الإطناب وأقسامه
الإطناب: زيادة اللفظ على المعنى لفائدة، أو هو تأدية المعنى بعبارة زائدة عن متعارف أوساط البلغاء لفائدة تقويته وتوكيده، نحو: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا؛ أي: كبرتُ.
واعلم أن دواعي الإطناب كثيرة: منها تثبيت المعنى، وتوضيح المراد والتوكيد، ودفع الإيهام، وإثارة الحمية؛ وغير ذلك.
من أنواع الإطناب ذكر الخاص بعد العام
(١)منها: ذكر الخاص بعد العام، كقوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وفائدته التنبيه على مزية وفضل في الخاص، حتى كأنه لفضله ورفعته جزء آخر مغاير لما قبله؛ ولهذا خص الصلاة الوسطى «وهي العصر» بالذكر لزيادة فضلها.
من أنواع الإطناب ذكر العام بعد الخاص
(٢)ومنها: ذكر العام بعد الخاص، كقوله تعالى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.
وفائدته شمول بقية الأفراد، والاهتمام بالخاص لذكره ثانيًا في عنوان عام، بعد ذكره أولًا في عنوان خاص.
من أنواع الإطناب الإيضاح بعد الإيهام
(٣)ومنها: الإيضاح بعد الإيهام؛ لتقرير المعنى في ذهن السامع بذكره مرتين، مرة على سبيل الإيهام والإجمال، ومرة على سبيل التفصيل والإيضاح، فيزيده ذلك نبلًا وشرفًا، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وكقوله تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ.
فقوله: أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ تفسير وتوضيح ﻟ «ذلك الأمر» المبهم، وفائدته توجيه الذهن إلى معرفته، وتفخيم شأن المبين، وتمكينه في النفس، فأبهمَ في كلمة «الأمر» ثم وضحه بعد ذلك؛ تهويلًا لأمر العذاب.
من أنواع الإطناب التوشيع
(٤)ومنها: التوشيع، وهو أن يؤتى في آخر الكلام بمثنًّى مفسر بمفردين؛ ليرى المعنى في صورتين، تخرج فيهما من الخفاء المستوحش إلى الظهور المأنوس، نحو: «العلم علمان: علم الأبدان، وعلم الأديان».
من أنواع الإطناب التكرير
(٥)ومنها: التكرير، وهو ذكر الشيء مرتين أو أكثر لأغراض:
الأول: التأكيد وتقرير المعنى في النفس، كقوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ،١٢ وكقوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.
الثاني: طول الفصل؛ لئلا يجيء مبتورًا ليس له طلاوة، كقوله تعالى: يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ فكرر «رأيت» لطول الفصل. ومن هذا قول الشاعر:
وإن امرأ دامت مواثيق عهده على مثل هذا إنه لكريم١٣
الثالث: قصد الاستيعاب، نحو: قرأت الكتاب بابًا بابًا، وفهمته كلمة كلمة.
من أنواع الإطناب زيادة الترغيب في العفو
الرابع: زيادة الترغيب في العفو، كقوله تعالى: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
من أنواع الإطناب الترغيب في قبول النصح باستمالة المخاطب لقبول الخطاب
الخامس: الترغيب في قبول النصح باستمالة المخاطب لقبول الخطاب، كقوله: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ.
تكرير «يا قوم» تعطيف لقلوبهم؛ حتى لا يشكُّوا في إخلاصه لهم في نصحه.
من أنواع الإطناب التنويه بشأن المخاطب
السادس: التنويه بشأن المخاطب، نحو: إن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إبراهيم.
من أنواع الإطناب الترديد
السابع: الترديد، وهو تكرار اللفظ متعلقًا بغير ما تعلق به أولًا، نحو:
السخيُّ قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة.
البخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة.
من أنواع الإطناب التلذذ بذكره
الثامن: التلذذ بذكره، نحو قول مروان بن أبي حفصة:
سقى الله نجدًا والسلام على نجد ويا حبذا نجد على القرب والبعد.
من أنواع الإطناب الإرشاد إلى الطريقة المثلى
التاسع: الإرشاد إلى الطريقة المثلى، كقوله تعالى: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى.
(٦)ومنها: الاعتراض لغرض يقصده المتكلم، وهو أن يؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين في المعنى — بجملة معترضة أو أكثر لا محل لها من الإعراب.١٤
وذلك لأغراض يرمي إليها البليغ غير دفع الإيهام:
(أ)كالدعاء، نحو: إني «حفظك الله» مريض.
وكقول عوف بن محلم الشيباني:
إن الثمانين وبُلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان١٥
(ب)والتنبيه على فضيلة العلم، كقول الآخر:
واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قُدِّرا
(جـ)والتنزيه، كقوله: وَيَجْعَلُونَ لِلهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ.
