باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف
باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف
1658- قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: «أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك» هُوَ مَعْنَى قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يَخْلُفُهُ} فَيَتَضَمَّن الْحَثّ عَلَى الْإِنْفَاق مَعْنَى فِي وُجُوه الْخَيْر وَالتَّبْشِير بِالْخُلْفِ مِنْ فَضْل اللَّه تَعَالَى.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمِين اللَّه مَلْأَى».
وَقَالَ اِبْن نُمَيْر: «مَلَآنِ» هَكَذَا وَقَعَتْ رِوَايَة اِبْن نُمَيْر بِالنُّونِ.
قَالُوا: وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ، وَصَوَابه (مَلْأَى)، كَمَا فِي سَائِر الرِّوَايَات، ثُمَّ ضَبَطُوا رِوَايَة اِبْن نُمَيْر مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدهمَا: إِسْكَان اللَّام وَبَعْدهَا هَمْزَة، وَالثَّانِي: (مَلَان) بِفَتْحِ اللَّام بِلَا هَمْزَة.
✯✯✯✯✯✯
1659- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمِين اللَّه مَلْأَى سَحَّاء لَا يَغِيضُهَا شَيْءٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» ضَبَطُوا (سَحَّاء) بِوَجْهَيْنِ أَحَدهمَا: سَحَّاء بِالتَّنْوِينِ عَلَى الْمَصْدَر، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحّ الْأَشْهُر، وَالثَّانِي: حَكَاهُ الْقَاضِي (سَحَّاء) بِالْمَدِّ عَلَى الْوَصْف، وَوَزْنه فَعَلَاء صِفَة لِلْيَدِ، وَالسَّحّ: الصَّبّ الدَّائِم، وَاللَّيْل وَالنَّهَار فِي هَذِهِ الرِّوَايَة مَنْصُوبَانِ عَلَى الظَّرْف.
وَمَعْنَى: «لَا يَغِيضُهَا شَيْءٌ» أَيْ لَا يَنْقُصهَا، يُقَال: غَاضَ الْمَاء وَغَاضَهُ اللَّه، لَازِم وَمُتَعَدٍّ.
قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الْإِمَام الْمَازِرِيّ: هَذَا مِمَّا يُتَأَوَّل؛ لِأَنَّ الْيَمِين إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الْمُنَاسِبَة لِلشِّمَالِ لَا يُوصَف بِهَا الْبَارِي سُبْحَانه وَتَعَالَى؛ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّن إِثْبَات الشِّمَال، وَهَذَا يَتَضَمَّن التَّحْدِيد، وَيَتَقَدَّس اللَّه سُبْحَانه عَنْ التَّجْسِيم وَالْحَدّ، وَإِنَّمَا خَاطَبَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَفْهَمُونَهُ، وَأَرَادَ الْإِخْبَار بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَنْقُصُهُ الْإِنْفَاق، وَلَا يُمْسِك خَشْيَة الْإِمْلَاق جَلَّ اللَّه عَنْ ذَلِكَ.
وَعَبَّرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَوَالِي النِّعَم بِسَحِّ الْيَمِين؛ لِأَنَّ الْبَاذِل مِنَّا يَفْعَل ذَلِكَ بِيَمِينِهِ، قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد بِذَلِكَ أَنَّ قُدْرَة اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى عَلَى الْأَشْيَاء عَلَى وَجْه وَاحِد لَا يَخْتَلِف ضَعْفًا وَقُوَّة، وَأَنَّ الْمَقْدُورَات تَقَع بِهَا عَلَى جِهَة وَاحِدَة، وَلَا تَخْتَلِف قُوَّة وَضَعْفًا كَمَا يَخْتَلِف فِعْلنَا بِالْيَمِينِ وَالشِّمَال تَعَالَى اللَّه عَنْ صِفَات الْمَخْلُوقِينَ وَمُشَابَهَة الْمُحْدَثِينَ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقَبْض» فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ قُدْرَته سُبْحَانه وَتَعَالَى وَاحِدَة فَإِنَّهُ يَفْعَل بِهَا الْمُخْتَلِفَات وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ فِينَا لَا يُمْكِن إِلَّا بِيَدَيْنِ، عَبَّرَ عَنْ قُدْرَته عَلَى التَّصَرُّف فِي ذَلِكَ بِالْيَدَيْنِ لِيُفْهِمَهُمْ الْمَعْنَى الْمُرَاد بِمَا اِعْتَادُوهُ مِنْ الْخِطَاب عَلَى سَبِيل الْمَجَاز.
هَذَا آخِر كَلَام الْمَازِرِيّ.
قَوْله فِي رِوَايَة مُحَمَّد بْن رَافِع: «لَا يَغِيضهَا سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» ضَبَطْنَاهُ بِوَجْهَيْنِ: نَصْب اللَّيْل وَالنَّهَار وَرَفْعهمَا، النَّصْب عَلَى الظَّرْف، وَالرَّفْع عَلَى أَنَّهُ فَاعِل.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقَبْض يَخْفِض وَيَرْفَع» ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدهمَا: (الْفَيْض) بِالْفَاءِ وَالْيَاء الْمُثَنَّاة تَحْتُ.
وَالثَّانِي: (الْقَبْض) بِالْقَافِ وَالْبَاء الْمُوَحَّدَة، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ بِالْقَافِ، وَهُوَ الْمَوْجُود لِأَكْثَرِ الرُّوَاة، قَالَ: وَهُوَ الْأَشْهَر وَالْمَعْرُوف، قَالَ: وَمَعْنَى الْقَبْض الْمَوْت، وَأَمَّا الْفَيْض- بِالْفَاءِ- فَالْإِحْسَان وَالْعَطَاء وَالرِّزْق الْوَاسِع، قَالَ: وَقَدْ يَكُون بِمَعْنَى الْقَبْض بِالْقَافِ أَيْ الْمَوْت، قَالَ الْبَكْرَاوِيّ: وَالْفَيْض: الْمَوْت.
قَالَ الْقَاضِي قَيْس: يَقُولُونَ: فَاضَتْ نَفْسه- بِالضَّادِ- إِذَا مَاتَ، وَطَيٌّ يَقُولُونَ: فَاظَتْ نَفْسه بِالظَّاءِ.
وَقِيلَ: إِذَا ذُكِرَتْ النَّفْس فَبِالضَّادِ، وَإِذَا قِيلَ: فَاظَ مِنْ غَيْر ذِكْر النَّفْس فَبِالظَّاءِ.
وَجَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى: «وَبِيَدِهِ الْمِيزَان يَخْفِض وَيَرْفَع».
فَقَدْ يَكُون عِبَارَة عَنْ الرِّزْق وَمَقَادِيره، وَقَدْ يَكُون عِبَارَة عَنْ جُمْلَة الْمَقَادِير.
وَمَعْنَى: «يَخْفِض وَيَرْفَع» قِيلَ: هُوَ عِبَارَة عَنْ تَقْدِير الرِّزْق يَقْتُرهُ عَلَى مَنْ يَشَاء، وَيُوسِعُهُ عَلَى مَنْ يَشَاء، وَقَدْ يَكُونَانِ عِبَارَة عَنْ تَصَرُّف الْمَقَادِير بِالْخَلْقِ بِالْعِزِّ وَالذُّلّ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف
باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف