودًا وَسَمَاحَة لَنَا بِنَفْسِهِ وَمَاله، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمَنِّ الَّذِي هُوَ الِاعْتِدَاد بِالصَّنِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ أَذَى مُبْطِل لِلثَّوَابِ، وَلِأَنَّ الْمِنَّةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَبُول ذَلِكَ، وَفِي غَيْره.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْر خَلِيلًا، وَلَكِنَّ أُخُوَّةَ الْإِسْلَام» وَفِي رِوَايَة: «لَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي، وَقَدْ اِتَّخَذَ اللَّه صَاحِبكُمْ خَلِيلًا» قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: أَصْلُ الْخُلَّة الِافْتِقَار وَالِانْقِطَاع، فَخَلِيلُ اللَّه الْمُنْقَطِع إِلَيْهِ.
وَقِيلَ: لِقَصْرِهِ حَاجَته عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَقِيلَ: الْخُلَّة الِاخْتِصَاص، وَقِيلَ: الِاصْطِفَاء، وَسُمِّيَ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا لِأَنَّهُ وَالَى فِي اللَّه تَعَالَى، وَعَادَى فيه.
وَقِيلَ: سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ تَخَلَّقَ بِخِلَالٍ حَسَنَةٍ، وَأَخْلَاق كَرِيمَة، وَخُلَّة اللَّه تَعَالَى لَهُ نَصْره وَجَعْله إِمَامًا لِمَنْ بَعْده.
وَقَالَ اِبْن فَوْرَكٍ: الْخُلَّة صَفَاء الْمَوَدَّة بِتَخَلُّلِ الْأَسْرَار.
وَقِيلَ: أَصْلهَا الْمَحَبَّة، وَمَعْنَاهُ الْإِسْعَاف وَالْإِلْطَاف، وَقِيلَ: الْخَلِيل مَنْ لَا يَتَّسِعُ قَلْبه لِغَيْرِ خَلِيله.
وَمَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ حُبَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يُبْقِ فِي قَلْبه مَوْضِعًا لِغَيْرِهِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَجَاءَ فِي أَحَادِيث أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّه» فَاخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ هَلْ الْمَحَبَّة أَرْفَعُ مِنْ الْخُلَّة، أَمْ الْخُلَّة أَرْفَع؟ أَمْ هُمَا سَوَاء؟ فَقَالَتْ طَائِفَة: هُمَا بِمَعْنًى، فَلَا يَكُونُ الْحَبِيبُ إِلَّا خَلِيلًا، وَلَا يَكُونُ الْخَلِيل إِلَّا حَبِيبًا، وَقِيلَ: الْحَبِيب أَرْفَع، لِأَنَّهَا صِفَة نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: الْخَلِيل أَرْفَعُ، وَقَدْ ثَبَتَتْ خُلَّة نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الْحَدِيث، وَنَفَى أَنْ يَكُون لَهُ خَلِيل غَيْره، وَأَثْبَتَ مَحَبَّته لِخَدِيجَةَ، وَعَائِشَةَ وَأَبِيهَا، وَأُسَامَة وَأَبِيهِ، وَفَاطِمَة وَابْنَيْهَا، وَغَيْرهمْ.
وَمَحَبَّة اللَّه تَعَالَى لِعَبْدِهِ تَمْكِينه مِنْ طَاعَته، وَعِصْمَته، وَتَوْفِيقه، وَتَيْسِير أَلْطَافه، وَهِدَايَته، وَإِفَاضَة رَحْمَته عَلَيْهِ.
هَذِهِ مَبَادِيهَا، وَأَمَّا غَايَتُهَا فَكَشْفُ الْحُجُب عَنْ قَلْبه حَتَّى يَرَاهُ بِبَصِيرَتِهِ، فَيَكُون كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح: «فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعه الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَره» إِلَى آخِره.
هَذَا كَلَام الْقَاضِي.
