المفعول له/
المفعول لأجله/
المفعول من أجله/
ثلاثة أسماء و المسمى واحد.
شرح ألفية ابن مالك للحازمي
عناصر الدرس
* شرح الترجمة (المفعول له) و حده و حكمه
* حالات المفعول له من حيث التجرد و عدمه.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
قال الناظم -رحمه الله تعالى-: المَفْعُول لهُ.
وهذا هو الباب الثاني من باب المنصوبات، حيث قدم المفعول المطلق، قلنا: كما سبق أنه أولى المفاعيل بالتقديم، وهنا قدم المفعول له على المفعول فيه، ورتبها كما ذكرناه سابقاً، المفعول به ذكره قيل استطراداً في باب تعدي الفعل ولزومه، ثم عنون للمفعول المطلق، ثم المفعول له، ثم المفعول فيه، ثم المفعول معه، هنا قدم المفعول له على المفعول فيه، هل هو مقصود؟ الظاهر أنه مقصود لأنه أدخلُ منه في المفعولية، يعني: المفعول له من حيث المفعولية وعدمها هو أقرب، بل هو مفعول الفاعل حقيقة؛ لأنه إذا قيل: ضربت زيداً تأديباً، تأديباً هذا فعل من؟ فعل الفاعل وأقرب إليه، وأما المفعول فيه: صمت يوم الخميس، يوم الخميس هذا ليس فعل الفاعل، بل هو ظرف، كذلك: جلست أمامك، أمامك هذا ظرف حينئذٍ هو منفك عن فعل الفاعل، هو ظرف لفعل الفاعل، الحدث الذي وقع فيه، وأما المفعول له لا، مثل: جُدْ شُكْرَاً، الشكر فعل الفاعل نفسه، إذاً هو أدخل إلى المفعولية من المفعول فيه.
لأنه أدخل منه في المفعولية لكونه مفعول الفاعل حقيقة، وأقرب إلى المفعول المطلق بكونه مصدراً، بل قال الزجاج والكوفيون: أنه مفعول مطلق كما سبق؛ يعني المفعول لأجله -المفعول له- هذا مفعول مطلق عند الكوفيين، إذاً ليس بأصل، وإنما هو تابع للمفعول المطلق، حينئذٍ أقرب ما يكون باباً بعد المفعول المطلق، هو المفعول فيه للعلتين المذكورتين.
المَفْعُولُ لَهُ، ويقال: المفعول من أجله، والمفعول لأجله، ثلاثة أسماء، والمسمى واحد.
المَفْعُولُ لَهُ: لَهُ الضمير هذا يعود إلى (أل)، ألـ مفعول له، الضمير يعود على (أل)، إن جعلنا (أل) موصولة، إذا قلنا: (أل) موصولة فالضمير يعود إليها، وإذا قلنا: (أل) ليست موصولة كما هو قول بعضهم، حينئذٍ الضمير لا بد له من مرجع، أين مرجعه؟ موصوف محذوف: الشيء الذي فُعِل له، أو الشيء المفعول، لا نقدر الذي؛ لأنهم لا يرون أنها موصولة، الشيء المفعول له، الضمير عاد على الشيء موصوف محذوف، والصواب الأول أن الضمير يعود إلى (أل) وهي موصولة؛ لأن المفعول هذا مفعول وهو صفة، وَصِفَةٌ صَرِيحَةٌ صِلَةُ (ألْ) حينئذٍ نقول: المفعول يعني الذي فُعل له الفعل، وهذا متى؟ هذا قبل جعله علَماً، قبل جعله علماً نبحث في الضمير، وأما بعد جعله علماً حينئذٍ صار الضمير (الهاء) هنا (كالدال) من زيد؛ لأننا أخذنا المفعول له مركب هذا، (له) نقول: المفعول له، (له) هنا هذا نائب فاعل، حينئذٍ نقول: الضمير قبل جعله علَماً هو اسم مستقل، و (اللام) حرف جر، والمفعول هذه كلمتان، ثم نُقل اللفظ نفسه فصار علماً، مثل: تَأَبَّطَ شَرّاً، تَأَبَّطَ شَرّاً نقول: فعل وفاعل ومفعول به، متى؟ قبل جعله علماً، أما بعد جعله علماً فهو لفظ مفرد، لو سمي رجل بـ قام زيد أو زيد قائم، وشاب قرناها، حينئذٍ نقول: هذه قبل جعلها علماً نبحث فيها من حيث الفاعل وعدمه، من حيث مرجع الضمير وعدمه، وأما بعد جعلها علماً، حينئذٍ تمحضت بالعلمية، وسلخ منها معنى الفاعل والمفعول ومرجع الضمير، وكونه كلمتين أو أكثر، كل هذا بعد العلمية ينسلخ منه هذا التركيب.
