باب نقض الكعبة وبنايها
باب نقض الكعبة وبنايها
2367- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا حَدَاثَة عَهْد قَوْمك بِالْكُفْرِ لَنَقَضْت الْكَعْبَة وَلَجَعَلْتهَا عَلَى أَسَاس إِبْرَاهِيم فَإِنَّ قُرَيْشًا حِين بَنَتْ الْبَيْت اِسْتَقْصَرَتْ وَلَجَعَلْتُ لَهَا خَلْفًا» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى اِقْتَصَرُوا عَلَى قَوَاعِد إِبْرَاهِيم، وَفِي الْأُخْرَى: «فَإِنَّ قُرَيْشًا اِقْتَصَرَتْهَا» وَفِي الْأُخْرَى: «اسْتَقْصَرُوا مِنْ بُنْيَان الْبَيْت» وَفِي الْأُخْرَى: «قَصَّرُوا فِي الْبِنَاء» وَفِي الْأُخْرَى: «قَصُرَتْ بِهِمْ النَّفَقَة».
قَالَ الْعُلَمَاء: هَذِهِ الرِّوَايَات كُلّهَا بِمَعْنًى وَاحِد، وَمَعْنَى اِسْتَقْصَرَتْ: قَصَّرَتْ عَنْ تَمَام بِنَائِهَا، وَاقْتَصَرَتْ عَلَى هَذَا الْقَدْر لِقُصُورِ النَّفَقَة بِهِمْ عَنْ تَمَامهَا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِقَوَاعِد مِنْ الْأَحْكَام مِنْهَا: إِذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِح أَوْ تَعَارَضَتْ مَصْلَحَة وَمَفْسَدَة وَتَعَذَّرَ الْجَمْع بَيْن فِعْل الْمَصْلَحَة وَتَرْك الْمَفْسَدَة بُدِئَ بِالْأَهَمِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ نَقْضَ الْكَعْبَة وَرَدَّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَوَاعِد إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَصْلَحَة، وَلَكِنْ تُعَارِضهُ مَفْسَدَة أَعْظَم مِنْهُ، وَهِيَ خَوْف فِتْنَة بَعْض مَنْ أَسْلَمَ قَرِيبًا، وَذَلِكَ لِمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ فَضْل الْكَعْبَة، فَيَرَوْنَ تَغْيِيرهَا عَظِيمًا، فَتَرَكَهَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِنْهَا فِكْر وَلِي الْأَمْر فِي مَصَالِح رَعِيَّته، وَاجْتِنَابه مَا يَخَاف مِنْهُ تَوَلُّد ضَرَر عَلَيْهِمْ فِي دِينَ أَوْ دُنْيَا إِلَّا الْأُمُور الشَّرْعِيَّة كَأَخْذِ الزَّكَاة وَإِقَامَة الْحُدُود وَنَحْو ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: تَأَلُّف قُلُوب الرَّعِيَّة وَحُسْن حِيَاطَتهمْ وَأَلَّا يَنْفِرُوا وَلَا يَتَعَرَّض لِمَا يَخَاف تَنْفِيرهمْ بِسَبَبِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فيه تَرْك أَمْر شَرْعِيّ كَمَا سَبَقَ، قَالَ الْعُلَمَاء: بُنِيَ الْبَيْت خَمْس مَرَّات بَنَتْهُ الْمَلَائِكَة، ثُمَّ إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة، وَحَضَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْبِنَاء، وَلَهُ خَمْس وَثَلَاثُونَ سَنَة، وَقِيلَ: خَمْس وَعِشْرُونَ، وَفيه سَقَطَ عَلَى الْأَرْض حِين وَقَعَ إِزَاره، ثُمَّ بَنَاهُ اِبْن الزُّبَيْر، ثُمَّ الْحَجَّاج بْن يُوسُف، وَاسْتَمَرَّ إِلَى الْآن عَلَى بِنَاء الْحَجَّاج، وَقِيلَ: بُنِيَ مَرَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَقَدْ أَوْضَحْته فِي كِتَاب إِيضَاح الْمَنَاسِك الْكَبِير.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَلَا يُغَيَّر عَنْ هَذَا الْبِنَاء، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ هَارُون الرَّشِيد سَأَلَ مَالِك بْن أَنَس عَنْ هَدْمهَا وَرَدّهَا إِلَى بِنَاء اِبْن الزُّبَيْر؛ لِلْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَة فِي الْبَاب، فَقَالَ مَالِك: نَاشَدْتُك اللَّه يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أَلَّا تَجْعَل هَذَا الْبَيْت لُعْبَة لِلْمُلُوكِ لَا يَشَاء أَحَد إِلَّا نَقَضَهُ وَبَنَاهُ فَتَذْهَب هَيْبَته مِنْ صُدُور النَّاس.
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَجَعَلْت لَهَا خَلْفًا» هُوَ بِفَتْحِ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَإِسْكَان اللَّام وَبِالْفَاءِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور، وَالْمُرَاد بِهِ بَاب مِنْ خَلْفهَا، وَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا» وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ قَالَ هِشَام: (خَلْفًا) يَعْنِي بَابًا.
وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى لِمُسْلِمٍ: «بَابيْنِ أَحَدهمَا يُدْخَل مِنْهُ وَالْآخَر يُخْرَج مِنْهُ» وَفِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: «وَلَجَعَلْت لَهَا خِلْفَيْنِ» قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ ذَكَرَ الْحَرْبِيّ هَذَا الْحَدِيث هَكَذَا، وَضَبَطَهُ (خِلْفَيْنِ) بِكَسْرِ الْخَاء، وَقَالَ: الْخَالِفَة عَمُود فِي مُؤَخَّر الْبَيْت.
وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: خَلْفَيْنِ بِفَتْحِ الْخَاء، قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَا ضَبَطْنَاهُ عَلَى شَيْخنَا أَبِي الْحُسَيْن، قَالَ: وَذَكَرَ الْهَرَوِيُّ عَنْ اِبْن الْأَعْرَابِيّ أَنَّ الْخَلْف الظَّهْر، وَهَذَا يُفَسِّر أَنَّ الْمُرَاد الْبَاب كَمَا فَسَّرَتْهُ الْأَحَادِيث الْبَاقِيَة.
وَاَللَّه أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
2368- قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِك» هُوَ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ أَيْ قُرْبَ عَهْدِهِمْ بِالْكُفْرِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: (فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَة سَمِعَت هَذَا) قَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ هَذَا اللَّفْظ مِنْ اِبْن عُمَر عَلَى سَبِيل التَّضْعِيف لِرِوَايَتِهَا وَالتَّشْكِيك فِي صِدْقهَا وَحِفْظهَا فَقَدْ كَانَتْ مِنْ الْحِفْظ وَالضَّبْط بِحَيْثُ لَا يُسْتَرَاب فِي حَدِيثهَا، وَلَا فِيمَا تَنْقُلهُ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مَا يَقَع فِي كَلَام الْعَرَب صُورَة التَّشْكِيك وَالتَّقْرِير، وَالْمُرَاد بِهِ الْيَقِين كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَة لَكُمْ وَمَتَاع إِلَى حِين} وَقَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْت فَإِنَّمَا أَضِلّ عَلَى نَفْسِي وَإِنْ اِهْتَدَيْت} الْآيَة.
✯✯✯✯✯✯
2369- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنَّ قَوْمك حَدِيثُو عَهْد بِجَاهِلِيَّةٍ أَوْ قَالَ بِكُفْرٍ لَأَنْفَقْتُ كَنْز الْكَعْبَة فِي سَبِيل اللَّه» فيه: دَلِيل لِتَقْدِيمِ أَهَمّ الْمَصَالِح عِنْد تَعَذُّر جَمِيعهَا، كَمَا سَبَقَ إِيضَاحه فِي أَوَّل الْحَدِيث: وَفيه دَلِيل لِجَوَازِ إِنْفَاق كَنْز الْكَعْبَة وَنُذُورهَا الْفَاضِلَة عَنْ مَصَالِحهَا فِي سَبِيل اللَّه، لَكِنْ جَاءَ فِي رِوَايَة: «لَأَنْفَقْتُ كَنْز الْكَعْبَة فِي بِنَائِهَا» وَبِنَاؤُهَا مِنْ سَبِيل اللَّه، فَلَعَلَّهُ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَة الْأُولَى: «فِي سَبِيل اللَّه».
