باب التوْكيـد
١ - تعريف التوكيد
لغة : لفظ التوكيد بالواو أبلغ من التأكيد بالهمزة، وهو كما في قوله تعالی(ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها)ولم يقل تأكيدها.
والفعل واحد أكّد يؤكد توكيدا وتأكيدا.
وفي المعنی يفيد التقوية والترسيخ .
وعند البلاغيين يفيد رفع احتمال المجاز.
واصطلاحا : تكريرٌ يراد به تثبيتُ أمرِ المكرَّر في نفس السامع نحو(جاء سعيدٌ نفسُه) ونحو (جاء سعيدٌ سعيدٌ).
والتوكيد من التوابع التي تؤكِّدُ المتبوعَ.
وهو إما لفظي: يكون بإعادة المؤكَّد بلفظه أو بمرادفه،سواء أكان اسما ظاهرا،أم ضميرا،أم فعلا،أما حرفا،أم جملة.
فالظاهر نحو(جاء سعيدٌ سعيدٌ) والضمير نحو (جاء هو،ومررت بك أنت،ورأيتك إياك)، والفعل (جاء جاء سعيدٌ) والحرف نحو (لا لا أنشر الباطلَ)، والجملة نحو (جاء سعيدٌ جاء سعيدٌ، ومحمدٌ طيبٌ محمد طيب)، وشبه الجملة نحو (إلى العمرة إلى العمرة سافر زيد)، والمرادف نحو (أتى جاء سعيدٌ).
وإما معنوي: يكون بجملة من الألفاظ المخصوصة هي:(نفس وعين وعامة وكل وجميع وأجمع وأجمعون وجمعاء وكلا وكلتا ..)
وتكون هذه الألفاظ مقترنة بضمير مطابق يعود علی المؤكَّد.
٢ - عناصر جملة التوكيد
تتكون من العامل والمؤكد والتوكيد والضمير المطابق .
لدينا (جاء زيدٌ نفسُه) وقوله تعالی(قل إن الأمرَ كلَّه لله).
العامل:جاء ،إنّ.
المؤكَّـد : زيد ،الأمرَ.
التوكيد: نفسُ،كلَّ.
الضمير المطابق : الهاء الدالة علی المفرد المذكر لأن نفس وكل مفرد مذكر.
ويشترط أن يكون عامل التوكيد هو نفسه عامل الاسم المؤكَّد نحو (جاء زيدٌ نفسُه،جاء سعيدٌ سعيدٌ).
وليس من باب التوكيد إذا اختلف العامل كما في قوله تعالى (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا) حيث تكررت(فيه)،ولهذا لا تعرب (فيه) الثانية توكيدا لفظيا لأن عاملها مختلف عن عامل(فيه)الأولى، إذ هي الاسم متعلق بفعل يقوم، والثانية متعلق بمحذوف خبر المبتدأ (رجال).
٣ - شروط التوكيد
لعل من أبرز شروطه نذكر ما يلي:
أـ أن يكون دالا علی التوكيد والتقوية ورفع احتمال المجاز نحو قولك (أكرمتُ زيدًا نفسَه) و (مررت بالناسِ عامتِهم).
لأنك إذا قلت (أكرمت زيدًا)احتمل أنك أكرمت قريبه أو أخاه وهكذا قولك(مررت بالناس) يحتمل أنك مررت برجلين أو ثلاثة لا كلهم،لكن إذا أتيت بالتوكيد رفع الاحتمال وتأكد أنك (أكرمت زيدا نفسَه).
ب ـ أن يكون عامل التوكيد هو نفسه عامل الاسم المؤكَّد كما رأيت ،وأن يكون دالا واقعا بالتوكيد كما أشرت للأمثلة أعلاه.
لأنه إن كان العامل واقعا عليه أعرب مفعولا به نحو(أزهقت نفسَه،فقأت عينَه)أو بدلا وعطف بيان نحو(أزهقتُ زيدًا نفسَه) و(فقأت عمرًا عينَه)ف نفسه وعينه بدل من كل ويجوز التوكيد.
وقد يكون متعلقا به نحو (أخبرني زيدٌ عن نفسِه )،(اعتنی زيد بنفسه)،(تمكن زيد من ضرب نفسِه)، (أوبق زيد نفسَه بنفسِه)علی أن نفسه قد يكون راجعا إلی زيد أو إلی غير زيد وهو ما يسمی بـ الانعكاس.
ومن الانعكاس نحو (حدثني زيدٌ أن عمرًا ضرب نفسَه)فالعائد في(نفسه) له ثلاثة مراجع :الأول يعود علی الفاعل(زيد) كأنك تقول(حدثني زيد أن عمرا ضرب نفسَ زيد).
والثاني يعود علی (عمرا) أي أن الضرب وقع عليه من نفسه.
والثالث يعود علی إنسان آخر غير زيد وعمرو كأنك تقول(حدثني زيد أن عمرا ضرب خالدا).
ج ـ أن يتصل بالتوكيد المعنوي ضمير متصل غائب مطابق للمؤكد.
وفي هذا الشرط تفصيل:
٭ فإن لم يتصل به ضمير أعرب حسب موقعه مبتدأ نحو(كلُّ بدعة ضلالة)ومفعولا نحو(أكرمت كلَّ الناس) وحالا(يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا)واسما مجرورا (مررت بعامةِ الناس)،ومضافا إليه(ولتجزی كل نفسٍ)..
٭ وأن يكون هذا الضمير مطابقا متعلقا بلفظة التوكيد تابعا للمؤكد نحو(مررت بالناس عامتِهم)عامتهم توكيد لأن فيه ضميرا مطابقا تابعا يعود علی المؤكد،فإن لم يكن لديه متبوع يعود عليه التوكيد والضمير أعرب حسب موقعه كالاسم المجرور (مررت بعامتِهم)ومفعولا(أكرمت عامتَهم) وفاعلا (جاء جميعُهم)ومبتدأ (وكلُّهم آتيه يوم القيامة فردا)..
٭ قلنا يجب التطابق في الضمير ؛أي إذا كان المؤكد مفردا مذكرا جاء الضمير مفردا مذكرا نحو(جاء الرجلُ نفسُه)،ولا يصح إذا جاء المؤكد مفردا والضمير مثنی(جاء الرجل نفسُهما)أو جمعا(الرجل نفسُهم)أو المؤكد مؤنثا والضمير (جاءت المرأة نفسهما) ..
وهكذا يحصل التطابق إذا كان المؤكد مفردا مؤنثا (جاءت هند نفسُها)والمثنی(جاء الرجلان نفسُهما وجاءت الهندان عينُهما)والجمع(جاء الرجال نفسُهم وجاءت الهندات نفسهُن)..
٭ وطبيعة الضمير أنه متصل غائب احترازا من المخاطب والمتكلم ولهذا لا يصح قولك(جاء الرجل نفسك) ولا (جاءت المرأة نفسي)..
كذلك لا يصح تطابق الضمير المنفصل نحو(جاء الرجل إياه) ..
إلا إذا كان المؤكد ضميرا فإنه يجوز في المخاطب نحو(قمتَ أنت نفسُك ، قمنا نحن أنفسُنا ،قمتم أنتم أعينُكم ، قمتنّ أنتن أنفسكن..)،
(أكرمتك نفسَك، أكرمتكم أنفسَكم..)،
(مررت بكم أنفسِكم، مررت بكن أنفسِكن..).
د- أن يكون التوكيد مطابقا للمؤكد في الإعراب والتعريف والتنكير والإفراد والتثنية والجمع، فإن لم يطابقه في إحدى هذه القيود لم يكن توكيدا،بل يعرب حسب موقعه كما في قوله تعالى (ومن الليل فسبحه وإدبار النجومِ والنجمِ إذا هوى) فـ (النجم) مفرد لم يطابق (النجوم) لأنه جمع.
ويعرب النجم: مقسم به متعلق بفعل محذوف.
والنجوم: مضاف إليه.