إذاً: المَفْعُولُ لَهُ نقول: الضمير هنا بعد جعله علماً لا مرجع له؛ لأنه صار كالدال من زيد.
المفعول له ولأجله ومن أجله: حقيقته -من باب التعريف قبل الولوج في الأبيات- نقول: هو المصدر المعلِّل لحدث شاركه وقتاً وفاعلاً، هذه أشبه ما تكون بأركان أو شروط، بمعنى أنه يتحقق بها وجود المفعول له، إن وجدت مجتمعة قلنا: هو مفعول له، وإن فقد بعضها حينئذٍ لا يصح وصفه، بكونه مفعولاً له، وفيه خلاف: هل إذا جر ما زال كونه مفعولاً له أو لا؟ سيأتينا.
إذاً المصدر .. المفعول له هو المصدر، إذاً لا بد أن يكون مصدراً، والمصدر سبق معنا أنه اسم الحدث الجاري على الفعل، فحينئذٍ ما لم يكن مصدراً لا يكون مفعولاً له، فالعلاقة بين المفعول له والمصدر: العموم والخصوص المطلق، فكل مفعول له مصدر من غير عكس، يعني: لا يلزم أن يكون كل مصدر مفعولاً له؛ لأنه يأتي مبتدأ ويأتي خبر .. إلى آخر ما ذكرناه سابقاً، فحينئذٍ إذا كان مفعولاً له لزم أن يكون مصدراً.
المُعَلِّل يعني: الذي يفيد علة الفعل، مفهومه أن ليس كل مصدر يكون معلِّلاً، إذاً المصدر هذا عام، وإذا كان عاماً نحتاج إلى فصل لإخراج بعض أفراده، وهو كون المصدر على نوعين: مصدر معلِّل، يعني: يذكر لبيان علة فعل الشيء: جئتُ إكراماً لك، إكراماً هذا مصدر بيَّن علة المجيء، فنقول: هذا مصدر معلِّل، وإذا لم يكن كذلك حينئذٍ لا يصلح أن يكون مفعولاً له.
المصدر المعلِّل لحدث، الذي هو العامل فيه سواء كان فعلاً أو مصدراً أو وصفاً، شاركه وقتاً وفاعلاً بمعنى أن ذلك المصدر المعلل، شارك الفاعل في الوقت لم يتأخر عنه، بل في وقتٍ واحدٍ، وكذلك الفاعل للحدث هو الفاعل للمصدر المعلل، فاجتمعا في الزمن واجتمعا في الفاعل، وهذا سيأتي في محترازته كلها.
مثاله قوله تعالى: ((يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ)) [البقرة:19] حَذَرَ هذا مصدر معلِّل ذُكر لبيان علة جعل أصابعهم في أذانهم، لم جعلوا أصابعهم في أذانهم؟ حَذَرَ الْمَوْتِ، ولذلك ضابط المعلِّل: أن يقع في جواب (لِمَ)، ضبطه الحريري في الملحة:
وَغَالِبُ الأَحوَالِ أَن تَرَاهُ ... جَوَابَ لِمْ فَعلْتَ مَا تَهوَاهُ
فضابط المصدر المعلل: أنه يصح أن يقع في جواب (لِمَ)، لِمَ يجعلون أصابعهم في آذانهم؟ حذر الموت، جئتُ إكراماً لك، لِمَ جئت؟ إكراماً لك، ضربتُ ابني تأديباً، لِمَ ضربت ابنك؟ تأديباً، إذا وقع في جواب (لِمَ). وَغَالبُ الأَحَوالِ -ليس غالب .. ، لا مفهوم له، بمعنى أنه في غير الغالب يأتي بغير جواب (لِمَ)، وإنما ذكره هكذا، لا مفهوم له-، وَغَالبُ الأَحوَالِ أَن تَرَاهُ -بل في كل الأحوال-، جوَابَ لِمْ فعلْتَ مَا تَهوَاهُ، بإسكان الميم للوزن.