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَمَذْهَبنَا أَنَّ الْفَاضِل مِنْ وَقْف مَسْجِد أَوْ غَيْره لَا يُصْرَف فِي مَصَالِح مَسْجِد آخَر وَلَا غَيْره، بَلْ يُحْفَظ دَائِمًا لِلْمَكَانِ الْمَوْقُوف عَلَيْهِ الَّذِي فَضَلَ مِنْهُ، فَرُبَّمَا اِحْتَاجَ إِلَيْهِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَأَدْخَلْتُ فيها مِنْ الْحِجْر» وَفِي رِوَايَة: «وَزِدْت فيها سِتَّة أَذْرُع مِنْ الْحِجْر فَإِنَّ قُرَيْشًا اِقْتَصَرَتْهَا حِين بِنْت الْكَعْبَة» وَفِي رِوَايَة: «خَمْس أَذْرُع» وَفِي رِوَايَة: «قَرِيبًا مِنْ سَبْع أَذْرُع» وَفِي رِوَايَة: «قَالَتْ عَائِشَة سَأَلْتُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجِدَار أَمِنَ الْبَيْت هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ» وَفِي رِوَايَة: «لَوْلَا أَنَّ قَوْمك حَدِيث عَهْدهمْ فِي الْجَاهِلِيَّة فَأَخَاف أَنْ تُنْكِرهُ قُلُوبهمْ لَنَظَرْت أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْر فِي الْبَيْت» قَالَ أَصْحَابنَا: سِتّ أَذْرُع مِنْ الْحِجْر مِمَّا يَلِي الْبَيْت مَحْسُوبَة مِنْ الْبَيْت بِلَا خِلَاف، وَفِي الزَّائِد خِلَاف فَإِنْ طَافَ فِي الْحِجْر وَبَيْنه وَبَيْن الْبَيْت أَكْثَر مِنْ سِتَّة أَذْرُع فَفيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَحَدهمَا: يَجُوز لِظَوَاهِر هَذِهِ الْأَحَادِيث، وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَحَهُ جَمَاعَات مِنْ أَصْحَابنَا الْخُرَاسَانِيِّينَ.
وَالثَّانِي: لَا يَصِحّ طَوَافه فِي شَيْء مِنْ الْحِجْر وَلَا عَلَى جِدَاره، وَلَا يَصِحّ حَتَّى يَطُوف خَارِجًا مِنْ جَمِيع الْحِجْر، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيّ، وَقَطَعَ بِهِ جَمَاهِير أَصْحَابنَا الْعِرَاقِيِّينَ، وَرَجَحَهُ جُمْهُور الْأَصْحَاب، وَبِهِ قَالَ جَمِيع عُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ سِوَى أَبِي حَنِيفَة، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنْ طَافَ فِي الْحِجْر وَبَقِيَ فِي مَكَّة أَعَادَهُ، وَإِنْ رَجَعَ مِنْ مَكَّة بِلَا إِعَادَة أَرَاقَ دَمًا وَأَجْزَأَهُ طَوَافه، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ مِنْ وَرَاء الْحِجْر، وَقَالَ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِككُمْ» ثُمَّ أَطْبَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ زَمَنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْآن، وَسَوَاء كَانَ كُلّه مِنْ الْبَيْت أَمْ بَعْضه، فَالطَّوَاف يَكُون مِنْ وَرَائِهِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَة: «سِتَّة أَذْرُع» بِالْهَاءِ، وَفِي رِوَايَة: «خَمْس» وَفِي رِوَايَة: «قَرِيبًا مِنْ سَبْع» بِحَذْفِ الْهَاء، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، فَفِي الذِّرَاع لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ التَّأْنِيث وَالتَّذْكِير، وَالتَّأْنِيث أَفْصَح.
