أغراض المسند اسما أو فعلا
أغراض المسند
قال تعالى (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) التوبة 40
- الطيبي:
قوله -أي الزمخشري- (والرفع أوجه) لأنه يدل على الثبوت والدوام، وأن الجعل لم يتطرق على كلمة الله، وأنها في نفسها عالية.
- النسفي:
والرفع على الاستئناف أوجه إذ هي كانت ولم تزل عالية.
- قال الألوسي:
ولا يخفى ما في تغيير الأسلوب من المبالغة لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبوت مع الإيذان بأن الجعل لم يتطرق لتلك الكلمة وأنها في نفسها عالية بخلاف علو غيرها فإنه غير ذاتي بل بجعل وتكلف فهو عرض زائل وأمر غير قار ولذلك وسط ضمير الفصل.
وقرأ يعقوب (كلمة الله) بالنصب عطفا على (كَلِمَةَ الَّذِينَ) وهو دون الرفع في البلاغة.
- قال ابن عاشور:
وجملة (وكلمة الله هي العليا) مستأنفة بمنزلة التذييل للكلام لأنه لما أخبر عن كلمة الذين كفروا بأنها صارت سفلى أفاد أن العلاء انحصر في دين الله وشأنه. فضمير الفصل مفيد للقص، ولذلك لم تعطف كلمة الله على كلمة الذين كفروا، إذ ليس المقصود إفادة جعل كلمة الله عليا، لما يشعر به الجعل من إحداث الحالة، بل إفادة أن العلاء ثابت لها ومقصور عليها، فكانت الجملة كالتذييل لجعل كلمة الذين كفروا سفلى.
مجيء المسند فعلا أو اسما
قبل الحديث عن ذلك ينبغي علينا أن نبين المقصود من المسند، وأنماطه.
المسند: هو الجزء المتمم للفائدة، وهو المحكوم به، وبدونه لا يتم المعنى في الجملة.
أنماط المسند
١ خبر المبتدأ، مثل: الحياة كفاح، وكذلك خبر كان وأخواتها، وخبر إن وأخواتها.
٢ المفعول الثاني لظن وأخواتها، والمفعول الثالث لأعلم، وأرى.
٣ الفعل التام، مثل: يفهم المجتهد.
٣ اسم الفعل، مثل: هيهات العقيق.
للدلالة المستفادة من مجيء المسند فعلا أو اسما
لمعرفة هذه الدلالات يلزمنا أن نعرف الفرق الدقيق بين دلالة صيغة الفعل على معنى، ودلالة صيغة الاسم على نفس المعنى، أي بين أن تعبر عن الانطلاق بقولك: منطلق، وبين أن تعبر عنه بقولك: ينطلق وقد قالوا: إنك إذا قلت: منطلق فقد أفدت انطلاقًا ثابتًا، وإذا قلت: ينطلق فقد أفدت انطلاقا يتجدد، فصيغة الاسم تدل على الثبوت من غير إفادة التجدد، وصيغة الفعل تدل على الحدوث والتجدد، فقولك: زيد منطلق كقولك:
زيد طويل من حيث دلالته على أنه طويل من غير أن يشعر بتجدد الطول وحدوثه، وقولك: زيد ينطلق كقولك: زيد يطول من حيث دلالته على حدوث الانطلاق وتجدده، وهذا إنما يصح إذا كان زيد غلامًا لم يستقر طوله.
ويظهر هذا واضحا في قولك: هذا الشيء أبيض، وقولك: هذا الشيء يبيض، فقولك: أبيض يفيد أن صفة البياض ثابتة لا تحدث فيه، ولا تتجدد كاللبن مثلا، وقولك: يبيض يفيد أنه يتحول إلى البياض شيئا، فشيئا فبياضه يحدث ويتجدد.
وإذا تقرر هذا ظهر أنه لا يصح وضع أحدهما موضع الآخر، فلكل منهما سياق يقتضيه، وصورة من المعنى لا يدل عليها غيره.
انظر إلى قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} تجد أنه يفيد أن الكلب على هيئة وصفة ثابتة هي بسط الذراعين بالباب، كما تقول: هو طويل، في أنك تثبت له صفة هو عليها من غير إشعار بشيء آخر ولا إشارة إليه.