وَأَمَّا قَوْل أَبِي هُرَيْرَة وَغَيْره مِنْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: سَمِعْت خَلِيلِي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَا يُخَالِف هَذَا؛ لِأَنَّ الصَّحَابِيّ يَحْسُنُ فِي حَقّه الِانْقِطَاع إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِد خَوْخَة إِلَّا خَوْخَة أَبِي بَكْر» الْخَوْخَة بِفَتْحِ الْخَاء، وَهِيَ الْبَاب الصَّغِير بَيْن الْبَيْتَيْنِ.
أَوْ الدَّارَيْنِ، وَنَحْوه.
وَفيه فَضِيلَة وَخِصِّيصَة ظَاهِرَة لِأَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَفيه أَنَّ الْمَسَاجِد تُصَانُ عَنْ تَطَرُّق النَّاس إِلَيْهَا فِي خَوْخَات وَنَحْوهَا إِلَّا مِنْ أَبْوَابهَا إِلَّا لِحَاجَةٍ مُهِمَّةٍ.
✯✯✯✯✯✯
4391- سبق شرحه بالباب.
✯✯✯✯✯✯
4392- سبق شرحه بالباب.
✯✯✯✯✯✯
4393- سبق شرحه بالباب.
✯✯✯✯✯✯
4394- سبق شرحه بالباب.
✯✯✯✯✯✯
4395- قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَّا إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى كُلّ خِلٍّ مِنْ خِلِّهِ» هُمَا بِكَسْرِ الْخَاء.
فَأَمَّا الْأَوَّل فَكَسْرُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْخِلّ بِمَعْنَى الْخَلِيل.
وَأَمَّا قَوْله (مِنْ خِلّه) فَبِكَسْرِ الْخَاء عِنْد جَمِيع الرُّوَاة فِي جَمِيع النُّسَخ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جَمِيعهمْ.
قَالَ: وَالصَّوَاب الْأَوْجَه فَتْحُهَا.
قَالَ: وَالْخُلَّة وَالْخِلّ وَالْخِلَال وَالْمُخَالَلَة وَالْخَلَالَة وَالْخَلْوَة الْإِخَاء وَالصَّدَاقَة، أَيْ بَرِئْت إِلَيْهِ مِنْ صَدَاقَتِهِ الْمُقْتَضِيَة الْمُخَالَلَة.
هَذَا كَلَام الْقَاضِي.
وَالْكَسْر صَحِيح كَمَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَات، أَيْ أَبْرَأ إِلَيْهِ مِنْ مُخَالَّتِي إِيَّاهُ.
وَذَكَرَ اِبْن الْأَثِير أَنَّهُ رُوِيَ بِكَسْرِ الْخَاء وَفَتْحهَا، وَأَنَّهُمَا بِمَعْنَى الْخُلَّة بِالضَّمِّ الَّتِي هِيَ الصَّدَاقَة.
✯✯✯✯✯✯
4396- قَوْله: «بَعَثَهُ عَلَى جَيْش ذَات السَّلَاسِل» هُوَ بِفَتْحِ السِّين الْأُولَى وَكَسْر الثَّانِيَة، وَهُوَ مَاء لِبَنِي جُذَام بِنَاحِيَةِ الشَّام.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ بِضَمِّ السِّين الْأُولَى، وَكَذَا ذَكَرَهُ اِبْن الْأَثِير فِي نِهَايَة الْغَرِيب، وَأَظُنُّهُ اِسْتَنْبَطَهُ مِنْ كَلَام الْجَوْهَرِيّ فِي الصِّحَاح، وَلَا دَلَالَة فيه، وَالْمَشْهُور وَالْمَعْرُوف فَتْحهَا، وَكَانَتْ هَذِهِ الْغَزْوَة فِي جُمَادَى الْأُخْرَى سَنَة ثَمَان مِنْ الْهِجْرَة.
وَكَانَتْ مُؤْتَة قَبْلهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ سَنَة ثَمَان أَيْضًا.
قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بْن عَسَاكِر: كَانَتْ ذَات السَّلَاسِل بَعْد مُؤْتَة فِيمَا ذَكَرَهُ أَهْل الْمَغَازِي، إِلَّا اِبْن إِسْحَاق فَقَالَ: قَبْلهَا.