✯✯✯✯✯✯
2370- سبق شرحه بالباب.
✯✯✯✯✯✯
2371- قَوْله: (لَمَّا اِحْتَرَقَ الْبَيْت زَمَن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة حِين غَزَاهُ أَهْل الشَّام تَرَكَهُ اِبْن الزُّبَيْر حَتَّى قَدِمَ النَّاس الْمَوْسِم يُرِيد أَنْ يُجَرِّئهُمْ أَوْ يُحَرِّبَهُم عَلَى أَهْل الشَّام) أَمَّا الْحَرْف الْأَوَّل فَهُوَ يُجَرِّئهُمْ بِالْجِيمِ وَالرَّاء بَعْدهمَا هَمْزَة مِنْ الْجَرَاءَة، أَيْ يُشَجِّعهُمْ عَلَى قِتَالهمْ بِإِظْهَارِ قُبْح فِعَالهمْ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي ضَبْطه، قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَاهُ الْعُذْرِيّ (يُجَرِّبهُمْ) بِالْجِيمِ وَالْبَاء الْمُوَحَّدَة، وَمَعْنَاهُ يَخْتَبِرهُمْ وَيَنْظُر مَا عِنْدهمْ فِي ذَلِكَ مِنْ حَمِيَّة وَغَضَب لِلَّهِ تَعَالَى وَلِبَيْتِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ قَوْله (أَوْ يَحْرِبهم) فَهُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَالرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحَّدَة، وَأَوَّله مَفْتُوح وَمَعْنَاهُ يَغِيظهُمْ بِمَا يَرَوْنَهُ قَدْ فُعِلَ بِالْبَيْتِ؛ مِنْ قَوْلهمْ: حَرِبْت الْأَسَد > إِذَا أَغْضَبْته، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ يَكُون مَعْنَاهُ يَحْمِلهُمْ عَلَى الْحَرْب وَيُحَرِّضهُمْ عَلَيْهَا، وَيُؤَكِّد عَزَائِمهمْ لِذَلِكَ، قَالَ وَرَوَاهُ آخَرُونَ (يَحْزُبهُمْ) بِالْحَاءِ وَالزَّاي يَشُدّ قُوَّتهمْ وَيَمِيلهُمْ إِلَيْهِ، وَيَجْعَلهُمْ حِزْبًا لَهُ وَنَاصِرِينَ لَهُ عَلَى مُخَالَفَته، وَحِزْب الرَّجُل مَنْ مَالَ إِلَيْهِ، وَتَحَازَبَ الْقَوْم: تَمَالُوا.
قَوْله: (يَا أَيّهَا النَّاس أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي الْكَعْبَة) فيه دَلِيل لِاسْتِحْبَابِ مُشَاوَرَة الْإِمَام أَهْل الْفَضْل وَالْمَعْرِفَة فِي الْأُمُور الْمُهِمَّة.
قَوْله: (قَالَ اِبْن عَبَّاس: فَإِنِّي قَدْ فُرِقَ لِي فيها رَأْي) هُوَ بِضَمِّ الْفَاء وَكَسْر الرَّاء، أَيْ كُشِفَ وَبُيِّنَ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ}، أَيْ: فَصَّلْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ، هَذَا هُوَ الصَّوَاب فِي ضَبْط هَذِهِ اللَّفْظَة وَمَعْنَاهَا، وَهَكَذَا ضَبَطَه الْقَاضِي وَالْمُحَقِّقُونَ، وَقَدْ جَعَلَهُ الْحُمَيْدِيّ صَاحِب الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ فِي كِتَابه غَرِيب الصَّحِيحَيْنِ (فَرَقَ) بِفَتْحِ الْفَاء بِمَعْنَى خَافَ، وَأَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ وَغَلَّطُوا الْحُمَيْدِيّ فِي ضَبْطه وَتَفْسِيره.
قَوْله: (فَقَالَ اِبْن الزُّبَيْر: لَوْ كَانَ أَحَدكُمْ اِحْتَرَقَ بَيْته مَا رَضِيَ حَتَّى يُجِدَّهُ) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ (يُجِدَّهُ) بِضَمِّ الْيَاء وَبِدَالٍ وَاحِدَة، وَفِي كَثِير مِنْهَا (يُجَدِّد) بِدَالَيْنِ وَهُمَا بِمَعْنًى.