٤ - أقسام التوكيد
التوكيد المعنوي وهو الذي ذُكر بألفاظ مخصوصة مقترنة بضمير مطابق يعود علی المؤكد ك (أدركت الوقت كلَّه ، مررت بالرجل نفسِه ، جاء الطلبة عامتُهم ،رأيت الناس جميعَهم)..
واللفظي يكون بتكرار اللفظ نفسه سواء أكان اسما ك(الصلاةَ الصلاةَ،الله أكبر الله أكبر) ومنه قوله تعالی(وجاء ربك والملك صفا صفا) وقولهﷺ(أيما امرأة نكحت نفسها بغير ولي فنكاحها باطلٌ باطل باطل).
،أم فعلا نحو(سيعود سيعود المجد للمسلمين).
ومنه قوله:
فأين إلى أين النجاءُ ببغلتي
أتاكِ أتاكِ اللاحقون احبسي احبسي.
أم اسم فعل نحو(هيهات هيهات لما توعدون)أم حرفا نحو(نعم نعم نعم ..لا لا لا..)أم مرادفا نحو (قف قم) أو (اجلس اقعدْ).
وفائدة التوكيد اللفظي تقريرُ المؤكِّد في نفس السامع وتمكينه في قلبه، وإزالة ما في نفسه من الشبهة فيه.
فإنك إن قلت(جاء سعيدٌ) فإن اعتقد المخاطب أن الجائي هو لا غيره اكتفيتَ بذلك، وإن أنكر أو أظهرت عليه دلائل الإنكار كررت لفظ(سعيدٌ) دفعا لإنكاره، أو إزالة للشبهة التي عرضت له. فإن قلت(جاء سعيدٌ جاء سعيدٌ) فإنما تقول ذلك إذا أنكر السامع مجيئَه، أو لاحت عليه شبهة فيه، فتثبت ذلك في قلبه وتميط عنه الشبهة.
٥ - حكمه.
ـ التوكيد المعنوي يتبع المؤكد في الإعراب رفعا ونصبا وجرا نحو(إليه يرجع الأمرُ كلُّه) و(قل إن الأمرَ كلَّه لله)و(تؤمنون بالكتابِ كلِّه).
مثال آخر يتبعه في التثنية (جاء الزيدان نفسُهما وجاءت المرأتان عينُهما) والجمع (زرت الأقارب عامتَهم وجميعَهم ومررت بالناس عامتِهم) ،(سجد الملائكة كلهم أجمعون)،(قامت الفتيات جميعُهن)،(تفتحت الأزهار جميعُها)..
والتوكيد اللفظي يتبع مؤكده بتكرارٍ تطابقًا نحو (ادرجي ادرجي) ،(هيهات هيهات)،(الجهاد الجهاد)..
ـ ومن أحكامه أيضا التأخير كما رأينا مثل(أكرمت زيدًا نفسَه) ،(مررت بزيدٍ نفسهِ)، (جاء زيد نفسُه).
فإذا تقدم التوكيد علی المؤكد أعرِب المؤكد بدلا،وأعرب التوكيد حسب موقعه فنقول(أكرمت نفسَه زيدًا) ،(مررت بنفسِه بزيدٍ)،(جاء نفسُه زيدٌ)ف زيد في الأمثلة الثلاثة بدل،ونفسه مفعول به،واسم مجرور،وفاعل.
ـ ومنها أن الكوفيين يجوزون التوكيد من المؤكد إذا كان نكرة، والبصريون يمنعونه،لكن ابن مالك يجوّز ذلك إذا كان هناك فائدة ويكون بألفاظ الإحاطة والشمول ك(كل وجميع وعامة)، وما لم تكن فائدة فلا.
والراجح كما قال الشيخ العثيمين رحمه الله نأخذ بالأمر الأسهل،ثم إنه نأخذ برأي كلا المذهبين .
مثاله(جلست عندك شهرًا كلَّه) ولا يقال(صمت دهرًا كلَّه) لأن الأول مبهم، والثاني مؤكد بما لا يفيد الشمول.
فـالشاهد أن (شهر) مؤكَّد جاء نكرة.(كله) توكيد معرفة لأنه مضاف يفيد الإحاطة والشمول.
ـ ومن أحكامه أنه فضلة تستغني عنه البنية العاملية فلو حُذفت (عامتهم) من قولك(مررت بالناس عامتِهم) كانت الجملة صحيحة لم يضرها شيء فتصير(مررت بالناسِ).
ويكون لازما في نحو (سجد الملائكةُ كلُّهم أجمعون).
وقوله (قل إن الأمر كله لله)و(وإليه يرجع الأمر كله).
وفي آية أخری بالحذف (ألا له الخلق والأمر)
ـ ومنها أنه يجوز فصل التوكيد عن المؤكد بفاصل وهو ما تقره الآية الكريمة (ويرضيْنَ بما آتيتهنَّ كلُّهن)فـ (كلهن) فُصل عن المؤكد الذي هو ضمير نون النسوة تقديره (ويرضی النساءُ كلُّهن بما آتيتهن).
مثال آخر يكون الفاصل ظرفا (جاء المعتمرون البارحةَ جميعُهم) ، وجارا ومجرورا (سجد الملائكة لربهم كلُّهم أجمعون إلا إبليسَ).
٦ - بعض أحكام (نَفْس وعَيْن) وصرفُهما ومعانيهما.
● إن فائدة التوكيد بالنفس والعين لهيَ رفعُ احتمال أن يكون في الكلام مجاز أو سهو أو نسيان.
فإن قلت (جاء الأميرُ) فربما يتوهم السامع أن إسناد المجيء إليه هو على سبيل التجوّز أو النسيان أو السهو، فتؤكده بذكر النفس أو العين رفعا لهذا الاحتمال، فيعتقد السامع أن الجائي هو لا جيشه ولا خدمه ولا حاشيته ولا شيء من الأشياء المتعلقة به.
● ومن أحكامهما إذا أكدت ضمير الرفع(المتصل أو المستتر) بـ (نفس أو عين) وجب الإتيان بضمير منفصل يفصل بينهما .
مثاله (هند ذهبت هي عينُها) و(زينب هلكت هي نفسُها).خم
وتعرب هند:مبتدأ مرفوع. ذهبت: فعل ماض مبني علی الفتح والتاء للتأنيث ساكنة. والفاعل ضمير مستتر تقديره هي والجملة الفعلية في محل رفع خبر. هي : توكيد لفظي. عينُها: توكيد معنوي مرفوع وهو مضاف الهاء مضاف إليه.
الشاهد أن التوكيد (نفسها وعينها) فُصلتا عن المؤكد (ضمير الرفع المستتر) بضمير منفصل.
ولعل السبب هو دفع الإيهام حتی لا يقال أن (هند ذهبت عينها ، زينب هلكت نفسها) للتفريق بين العين الباصرة والتوكيدية،وبين النفس الذاتية والتوكيدية.
مثال توضيحي آخر (هلك هو نفسُه) و (فاضَ هو عينُه) أتينا بالضمير المنفصل هو. لأنه إن لم يؤت به وقع الإيهام بأنها النفس الذاتية والعين الباصرة فنقول(هلكت نفسُه ،وفاضت عينُه).
فإن لم يُؤتَ بالضمير المنفصل لم يعرب توكيدا معنويا، بل يعرب فاعلا نحو (زيد خرج نفسُـه).
ف (نفسه)فاعل.وإذا أريد بها التوكيد تقول(زيد خرج هو نفسه)
وهناك حكم آخر في المثال أعلاه وهو لا يجوز الفصل بين المؤكد والتوكيد حيث فصل بينهما الفعلُ:(زيدٌ خرج نفسه)، فإن لم يفصل بينهما جاز التوكيد نحو (خرج زيد نفسه).
كذلك يؤتی بالضمير المنفصل فاصلا بين ضمير الرفع المتصل وبين (نفس وعين) نحو(قمتَ أنت نفسُك/عينُك) ،(قمتما أنتما نفسُكما)،(قمتم أنتم عينُكم)،(قمتنّ أنتنّ نفسكنّ)،(قاما هما نفسُهما ، قاموا هم نفسُهم ، قمن هن عينُهن).
أما توكيد ضمير النصب والجر فإنه لا يحتاج إلی ضمير يفصل بينهما نحو (ضريتُك نفسَك)، (ضربته نفسَه)،(أكرمتكم عينَكم)، (مررت بك نفسِك) ،(مررت به نفسِه)،(مررت بكم عينِكم) .
هذا الضمير المنفصل لا يؤتی به إلا في التوكيدين (عين ونفس) .
● ومن أحكامهما (وغيرِهما من ألفاظ التوكيد) أنه يؤكد المُظْهَر بمثله، لا بالضمير فيقال(جاء سعيدٌ نفسُه ومررت بالقوم عامتهم،وأكرمت الناس كلهم)ولا يقال(جاء سعيدٌ هو،ولا مررت بالقوم هم،ولا أكرمت الناس هم أو إياهم).
والمُضمَر يؤكد بمثله وبالمظهر أيضا فالأول نحو(جئتَ أنتَ نفسُك،ومررت بهم هم، جاؤوا هم ) والثاني (أحسنت إليهم أنفسِهم،أكرمتهم عامتَهم،جاؤوا كلُّهم).
أما التوكيدات الأخری فإنها لا تحتاج إليه فنقول سواء كان المؤكد ضمير رفع نحو (جئتم كلُّكم ، جميعُكم ،عامتُكم ،) ،(جاؤوا كلُّهم، جميعُهم،عامتُهم).
أو ضمير نصب نحو(أكرمتهم جميعَهم ،عامتَهم،كلَّهم،).
أو ضمير جر نحو (مررت بهم جميعِهم كلِّهم عامتِهم).
● صرف (نفس وعين).
إذا كان المؤكد مفردا فإننا نأتي بالتوكيد (نفس وعين) مفردا نحو(جاء زيدٌ نفسُه ،جاءت هند عينُها).
وإذا كان مثنی جاز فيه ثلاثة أوجه؛
أولها إفراد التوكيد وتثنية الضمير نحو(جاءت الهندان نفسُهما) ،(أكرمت الزيديْن عينَهما) (مررت بالرجلين نفسِهما).
والثاني تثنية التوكيد والضمير نحو(جاءت الهندان نفساهما)،(أكرمت الزيدين عينيهما)،(مررت بالرجلين نفسيهما).
والثالث جمع التوكيد وتثنية الضمير نحو(جاءت الهندان أنفسُهما)،(أكرمت الزيدين أعينَهما)،(مررت بالرجلين أنفسِهما).
وإذا كان جمعا جاء التوكيد كذلك نقول(جاء الرجال أنفسُهم )،(رأيت النساء أعينَهنّ)،(مررت بالناس أنفسِهم).
● يجوز أن تُجر (النفس أو العين) بالباء الزائدة نحو (جاء سعيدٌ بنفسِه) والأصل (جاء سعيدٌ نفسُه) فتكون النفس مجرورة لفظا بالباء الزائدة، مرفوعة محلا لأنها توكيد للمرفوع وهو سعيدٌ.
٧ ـ صرف ومعاني وأحكام (كلّ وجميع وعامة وكلا وكلتا).
● هذه توكيدات لها معنی واحد وهو أنها تفيد الكل والإحاطة والشمول.
فإذا قلت (جاء القومُ) فربما يتوهم السامع أن بعضهم قد جاء، والبعض الآخر قد تخلّف عن المجيء. فتقول (جاء القومُ كلهم) دفعا لهذا التوهم، لذلك لا يقال (جاء سعيدٌ كلّه) لأنه لا يتجزأ فإذا قلت (اشتريت الفرسَ كلَّه) صح لأنه يتجزأ من حيث المبيع.
فـ( كل) تطلق علی الشيء الكثير نحو (جاء الناس كلهم)فـ الناس جمع غفير ،ومنه قوله تعالی(وإليه يرجع الأمر كلُّه)فأمر الله عظيم وكثير.
وتطلق أيضا علی الشيء الذي يتجزأ نحو (هدمت الدار كلُّها) لأن الدار شيء قابل للتجزؤ.
مثال آخر (تقطع الخبز كله إلی قطع)فالخبز قابل لكي يصير أجزاء ،أما إذا قلنا(جاء الرجل كله)فإنه لا يصح لأن الرجل شيء لا يتجزأ كذلك لا يصح لو قلت(مررت بالطفل كلِّه).
وأما (جميع) فإنها مثل (كل) في الشمول نحو(مررت بالناس جميعِهم ، جاءت الفتيات جميعهن)فهي تدل علی الشيء الكثير.
كذلك تدل علی الشيء الذي يتجزأ نحو(انهار السقف جميعُه،تشتت الدقيق جميعه)ولا يقال(انهار الرجل جميعه)..
كذلك (عامة) تفيد الشمول، وتفيد الشيء الذي يتجزأ نحو(تفرق الناس عامتُهم، تجمهرت النساء عامتهن) ولا يقال(تجمهر الرجل عامتُه).
وأما كلا وكلتا فإنهما توكيدان يفيدان إثبات الحكم للإثنين.
فإن قلت(جاء الرجلان ) وأنكر السامع أن الحكم ثابت للإثنين معا أو توهم ذلك، فتقول(جاء الرجلان كلاهما) دفعا لإنكاره، أو دفعا لتوهمه أن الجائي أحدهما لا كلاهما. لذلك يمتنع أن يقال (اختصم الرجلان كلاهما وتعاهد سليم وخالد كلاهما) بل يجب أن تحذف كلمة(كلاهما) لأن فعل المخاصمة والمعاهدة لا يقع إلا من اثنين فأكثر، فلا حاجة إلى توكيد ذلك، لأن السامع لا يعتقد ولا يتوهم أنه حاصل من أحدهما دون الآخر.
يعربان إعراب المثنى بالألف رفعا وبالياء نصبا وجرا نحو(جاء الرجلان كلاهما)،(جاءت الهندان كلتاهما)، (رأيت الرجلين والبنتين كليهما وكلتيهما) (مررت بالرجلين كليهما والبنتين كلتيهما).
هذا وقد ذكر ابن مالك رحمه الله أن (كلا وكلتا) أرجح من (أجمع وجمعاء) في الاستعمال.
فتقول (جاء الرجلان كلاهما )أرجح من أن تقول(جاء الرجلان أجمعُهما / أجمعُهم).
(جاءت المرأتان كلتاهما)أرجح وأصح من (جمعاواهما).
و(مررت بالمرأتين كلتيهما)أرجح وأصح من قولك(مررت بالمرأتين جمعاويهما).
كما أن تثنية(سِيٍّ) أرجح وأصح وأغنى عن تثنية (سواء) فقالوا (زيدٌ وعمرو سِيّٕانِ في الفضيلة) ولم يقولوا (سواءان).
● ومن أحكام (كل) أنه يأتي بعدها التوكيدات: أجمع وجُمَع وجمعاء وأجمعون.
أمثلة أجمع(مررت بالقوم كلِّهم أجمعُ).
أجمعون(سجد الملائكة كلُّهم أجمعون).
جُمَع (جاءت النساءُ كلُّهنّ جُمَعُ).
جمعاء (جاءت القبيلة كلُّها جمعاءُ)
وقد تأتي لوحدها دون كل نحو(جاءت القبيلة جمعاء، جاء الناس أجمع..)
وتعرب أجمع وجمع وأجمعون...توكيد معنوي .
ـ كذلك بعد (أجمعون) يأتي التوكيد بـ أكتع وأبتع وأبصع وذلك للتأكيد والمبالغة فيه.
أبتع تعني طول العنق، وأكتع الجلد المتجمع، وأبصع العرق المجمع.
مثاله (جاء القوم أجمعون أكتعون أبصعون أبتعون)،(جاء القوم أكتعون..).
وتعرب أبتعون..توكيد معنوي.
٨ ـ التوكيد اللفظي.
قد ذكرنا في البداية أن التوكيد اللفظي يجيء اسما ظاهرا وفعلا وحرفا وجملة،كما يجيء ضميرا ومرادفا مع الشواهد.
ومن أحكامه أنه:
ـ يؤكد الضمير مع اللفظ الذي به وُصل .