(د)وزيادة التأكيد، كقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ.
(هـ)والاستعطاف، كقول الشاعر:
وخفوق قلب لو رأيت لهيبه يا جنتي لرأيت فيه جهنما
(و) والتهويل، نحو: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ.
(٧)ومنها: الإيغال، وهو ختم الكلام بما يفيد نكتة، يتم المعنى بدونها، كالمبالغة في قول الخنساء:
وإن صخرًا لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
فقولها: «كأنه علم» وافٍ بالمقصود، لكنها أعقبته بقولها «في رأسه نار» لزيادة المبالغة، ونحو: قوله تعالى: وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
من أنواع الإطناب التذييل
(٨)ومنها: التذييل، وهو تعقيب جملة بجملة أخرى مستقلة، تشتمل على معناها؛ تأكيدًا لمنطوق الأولى، أو لمفهومها،١٦ نحو قوله تعالى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا.
ونحو قوله تعالى: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ.
والتذييل «قسمان»: قسم يستقل بمعناه؛ لجريانه مجرى المثل، وقسم لا يستقل بمعناه؛ لعدم جريانه مجرى المثل.
فالأول: الجاري مجرى الأمثال؛ لاستقلال معناه، واستغنائه عما قبله، كقول طَرَفة:
كل خليل قد كنت خاللته لا ترك الله له واضحَهْ
كلكم أروغ من ثعلب ما أشبه الليلة بالبارحَةْ
والثاني: غير الجاري مجرى الأمثال؛ لعدم استغنائه عما قبله، ولعدم استقلاله بإفادة المعنى، كقول النابغة:
لم يُبْقِ جودُك لي شيئًا أؤمِّله تركتني أصحب الدنيا بلا أمل
فالشطر الثاني مؤكد للأول، وليس مستقلًّا عنه، فلم يجرِ مجرى المثل.
من أنواع الإطناب الاحتراس
(٩)ومنها: الاحتراس، ويقال له: التكميل، وهو أن يُؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفع ذلك الوهم.
فالاحتراس يوجد حيثما يأتي المتكلم بمعنًى يمكن أن يدخل عليه فيه لوم، فيفطن لذلك، ويأتي بما يخلصه، سواء أوقع الاحتراس في وسط الكلام، كقول طرفة بن العبد:
فسقى ديارَك غير مفسدها صوبُ الربيع وديمةٌ تهمي١٧
فقوله: «غير مفسدها» للاحتراس.
أو وقع الاحتراس في آخره، نحو: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ؛ أي: مع حب الطعام، واشتهائهم له، وذلك أبلغ في الكرم، فلفظ «علي حُبِّه» فضلة للاحتراس ولزيادة التحسين في المعنى.
وكقول أعرابية لرجل: «أذل الله كل عدو لك إلا نفسك.»
من أنواع الإطناب التتميم
(١٠)ومنها: التتميم، وهو زيادة فضلة، كمفعول أو حال أو تمييز أو جار ومجرور، توجد في المعنى حُسنًا بحيث لو حذفت صار الكلام مبتذلًا، كقول ابن المعتز يصف فرسًا:
صببنا عليها «ظالمين» سياطنا فطارت بها أيدٍ سراعٌ وأرجلُ
إذ لو حذف «ظالمين» لكان الكلام مبتذلًا، لا رقة فيه ولا طلاوة، وتوهم أنها بليدة تستحق الضرب.
ويستحسن الإطناب في الصلح بين العشائر، والمدح، والثناء، والذم، والهجاء، والوعظ، والإرشاد، والخطابة في أمر من الأمور العامة، والتهنئة، ومنشورات الحكومة إلى الأمة، وكتب الولاة إلى الملوك لإخبارهم بما يحدث لديهم من مهام الأمور.
وهناك أنواع أخرى من الإطناب، كما تقول في الشيء المستبعد: «رأيته بعيني وسمعته بأذني وذقته بفمي» تقول ذلك لتأكيد المعنى وتقريره.
وكقوله تعالى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ السقف لا يخر طبعًا إلا من فوق، ولكنه دل بقولهم: «من فوقهم» على الإحاطة والشمول.
واعلم أن الإطناب أرجح عند بعضهم من الإيجاز، وحجته في ذلك أن المنطق إنما هو البيان، والبيان لا يكون إلا بالإشباع، والإشباع لا يقع إلا بالإقناع، وأفضل الكلام أبينه، وأبينه أشده إحاطة بالمعاني، ولا يُحاط بالمعاني إحاطة تامة إلا بالاستقصاء والإطناب.
والمختار أن الحاجة إلى كل من الإطناب والإيجاز ماسة، وكل موضع لا يسد أحدهما مكان الآخر فيه، وللذوق السليم القول الفصل في موطن كل منهما.