إذاً: ((يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ}}، نقول: (((((هذا منصوب على المفعولية، فهو مفعول له -من أجله-، فـ (((((مصدر منصوب ذكر علةً لجعل الأصابع في الأذان، وزمنه -وزمن الجعل واحد-، الزمن واحد، وفاعلهما أيضاً واحد وهم الكافرون، الذين حذروا الموت هم الكافرون، ويجعلون (الواو) هذه؟؟؟ الكافرون، فالفاعل واحد والوقت واحد، يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ هل يعني أصابعهم كلها -كل الأصبع يدخل في الأذن أم بعضه؟ هذا من باب إطلاق الكل مراداً به الجزء، عند من يرى المجاز يقول: مجاز مرسل علاقته الكلية والجزئية، يعني: أطلق الكل مراداً به الجزء.
قال الناظم -رحمه الله تعالى-:
يُنْصَبُ مَفْعُولاً لَهُ الْمَصْدَرُ إِنْ ... أَبَانَ تَعْلِيلاً كَجُدْ شُكْرَاً وَدِنْ
وَهْوَ بِمَا يَعْمَلُ فِيهِ مُتَّحِدْ ... وَقْتَاً وَفَاعِلاً وَإنْ شَرْطٌ فُقِدْ
فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ .. فَاجْرُرْهُ بِالَّلاَمِ –نسختان-.
فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعْ ... مَعَ الشُّرُوطِ كَلِزُهْدٍ ذَا قَنِعْ
يُنْصَبُ هذا بيان لحكم المفعول له، وأن حكمه النصب، هل ينصب جوازاً مع بقية الشروط .. مع استيفاء الشروط أم أن الشروط لبيان جواز النصب؟ إن توفرت الشروط وجدت حينئذٍ لك اختياراً إن شئت أن تنصبه، وإن شئت أن تجره باللام، نقول: يُنْصَبُ المراد به جوازاً، وأن المفعول له ليس من المنصوبات واجبة النصب، بخلاف المفعول به لا يجوز إلا نصبه إلا إذا دخلت عليه (مِن) حرف جر زائد، وكذلك الحال لا يجوز نصبه إلا على قولٍ: جئت بمبكرٍ، مثل (مِن)، والتمييز في الجملة، فالأصل فيها أن النصب فيها واجب، المفعول به واضح، وكذلك الحال والتمييز بعضه قد يكون مجروراً، وبعضه يكون منصوباً، بعضه واجب النصب، وبعضه جائز النصب.
الحاصل أن قوله: يُنْصَبُ المراد به جوازاً لا وجوباً، ف حينئذٍ الباب كله من أوله إلى آخره البحث فيه في جواز النصب، فإذا استوفى المفعول له شروطه على الوجه المرضي عندهم -خمسة شروط- حينئذٍ نحكم عليه بأنه يجوز نصبه ويجوز جره باللام.
ناصب المفعول له
يُنْصَبُ المصدر، يُنْصَبُ هذا فعل مضارع مغير الصيغة، ومَفْعُولاً لَه هذا حال من المصدر، ينصب المصدر حال كونه مفعولاً له، اَلْمَصْدَرُ هذا نائب الفاعل، مَفْعُولاً لَه تقدمت الحال على صاحبها، وهذا جائز، ينصب المصدر حال كونه مفعولاً له، وما الناصب له؟ أطلق الناظم هنا، لم يعين الناصب للمفعول له، فنقول: العامل فيه الفعل قبله؛ إن كان فعل، إن وجد فعل، الفعل قبله على تقدير حرف العلة عند الجمهور من البصريين، الفعل قبله -قبل المفعول له- على تقدير حرف العلة عند جمهور البصريين، فعليه في حقيقته هو من المفعول به بعد نزع الخافض، وكأنه مفعول به، لكن نزع حرف الجر، ضربت ابني تأديباً يعني: لتأديبٍ، هذا الأصل، حذف حرف العلة، ثم انتصب، وسبق أن المجرور إذا حذف حرف الجر حينئذٍ ينتصب ما بعده:
وَعَدِّ لاَزِمَاً بِحَرْفِ جَرِّ
نَقْلاً ........ ... وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لْلِمُنْجَرِّ
ومنه هذا الباب باب المفعول له، وهو أنه في الأصل مجرور بحرف علة، حرف الجر وهو حرف تعليل، فلما حذف حرف العلة حينئذٍ انتصب، فحقيقته هو من المفعول به.
وقال الزجاج: ناصبه فعل مقدر من لفظه، والتقدير جئتك، لو قال: جئتك إكراماً، جئتك أكرمك إكراماً، صار من باب المفعول المطلق، ولذلك الزجاج والكوفيين يرون أنه من المفعول المطلق، لماذا؟ لأن العامل فيه ليس هو الفعل المذكور، وإنما هو فعل مقدر من لفظ المصدر المذكور، وإذا كان كذلك صار مثل جلست قعوداً، جلست وقعدت قعوداً، قعدت جلوساً، قعدت وجلست جلوساً، جئت إكراماً لك، جئت أكرمك إكراماً، فحينئذٍ نقدر له فعلاً من لفظ المصدر المذكور، وعليه فهو مفعول مطلق.
وقال الكوفيون: ناصبه الفعل المتقدم عليه؛ لأنه ملاقٍ له في المعنى، مثل قعدت جلوساً، وعليه أيضاً فهو مفعول مطلق عند من أعرب جلوساً في قعدت جلوساً مفعولاً مطلق، على مذهب الكوفيين، هو ما قبله، المصدر الذي قبله؛ لكونه ملاقٍ له في المعنى، الفعل الذي قبله لكونه ملاقٍ له في المعنى، وإذا لاقاه في المعنى حينئذٍ صار من باب قعدت جلوساً، فقعدت جلوساً هذا مفعول مطلق كما سبق، خلافاً لابن مالك الذي قال: وَافْرَحِ الْجَذَلْ يكون من باب النيابة، حينئذٍ يكون كذلك من باب المفعول المطلق، وهذا توجه تأويلهم للباب كله وجعله للباب السابق.
يُنْصَبُ مَفْعُولاً لَه الْمصْدَرُ.
إذاً عرفنا حكمه وعرفنا حقيقته، بيَّن الشروط التي هي داخلة في حقيقة المفعول ل، هـ بحيث إن وجدت حينئذٍ جاز لك أن تنصبه، وإن انتفت أو انتفى واحد منها حينئذٍ امتنع نصبه، فَفَقْدُ الشرط له أثر في المنع، ووجود الشروط مستوفية حينئذٍ ليس له أثر في إيجاب النصب، وإنما له أثر في تجويزه، فهي شروط مجوِّزة لا موجبة بخلاف النفي، فإذا انتفت الشروط كلها أو بعضها، حينئذٍ نقول: سقط النصب، لا يجوز النصب، يمتنع، وأما إذا وجدت حينئذٍ الوجود ليس له تأثير من حيث إيجاب النصب.
(إِنْ) هذا شرط، أَبَانَ تَعْلِيلاً هذا شرطٌ الأول.
ثم قال: وَهْو بِمَا يَعْمَلُ فِيهِ مُتَّحِدْ شرطٌ ثاني، وَقْتاً وَفَاعِلاً ذكر شرطين.
أَبَانَ تَعْلِيلاً هذا الثالث، بقي واحد وهو المصدر، الأول أشار إليه بقوله: الْمصْدَرُ ينصب المصدر مفعولاً له، فإن لم يكن مصدراً حينئذٍ لا ينصب على المفعولية.
إِنْ أَبَانَ تَعْلِيلاً، يعني: إن أظهر تعليلاً، يعني بيَّن هذا المصدر علة الحدث الذي وقع، جئت، لم جئت؟ قال: إكراماً، فحينئذٍ نقول: وقع هذا المصدر لبيان علة ذكر الحدث.
هذه الشروط ظاهرها أنها شروط لنصبه، وأنه عند جره يسمى مفعولاً له، لذا قال: إن أبان تعليلاً وعطف ما بعده، ثم قال: وَإنْ شَرْطٌ فُقِدْ فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ، فَاجْرُرْهُ ما هو؟ المفعول له، هذا الظاهر فاقد الشرط، حينئذٍ هل يسمى مفعولاً له مع استيفاء شروطه وجره بلام التعليل، أو لا يسمى إلا إذا كان منصوباً؟
لِزُهْدٍ ذَا قَنِعْ ذا قنع زهداً، زهداً بالنصب لا شك أنه مفعولاً له، لو قال: ذا قنع لزهد مع استيفاء الشروط فجره (باللام) هل هو كذلك يسمى مفعولاً له أم خرج عن المفعولية فصار جاراً ومجروراً؟ نقول: ظاهره أن هذه شروط لنصبه، وأنه عند جره يسمى مفعولاً له كذلك، يعني: بعد جره، والجمهور على أنه حينئذٍ مفعول به إذا جُرَّ بـ (اللام)؛ لأنه رجع إلى أصله، قلنا: هو انتصب على نزع الخافض، فهو في الأصل مفعول به، فإذا جُرَّ بـ (اللام) خرج عن كونه مفعولاً له، فرجع إلى أصله وهو المفعول به، والجمهور على أنه حينئذٍ مفعول به، وعليه هذا الشروط لتحقق ماهية المفعول له.
إذاً هذه الشروط لبيان حقيقة المفعول له، وحينئذٍ إذا جر بـ (اللام) قلنا: رجع إلى أصله وهو أنه مفعول به ولا يسمى مفعولاً له.
وقوله: إِنْ أَبَانَ يعني: أن أظهر، تَعْلِيلاً أي أظهر علة الشيء الذي هو الحدث الذي وقع، أي الباعث على الفعل سواء كان غرضاً، نحو: جئتك جبراً لخاطرك، علة الشيء قد يكون الشيء غرضاً، جئت جبراً لخاطرك، إذاً غرض، شيء في النفس، يعني: إرادة سابقة، أو لا يكون كذلك، لا يكون غرضاً، مثل: قعدت عن الحرب جبناً، هل هو مثل الأول؟ جئت جبراً لخاطرك، يعني: هنا بيَّن الإرادة التي كانت سبباً في المجيء، وأما: قعدت جبناً، الجبن هذا لازم له، لا يكون غرضاً، لا يقصد مثل المجيء، حينئذٍ يكون عاماً للنوعين، فقد يكون المفعول له غرضاً، وذلك فيما إذا كانت الإرادة سابقة للفعل نفسه، جئت جبراً لخاطرك، حينئذٍ الجبر هذا -جبر الخاطر- هو علة في حصول المجيء، فلو لم يكن ما حصل المجيء، وأما الجبن فهو ملازم له، الجبان جبان، لا يكون في وقت جبان وفي وقت آخر ليس بجبان، الشجاعة صفة لازمة، والجبن صفة لازمة، وهي من أفعال السجايا جَبُنَ، ولذلك نقول: فَعُلَ، إذاً هو من أفعال السجايا فهو صفة لازمة، أو لا، كـ: قعدت عن الحرب جبناً.
إِنْ أَبَانَ تَعْلِيلاً فيشترط في المصدر الذي ينصب على المفعولية على أنه مفعول له أن يكون معلِّلاً، لكن يشترط فيه أن يكون مغايراً للفظ عامله، إذ لو كان مطابقاً للفظ عامله لصار مفعولاً مطلقاً، هذا قيد لا بد من زيادته، يشترط أن يكون من غير لفظ الفعل، فإن كان نحو حِيلَ محِيلاً، محيلاً نصب على المصدرية، يعني: صار مفعولاً مطلقاً.