مثاله(أكرمتك أكرمتُك)فالكاف ضمير متصل توكيد لفظي قد أكد معه اللفظ الذي وُصل هو (أكرمت).
ولا يصح أن يؤكد بالضمير لوحده دون اللفظ نحو (أكرمتكَكَ)..
كذلك يؤكد ضمير الجر فيوصل به لفظه نحو (مررت بك مررت بك)ولا يصح (مررت بك بك).
إذا كان المؤكد ضمير رفع متصل فإن التوكيد يكون ضميرا منفصلا (قمتَ أنت، قاموا هم ،قمتما أنتما، قمن هنّ، قمتن أنتن قمتم أنتم..) ومنه قوله تعالی(وكنتَ أنتَ الرقيب عليهم).
كذلك يجيء التوكيد من الضمير المستتر نحو(اخرج أنت ، اخرجوا أنتم، اخرجا أنتما) ومنه قوله تعالى(اسكن أنت وزوجك الجنة).
وإذا كان المؤكد ضمير نصب متصلا فإن التوكيد يصح مجيئه ضمير رفع منفصلا نحو(أكرمتكَ أنت، أكرمتكم أنتم)،ويجيء ضمير نصب منفصلا نحو(أكرمتك إياك، أكرمتكم إياكم).
أما ضمير الجر فيصح مجيء التوكيد ضمير رفع منفصلا نحو (مررت بك أنت، مررت بكم أنتم..) ، لكن لا يصح مجيء التوكيد ضمير نصب منفصلا نحو (مررت بك إياك)لأن إياك خاصة بالنصب.
ـ كذلك يؤكد بالحروف التي ليست للجواب مع اللفظ الموصل به نحو(خرجت من عند من عند زيد ) ولا يصح (خرجت من من عند زيد).
أما إذا كان الحرف لوحده خاليا من الكلمات قبله (كحرف الجواب) فإنه يأتي منه التوكيد فتقول جوابا عن سؤال هل صليت العشاء فتقول(نعم نعم نعم) ،أو (لا لا لا) وهكذا نحو (جيْرِ جير)، و(بلى بلى)،و(أجلْ أجل).
ـ وتؤكد أسماء الأفعال نحو(هيهات هيهات لما توعدون)هيهات الثانية توكيد لفظي.
ويعرب(أنت أنتم إياك..) توكيد لفظي لا محل له من الإعراب.
-إذا كان التوكيد اللفظي جملةً فإنه يكثر اقترانها بالعاطف(ثم) كقوله تعالى (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) وحرف العطف (الفاء) كقوله تعالى (أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى).
وقد يكون التوكيد بلا عاطف كقوله ﷺ (والله لأغزوَنّ قريشًا والله لأغزوَنّ قريشًا والله لأغزوَنّ قريشًا).
ويجب ترك العاطف لكي لا يحصل الإيهام نحو (ضربت زيدا ضربت زيدا).
٩- حروف يراد بها التوكيد لا محل لها من الإعراب.
وهي عند النحاة حروف زائدة تؤدي معنى التوكيد والتقوية:
أ- منها حرف (لا) التي تسبق القسم في قوله تعالى (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة).
ب- و (ما) الزائدة ومن مواضعها دخولها على الجار لكنها لا تكفه عن العمل كما في قوله تعالى (فبما نقضِهم ميثاقهم ) وقوله تعالى (مما خطيئاتِهم)، وقد تكفه عن العمل وتسمى كافة نحو(إنما المؤمنون إخوة) ومجيئها بعد إذا الشرطية كقوله تعالى (وإذا ما غضبوا هم يغفرون)، وبعد (رُبَّ) الزائدة في قوله تعالى (ربَما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين).
ج- الحروف الجارة لفظا ك (مِن والكاف والباء واللام) فالأول في قوله تعالى (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوتٍ)، والثاني في قوله تعالى (ليس كمثلِه شيء وهو السميع البصير)، والثالث نحو قوله تعالى(أليس الله بعزيزٍ ذي انتقام)، والرابع قوله تعالى ( وما أنا بظلام للعبيد).