قَوْله: (تَتَابَعُوا فَنَقَضُوهُ) هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ (تَتَابَعُوا) بِبَاءٍ مُوَحَّدَة قَبْل الْعَيْن وَهَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخِ بِلَادنَا، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ، وَعَنْ أَبِي بَحْر (تَتَابَعُوا)، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، إِلَّا أَنَّ أَكْثَر مَا يُسْتَعْمَل بِالْمُثَنَّاةِ فِي الشَّرّ خَاصَّة، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعه.
قَوْله: (فَجَعَلَ اِبْن الزُّبَيْر أَعْمِدَة فَسَتَرَ عَلَيْهَا السُّتُور حَتَّى اِرْتَفَعَ بِنَاؤُهُ) الْمَقْصُود بِهَذِهِ الْأَعْمِدَة وَالسُّتُور أَنْ يَسْتَقْبِلهَا الْمُصَلَّوْنَ فِي تِلْكَ الْأَيَّام، وَيَعْرِفُوا مَوْضِع الْكَعْبَة، وَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ السُّتُور حَتَّى اِرْتَفَعَ الْبِنَاء وَصَارَ مُشَاهَدًا لِلنَّاسِ فَأَزَالَهَا، لِحُصُولِ الْمَقْصُود بِالْبِنَاءِ الْمُرْتَفِع مِنْ الْكَعْبَة.
وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي عِيَاض بِهَذَا لِمَذْهَبِ مَالِك فِي أَنَّ الْمَقْصُود بِالِاسْتِقْبَالِ الْبِنَاء لَا الْبُقْعَة، قَالَ: وَقَدْ كَانَ اِبْن عَبَّاس أَشَارَ عَلَى اِبْن الزُّبَيْر بِنَحْوِ هَذَا وَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْت هَادِمهَا فَلَا تَدَعْ النَّاس بِلَا قِبْلَة، فَقَالَ لَهُ جَابِر: صَلُّوا إِلَى مَوْضِعهَا فَهِيَ الْقِبْلَة، وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَغَيْره جَوَاز الصَّلَاة إِلَى أَرْض الْكَعْبَة، وَيُجْزِيه ذَلِكَ بِلَا خِلَاف عِنْده سَوَاء كَانَ بَقِيَ مِنْهَا شَاخِص أَمْ لَا.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (إِنَّا لَسْنَا مِنْ تَلْطِيخ اِبْن الزُّبَيْر فِي شَيْء) يُرِيد بِذَلِكَ سَبَّهُ وَعَيْب فِعْله.
يُقَال: لَطَّخْته، أَيْ: رَمَيْته بِأَمْرِ قَبِيح.
✯✯✯✯✯✯
2372- قَوْله: (وَفَدَ الْحَرْث بْن عَبْد اللَّه عَلَى عَبْد الْمُلْك بْن مَرْوَان فِي خِلَافَته) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ (الْحَرْث بْن عَبْد اللَّه) وَلَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا خِلَاف، وَنُسَخ بِلَادنَا هِيَ رِوَايَة عَبْد الْغَفَّار بْن الْفَارِسِيّ، وَادَّعَى الْقَاضِي عِيَاض أَنَّهُ وَقَعَ هَكَذَا لِجَمِيعِ الرُّوَاة سِوَى الْفَارِسِيّ فَإِنَّ فِي رِوَايَته (الْحَرْث بْن عَبْد الْأَعْلَى) قَالَ: وَهُوَ خَطَأ بَلْ الصَّوَاب الْحَرْث بْن عَبْد اللَّه، وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ رِوَايَة الْفَارِسِيّ غَيْر مَقْبُول، بَلْ الصَّوَاب أَنَّهَا كَرِوَايَةِ غَيْره الْحَرْث بْن عَبْد اللَّه، وَلَعَلَّهُ وَقَعَ لِلْقَاضِي نُسْخَة عَنْ الْفَارِسِيّ فيها هَذِهِ اللَّفْظَة مُصَحَّفَة عَلَى الْفَارِسِيّ لَا مِنْ الْفَارِسِيّ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (مَا أَظُنّ أَبَا خُبَيْب) هُوَ بِضَمِّ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسَبَقَ بَيَانه مَرَّات.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا حَدَاثَة عَهْدهمْ» هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء، أَيْ: قُرْبه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِك» هُوَ بِغَيْرِ هَمْزَة، يُقَال: بَدَا لَهُ فِي الْأَمْر بَدَاء الْمَدّ، أَيْ حَدَثَ لَهُ فيه رَأْي لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ ذُو بَدَوَات، أَيْ يَتَغَيَّر رَأْيه، وَالْبَدَاء مُحَال عَلَى اللَّه تَعَالَى بِخِلَافِ النَّسْخ.