قَوْله: «أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْك: قَالَ عَائِشَة قُلْت: مِنْ الرِّجَال قَالَ: أَبُوهَا قُلْت: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: عُمَر فَعَدَّ رِجَالًا» هَذَا تَصْرِيح بِعَظِيمِ فَضَائِل أَبِي بَكْر وَعُمَر وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَفيه دَلَالَة بَيِّنَة لِأَهْلِ السُّنَّة فِي تَفْضِيل أَبِي بَكْر، ثُمَّ عُمَر، عَلَى جَمِيع الصَّحَابَة.
✯✯✯✯✯✯
4397- قَوْله: «سُئِلَتْ عَائِشَةُ: مَنْ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْلِفًا لَوْ اِسْتَخْلَفَهُ؟ قَالَتْ: أَبُو بَكْر، فَقِيلَ لَهَا: ثُمَّ مَنْ بَعْد أَبِي بَكْر؟ قَالَتْ: عُمَرُ، ثُمَّ قِيلَ لَهَا: مَنْ بَعْد عُمَر؟ قَالَتْ: أَبُو عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح، ثُمَّ اِنْتَهَتْ إِلَى هَذَا» يَعْنِي وَقَفْت عَلَى أَبِي عُبَيْدَة.
هَذَا دَلِيل لِأَهْلِ السُّنَّة فِي تَقْدِيم أَبِي بَكْر ثُمَّ عُمَر لِلْخِلَافَةِ مَعَ إِجْمَاع الصَّحَابَة.
وَفيه دَلَالَة لِأَهْلِ السُّنَّة أَنَّ خِلَافَة أَبِي بَكْر لَيْسَتْ بِنَصٍّ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِلَافَته صَرِيحًا، بَلْ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَة عَلَى عَقْد الْخِلَافَة لَهُ، وَتَقْدِيمه لِفَضِيلَتِهِ.
وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ نَصّ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى غَيْره لَمْ تَقَعْ الْمُنَازَعَة مِنْ الْأَنْصَار وَغَيْرهمْ أَوَّلًا، وَلَذَكَرَ حَافِظُ النَّصِّ مَا مَعَهُ، وَلَرَجَعُوا إِلَيْهِ، لَكِنْ تَنَازَعُوا أَوَّلًا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَصٌّ، ثُمَّ اِتَّفَقُوا عَلَى أَبِي بَكْر، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْر.
وَأَمَّا مَا تَدَّعِيهِ الشِّيعَة مِنْ النَّصّ عَلَى عَلِيٍّ، وَالْوَصِيَّة إِلَيْهِ، فَبَاطِلٌ لَا أَصْل لَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَالِاتِّفَاق عَلَى بُطْلَان دَعْوَاهُمْ مِنْ زَمَن عَلِيّ، وَأَوَّل مَنْ كَذَّبَهُمْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِقَوْلِهِ: مَا عِنْدنَا إِلَّا مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَة الْحَدِيث، وَلَوْ كَانَ عِنْده نَصّ لَذَكَرَهُ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي يَوْمٍ مِنْ الْأَيَّام، وَلَا أَنَّ أَحَدًا ذَكَرَهُ لَهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
✯✯✯✯✯✯
4398- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَرْأَةِ حِين قَالَتْ: «يَا رَسُول اللَّه أَرَأَيْت إِنْ جِئْت فَلَمْ أَجِدْك؟ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَائْتِي أَبَا بَكْر» فَلَيْسَ فيه نَصّ عَلَى خِلَافَته، وَأَمْر بِهَا، بَلْ هُوَ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ الَّذِي أَعْلَمَهُ اللَّه تَعَالَى بِهِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
4399- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَة: «اِدْعِي لِي أَبَاك أَبَا بَكْر وَأَخَاك حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، وَيَقُول قَائِل: أَنَا أَوْلَى يَأْبَى اللَّه وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْر» هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض النُّسَخ الْمُعْتَمَدَة: «أَنَا أَوْلَى» بِتَخْفِيفِ: «أَنْ وَلَا» أَيْ يَقُولُ: أَنَا أَحَقُّ، وَلَيْسَ كَمَا يَقُول: بَلْ يَأْبَى اللَّه وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْر.