ولو قال: كلبهم يبسط ذراعيه لكان المعنى أن الكلب يحدث البسط، ويزاوله ويتجدد منه شيئا فشيئا، وليس هذا هو المراد، وإنما المراد أن الكلب باسط ذراعيه بالباب، وهو على هذه الصورة الثابتة الجامدة، فتظل الصورة الثابتة الجامدة، فتظل الصورة العامة لفتية الكهف يلفها سياج من المهابة والخشية: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} .
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} .
يقول الزمخشري: "فإن قلت: لم قيل: ويقبضن، ولم يقل: وقابضات؟ قلت: لأن الأصل في الطيران هو صف الأجنحة؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل، على معنى أنهن صافات، ويكون منهن القبض كما يكون من السابح".
وإذا عرفت هذه الخصوصية في دلالة الفعل ودلالة الاسم، تلك الخصوصية التي تشتد الحاجة إلى معرفتها في علم البلاغة كما يقول الجرجاني، فاعلم أن الفعل يفيد أيضا تفييد المسند بأحد الأزمنة الذي يدل الفعل عليها، فإذا كان ماضيا فإنه يقيد الحدث بالزمن الماضي، وإذا كان مضارعا قيده بحال، وهكذا، وذلك بخلاف الاسم، فإنه لا يدل على زمان.
ولا يشتبه علينا أنه ليس بلازم من كون المسند فعلا أن يكون جملة، فقد يكون فعلا وهو مفرد مثل: ينطلق زيد، فالمسند هو الفعل فقط، وهو مفرد وقد يكون ملة مثل زيد ينطلق، فالمسند هنا ينطلق مع فاعله -وهذا ظاهر.
والفرق بين كون المسند فعلا فقط مثل ينطلق زيد، وكونه جملة مثل زيد ينطلق أو زيد أبوه منطلق هو أن الجملة تفيد تقوي الحكم، وقد قالوا: إن كل ما خبره جملة يفيد التقوي.
وإذا عرفت أن الغرض من مجيء المسند جملة هو إفادة التقوي، فإني محدثك عن الفرق بين مجيء الجملة فعلية أو اسمية.
والفرق الذي ذكرناه هناك بين الاسم والفعل قائم هنا، فإذا كان الفعل يفيد التجدد، والحدوث فكذلك الجملة الفعلية، وإذا كان الاسم يفيد الثبوت والدوام، فكذلك الجملة الاسمية.
ويتضح ذلك في ضوء الشواهد:
انظر إلى قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} جاءت الجملة الأولى فعلية -أدعوتموهم- والجملة الثانية اسمية -أنتم صامتون- لتفيد الأولى التجدد والحدوث، والثانية الدوام والاستمرار، فيكون المعنى سواء عليكم أن تحدثوا دعاءهم، أو أن تستمروا على صمتكم، والمراد بالدعاء طلب الهداية والنجاة، والموجه إليهم الدعاء هي الأصنام المعبودة من دون الله، وكان الوثنيون الذين يعبدون هذه الأصنام من عادتهم أنهم لا يدعون هذه الأصنام إذا نزلت بهم شدة، وإنما يدعون الله، فقيل: سواء عليكم أأحدثتم الدعاء على غير عادة، أم بقيتم مستمرين على عادة صمتكم، ولو قيل: سواء عليكم أدعوتموهم أم صمتم لأفاد أن صمتهم عن دعائهم لم يكن ثابتا، وإنما هو صمت حادث، وهذا بخلاف الواقع.
ومثله قوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} وعبروا بالجملة الفعلية في قولهم: أجئتنا، لتشير إلى التجدد وكأنهم يقولون: أحدث منك مجيء بالحق ولم تكن كذلك، وعبروا بالجملة الاسمية ثانيا في قولهم: أنت من اللاعبين، ليفيدوا الاستمرار والدوام يعني، أم أنت مستمر في لعبك الذي عهدناه فيك، ولو قالوا: أم لعبت، وجاء بالفعلية لأفاد أن اللعب حادث طارئ، وأنه كان قبل ذلك جادا غير هازل، وهذا غير مراد لهم.