إِنْ أَبَانَ تَعْلِيلاً هذا القيد الثاني، والشرط الثاني.
قيل: لا يصح جعله شرطاً للنصب وهو كونه معلِّلاً، كونه معلِّلاً قيل: لا يصح جعله شرطاً للنصب لماذا؟ إذ إبانة التعليل من حقيقة المفعول له، فليست شرطاً خارجاً عن ماهية المفعول له، فرق بين الركن والشرط، الركن ما كان داخلاً في جزء الماهية، والشرط خارج عنه، حينئذٍ كونه معللاً هو داخل في ماهية المفعول له، وإذا كان كذلك لا يجعل شرطاً؛ لأننا إذا جعلناه شرطاً حكمنا عليه بأنه ليس داخلاً في الماهية:
وَالرُّكنُ جُزءُ الذَّاتِ والشَّرطُ خَرَج، نقول: الطهارة شرط لصحة الصلاة، والفاتحة ركن، فرق بين الطهارة وقراءة الفاتحة، الفاتحة تكون في الماهية داخلة، والشرط يكون خارجاً.
كونه معللاً هل هو ركن أم شرط؟ الظاهر أنه ركن بمعنى أنه داخل في ماهية المفعول له، حينئذٍ كيف نقول: هو شرط؟ قيل: لا يصح جعله شرطاً للنصب؛ إذ إبانة التعليل من حقيقة المفعول له، فالجواب: أن المصدر إن أبان تعليلاً في المعنى ينصب حال كونه في الاصطلاح يسمى بالمفعول له، يعني: ينظر له من جهتين، نحكم عليه أولاً بأنه معلِّلاً، هذا معنى لغوي قبل الدخول في الاصطلاح، فحينئذٍ ننصبه على أنه مفعول له، ويسمى حينئذٍ مفعولاً له في اصطلاح النحاة، إذاً قبل الحكم عليه بأنه منصوب مفعول له ننظر نظر سابق وهو أنه هل هو مفيد للتعليل أم لا؟ فحينئذٍ الشرط هنا شرط لتحقيق الاسم فحسب، ليس شرطاً في إيجاد المفعول له من حيث هو، فنقول: ننظر في المصدر هل أبان تعليلاً أو لا؟ إن أبان تعليلاً حينئذٍ صح أن نحكم عليه في اصطلاح النحاة بأنه مفعول له، فحينئذٍ صار هذا الشرط سابقاً لوجود اصطلاح النحاة وهو المفعول له، صار ممهداً كالتوطئة مثل ما ذكرنا في زيد في التثنية والجمع، قلنا: لا تثنى ولا يجمع الأعلام، بل لا بد أن يكون نكرة، ثم نقول: الذي يجمع هذا الجمع كعامر علم كيف نشترط فيه أنه علم، ثم نقول: لا يجمع العلم؟ قلنا: شرط العلمية توطئة لجمعه، فهو شرط سابق، وأما التنكير فهو شرط بالفعل، كأنه ذاك في الأول شرط بالقوة ليهيئ الكلمة لأن تكون صالحة للجمع، يعني: تنظر في القواميس وتنظر في ما جاء في لسان العرب، هذا جامد هذا علم، حينئذٍ إذا حكمت عليه بأنه علم من أجل أن تُجوِّز لنفسك جمعه ثم تُنَكِّرُهُ، فالتنكير شرط للإقدام، وأما الحكم عليه بكونه علماً، هذا شرط لتهيئة اللفظ من أجل جمعه، هو نفس الكلام هنا.
فالحكم عليه بكونه معلِّلاً شرط لتهيئة اللفظ من أجل صدق مصطلح النحاة وهو مفعول له على هذا اللفظ، إِنْ أَبَانَ تَعْلِيلاً.