وَفِي بَعْضهَا أَنَا أَوْلَى أَيْ أَنَا أَحَقّ بِالْخِلَافَةِ قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الرِّوَايَة أَجْوَدُهَا، وَرَوَاهُ بَعْضهمْ: «أَنَا وَلِي» بِتَخْفِيفِ النُّون وَكَسْر اللَّام أَيْ أَنَا أَحَقُّ، وَالْخِلَافَة لِي.
وَعَنْ بَعْضهمْ: «أَنَا وَلَّاهُ» أَيْ أَنَا الَّذِي وَلَّاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعْضُهُمْ: «أَنَّى وَلَّاهُ» تَشْدِيد النُّون أَيْ كَيْف وَلَّاهُ؟ فِي هَذَا الْحَدِيث دَلَالَة ظَاهِرَة لِفَضْلِ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَإِخْبَار مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا سَيَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْد وَفَاته، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَأْبَوْنَ عَقْد الْخِلَافَة لِغَيْرِهِ.
وَفيه إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ سَيَقَعُ نِزَاع، وَوَقَعَ كُلُّ ذَلِكَ.
وَأَمَّا طَلَبُهُ لِأَخِيهَا مَعَ أَبِي بَكْر فَالْمُرَاد أَنَّهُ يَكْتُبُ الْكِتَاب.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: «لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أُوَجِّه إِلَى أَبِي بَكْر وَابْنه وَأَعْهَد» وَلِبَعْضِ رُوَاة الْبُخَارِيّ: «وَآتِيه» بِأَلِفٍ مَمْدُودَة وَمُثَنَّاة فَوْق وَمُثَنَّاة تَحْت مِنْ الْإِتْيَان.
قَالَ الْقَاضِي: وَصَوَّبَهُ بَعْضُهُمْ، وَلَيْسَ كَمَا صَوَّبَ، بَلْ الصَّوَاب اِبْنه بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة وَالنُّون، وَهُوَ أَخُو عَائِشَة، وَتُوَضِّحُهُ رِوَايَة مُسْلِم: «أَخَاك»، وَلِأَنَّ إِتْيَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَعَذَّرًا أَوْ مُتَعَسَّرًا، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ حُضُور الْجَمَاعَة، وَاسْتَخْلَفَ الصِّدِّيق لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، وَاسْتَأْذَنَ أَزْوَاجه أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْت عَائِشَة.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
✯✯✯✯✯✯
4400- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْم صَائِمًا؟ قَالَ أَبُو بَكْر: أَنَا» إِلَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اِجْتَمَعْنَ فِي اِمْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّة» قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ دَخَلَ الْجَنَّة بِلَا مُحَاسَبَةٍ وَلَا مُجَازَاة عَلَى قَبِيح الْأَعْمَال، وَإِلَّا فَمُجَرَّد الْإِيمَان يَقْتَضِي دُخُول الْجَنَّة بِفَضْلِ اللَّه تَعَالَى.
✯✯✯✯✯✯
4401- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي كَلَام الْبَقَرَة وَكَلَام الذِّئْب وَتَعَجُّب النَّاس مِنْ ذَلِكَ، «فَإِنِّي أُومِن بِهِ وَأَبُو بَكْر وَعُمَر وَمَا هُمَا» ثُمَّ قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ثِقَة بِهِمَا لِعِلْمِهِ بِصِدْقِ إِيمَانهمَا، وَقُوَّة يَقِينهمَا، وَكَمَال مَعْرِفَتهمَا لِعَظِيمِ سُلْطَان اللَّه وَكَمَال قُدْرَته.
فَفيه فَضِيلَة ظَاهِرَة لِأَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.
وَفيه جَوَاز كَرَامَات الْأَوْلِيَاء وَخَرْق الْعَوَائِد، وَهُوَ مَذْهَب أَهْل الْحَقّ، وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَة.