قَوْله: «فَهَلُمِّي لِأُرِيَك» هَذَا جَارٍ عَلَى إِحْدَى اللُّغَتَيْنِ فِي (هَلُمَّ) قَالَ الْجَوْهَرِيّ تَقُول (هَلُمَّ يَا رَجُل) بِفَتْحِ الْمِيم بِمَعْنَى تَعَالَ، قَالَ الْخَلِيلِيّ: أَصْله (لَمَّ) مِنْ قَوْلهمْ: (لَمَّ اللَّه شُعْثه) أَيْ جَمَعَهُ، كَأَنَّهُ أَرَادَ لُمَّ نَفْسك إِلَيْنَا أَيْ أَقْرِب و(هَا) لِلتَّنْبِيهِ وَحُذِفَتْ أَلِفهَا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَال وَجُعِلَا اِسْمًا وَاحِدًا يَسْتَوِي فيه الْوَاحِد وَالِاثْنَانِ وَالْجَمْع وَالْمُؤَنَّث، فَيُقَال فِي الْجَمَاعَة (هَلُمَّ) هَذِهِ لُغَة أَهْل الْحِجَاز، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} وَأَهْل نَجِد يَصْرِفُونَهَا فَيَقُولُونَ لِلِاثْنَيْنِ (هَلُمَّا) وَلِلْجَمْعِ (هَلُمُّوا) وَلِلْمَرْأَةِ (هَلُمِّي) وَلِلنِّسَاءِ (هَلُمَّنَ) وَالْأَوَّل أَفْصَح، هَذَا كَلَام الْجَوْهَرِيّ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى إِذَا كَادَ أَنْ يَدْخُل» هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ كُلّهَا: «كَادَ أَنْ يَدْخُل» وَفيه حُجَّة لِجَوَازِ دُخُول (أَنْ) بَعْد (كَادَ)، وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ، وَهِيَ لُغَة فَصَيْحَة، وَلَكِنَّ الْأَشْهَر عَدَمه.
قَوْله: «فَنَكَتَ سَاعَة بِعَصَاهُ» أَيْ بَحَثَ بِطَرَفِهَا فِي الْأَرْض، وَهَذِهِ عَادَة مَنْ تَفَكَّرَ فِي أَمْر مُهِمّ.
✯✯✯✯✯✯
2373- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا حِدْثَان قَوْمك» هُوَ بِكَسْرِ الْحَاء وَإِسْكَان الدَّال أَيْ قُرْب عَهْدهمْ بِالْكُفْرِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (فَقَالَ الْحَرْث بْن عَبْد اللَّه بْن أَبِي رَبِيعَة، لَا تَقُلْ هَذَا يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فَأَنَا سَمِعْت أُمّ الْمُؤْمِنِينَ تُحَدِّث) هَذَا فيه الِانْتِصَار لِلْمَظْلُومِ، وَرَدّ الْغِيبَة، وَتَصْدِيق الصَّادِق إِذَا كَذَّبَهُ إِنْسَان، وَالْحَرْث هَذَا تَابِعِيّ، وَهُوَ الْحَرْث بْن عَبْد اللَّه بْن عَيَّاش بْن أَبِي رَبِيعَة.
باب نقض الكعبة وبنايها