١٠ - الفرق بين التوكيد والنعت.
ـ يتفقان في أنهما تابعان ؛النعت تابع لمنعوته،والتوكيد تابع لمؤكده في الإعراب والإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث والتنكير والتعريف.
ـ يتفق النعت مع التوكيد اللفظي في أنهما يأتيان مفردا (أي جامدا ومشتقا) وجملة وشبه جملة(أي ظرفا وجارا ومجرورا) ،لكن اللفظي يزيد عليه أنه يأتي حرفا ويعرب توكيدا لفظيا لا محل له من الإعراب نحو(نعم نعم نعم، من تحت من تحت الطاولة)، ويأتي ضميرا (قمت أنت، اسكت أنت، أكرمك أنت إياك، مر بك أنت)..
ويختلف مع التوكيد المعنوي في ألا يستعمل جملة ولا شبه جملة ،وله ألفاظ مخصوصة جامدة غير مشتقة وهي: (نفس عين..)مقرونة بضمير مطابق يعود علی المؤكد، وقد يقترن النعت السببي بالضمير نحو(مررت برجل جالسةٍ أمُّه ).
ـ أن النعت إذا تقدم علی منعوته صار حالا أو بدلا. الأول نحو (رأيت ظريفًا رجلاً)ظريفا: وصف مف به. رجلا: موصوف حال جامدة أي راجلا.والثاني(جاءني الظريفُ زيدٌ).
والتوكيد إذا تقدم علی مؤكده أخذ موقعه من الإعراب،والمؤكد بدلا نحو (أكرمت نفسَه زيدًا). نفسه: مف به، زيدًا: مؤكد بدل.
-النعتُ يكون في الظاهرِ دون الضميرِ، والتوكيدُ فيهما جميعاً.
-النعتُ يكون في المعرفةِ والنكرةِ، والتوكيدُ في المعرفةِ لا غير، وقد يكون في النكرة إذا أفاد كما مر.
-أن الصفةَ قد تباشرُ العاملَ في الموصوفِ، فيحذفُ الموصوف إذا كانت الصفةُ مفردةً متمكنةً غير ملبسة، نحو: (مررتُ بعاقلٍ)، والتوكيدُ ليس جميعه يجوز أن يباشرَ العاملَ في المؤكَّد، نحو: (أجمع، وأجمعين، وجَمعَاء، وجُمَّع)، فهذه الألفاظ تختص بأنها لا يجوز أن تلي العاملَ، لأنها لم تستعمل إلّا توكيداً.
-أن النعتَ يجوز فيه العطفُ بالواو، نحو: (مررتُ بسعيدٍ المكَرِّمِ والمُطَعِّمِ للضيفِ)، ولا يجوز هذا في التوكيد فلا يقال(أكرمت زيدًا نفسَه وعينَه).
-أن النعت حكمُه أن يكون بالمشتق أو ما يكون في تأويل المشتق، والتوكيد ليس كذلك إلا اللفظي منه فإنه يكون بالمشتق وبالجامد نحو (فخور فخور بإسلامي،جاء زيد زيدٌ).
-أن إعراب النعتِ قد يخالفُ إعرابَ المنعوتِ في قولك: (عجبتُ من قيامِ زيادٍ الظريفُ) أو(الظريفَ) فينعتُ (زياد) على الموضعِ لأن المنعوتَ مضافٌ إليه المصدرُ، وليس التوكيد كذلك إلّا أن يكون في النداء، نحو: (يا أيّهم أجمعون، وأجمعين).
-أن النعتَ مع المنعوتِ كالشيءِ الواحدِ، نحو (الحسينُ بنُ عليٍّ رضي الله عنهما)، وليس كذلك التوكيد، وأجاز سيبويه: (مررت بمحمّدٍ وأحمدَ )، إذا جعلته بدلاً أو توكيداً.
-أن النعتَ يجوز فيه القطعُ، والتوكيدُ لا يكون فيه شيء من ذلك.
إلی هنا ينتهي باب التوكيد
الثلاثاء ٢٥ ذو الحجة ١٤٤٥
عبد العزيـز أبو زيـد