قَوْله: «قَالَ الذِّئْب: مَنْ لَهَا يَوْم السَّبُع يَوْم لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي» رُوِيَ: «السَّبُع» بِضَمِّ الْبَاء وَإِسْكَانهَا، الْأَكْثَرُونَ عَلَى الضَّمِّ.
قَالَ الْقَاضِي: الرِّوَايَة بِالضَّمِّ، وَقَالَ أَهْل اللُّغَة: هِيَ سَاكِنَةٌ، وَجَعْله اِسْمًا لِلْمَوْضِعِ الَّذِي عِنْده الْمَحْشَر يَوْم الْقِيَامَة، أَيْ مَنْ لَهَا يَوْم الْقِيَامَة؟ وَأَنْكَرَ بَعْض أَهْل اللُّغَة أَنْ يَكُونَ هَذَا اِسْمًا لِيَوْمِ الْقِيَامَة، وَقَالَ بَعْض أَهْل اللُّغَة: يُقَالُ: سَبَّعْت الْأَسَد إِذَا دَعَوْته، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا مَنْ لَهَا يَوْم الْفَزَع؟ وَيَوْم الْقِيَامَة يَوْم الْفَزَع، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَاد مَنْ لَهَا يَوْم الْإِهْمَال؟ مِنْ أَسَبَعْت الرَّجُل أَهْمَلْته، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَوْم السَّبْع بِالْإِسْكَانِ عِيد كَانَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّة يَشْتَغِلُونَ فيه بِلَعِبِهِمْ، فَيَأْكُلُ الذِّئْبُ غَنَمَهُمْ.
وَقَالَ الدَّاوُدِيّ: يَوْم السَّبُع أَيْ يَوْمَ يَطْرُدُك عَنْهَا السَّبُع، وَبَقِيت أَنَا فيها لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي لِفِرَارِك مِنْهُ، فَأَفْعَلُ فيها مَا أَشَاءُ.
هَذَا كَلَام الْقَاضِي.
وَقَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ: هُوَ بِالْإِسْكَانِ أَيْ يَوْم الْقِيَامَة، أَوْ يَوْم الذُّعْر.
وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ آخَرُونَ هَذَا لِقَوْلِهِ: يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي، وَيَوْم الْقِيَامَة لَا يَكُون الذِّئْبُ رَاعِيهَا، وَلَا لَهُ بِهَا تَعَلُّق.
وَالْأَصَحّ مَا قَالَهُ آخَرُونَ، وَسَبَقَتْ الْإِشَارَة إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهَا عِنْد الْفِتَن حِين تَتْرُكهَا النَّاس هَمَلًا لَا رَاعِي لَهَا نُهْبَةً لِلسِّبَاعِ فَجَعَلَ السَّبُع لَهَا رَاعِيًا أَيْ مُنْفَرِدًا بِهَا، وَتَكُونُ بِضَمِّ الْبَاء.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: «فَتَكَنَّفَهُ النَّاس» أَيْ أَحَاطُوا بِهِ، وَالسَّرِير هُنَا النَّعْش.
قَوْله: «فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا بِرَجُلٍ» هُوَ بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّ الرَّاء، وَمَعْنَاهُ لَمْ يَفْجَأنِي إِلَّا ذَلِكَ.
وَقَوْله: «بِرَجُلٍ» هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ: «بِرَجُلٍ» بِالْبَاءِ أَيْ لَمْ يَفْجَأنِي الْأَمْر فِي الْحَال إِلَّا بِرَجُلٍ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَضِيلَة أَبِي بَكْر وَعُمَر، وَشَهَادَة عَلِيّ لَهُمَا، وَحُسْن ثَنَائِهِ عَلَيْهِمَا، وَصِدْق مَا كَانَ يَظُنُّهُ بِعُمَر قَبْل وَفَاته رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
باب من فضائل ابي بكر الصديق رضي الله عنه
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب فضائل الصحابة ﴿ 2 ﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