كَجُدْ شُكْرَاً مثل بمثالين، جُدْ شُكْرَاً، شُكْرَاً هذا مصدر، وقد أبان تعليلاً فإنَّ معناه جد لأجل الشكر، وهو واقع في جواب لِمَ، لِمَ حصل منك الجود؟ شُكْرَاًً.
وَدنْ أي طاعة، هذان مثالان: جُدْ شُكْرَاً مثال، وَدنْ هذا أمر، دان يدين دِن، بمعنى اخضع، حذف مفعوله لدليلٍ، وفيه فائدة أنه يجوز حذف المفعول له لدليلِ، وَدنْ طاعة، فهو مثال ثاني بمعنى اخضع، حذف مفعوله لدليل.
ثم قال:
وَهْوَ بِمَا يَعْمَلُ فِيهِ مُتَّحِدْ
فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ ........ ... وَقْتَاً وَفَاعِلاً وَإِنْ شَرْطٌ فُقِدْ
...............................
وَهْوَ أي المصدر المعلِّل، لا تقل: المفعول له، المصدر المعلِّل؛ لأننا ما زلنا نترقى في استيفاء الشروط من أجل النصب، حكمنا عليه بكونه مصدراً، ثم معلِّل، بقي شرطان، وهو كونه متحداً مع الحدث ومشاركاً له وَقْتَاً وَفَاعِلاً.
وَهْوَ أي المصدر المعلِّل، بِمَا يَعْمَلُ فِيهِ مُتَّحِدْ، بِمَا (الباء) بمعنى مع، يعني: مع ما يعمل فيه متحد، مُتَّحِدْ هذا خبر وَهْوَ، وَهْوَ، بإسكان (الهاء) للوزن، وَهْوَ أي المصدر المعلل، متحد بما يعمل فيه، وما الذي يعمل فيه؟ الحدث إما أن يكون في ضمن الفعل أو الوصف أو المصدر، وَهْوَ بِمَا يَعْمَلُ فِيهِ مُتَّحِدْ، وَهْوَ أي المصدر المعلل، مُتَّحِدْ مع ما يعمل فيه وَقْتاً يعني في وقتٍ، منصوبٌ على نزع الخافض، وَفَاعِلٍ كذلك منصوب على نزع الخافض، ويحتمل أنهما تمييزان. وَقْتاً وَفَاعِلاً بمعنى أنه يشترط أن يكون وقت إيقاع المصدر هو وقت إيقاع الحدث، العامل فيه، ضربت ابني تأديباً، أن يكون التأديب في زمن الضرب، وأن يكون فاعل التأديب، وفاعل الضرب واحد، فإن انتفيا أو انتفى واحد منهما حينئذٍ انتفى وصف المفعول له، ورجع إلى أصله، وهو من وجوب جره بحرف التعليل.
وَهْو بِمَا يَعْمَلُ فِيهِ مُتَّحِدْ وَقْتاً وَفَاعِلاً .. لم يذكر هنا كونه قلبياً، هذا شرط خامس قد زاده البعض، كونه قلبياً، يعني: المصدر أن يكون قلبياً، احترازاً من أفعال الجوارح، فإذا كان المصدر مبيناً لفعل من أفعال الجوارح، جئتك قراءة للعلم، قراءةً هذا مصدر معلل متحد مع الحدث فاعلاً ووقتاً، وُجِدت فيه الشروط الأربعة، لكن قراءة هذا ليس بعمل قلبي، وإنما هو عمل بالجوارح، قالوا: هذا ليس مصدراً، لا يصح نصبه على أنه مفعول له لماذا؟ لأن القراءة فعل من أفعال الجوارح والحواس، ويشترط في المصدر المنصوب على المفعولية له أن يكون قلبياً، قيل: استغنى عن اشتراط كونه قلبياً لاشتراط اتحاد الوقت، لأن أفعال الجوارح لا تجتمع في الوقت مع الفعل المعلِّل، كأنه اكتفى بقوله: وقتاً، وَهْوَ بِمَا يَعْمَلُ فِيهِ مُتَّحِدْ وَقْتاً، هذا يدل على أن المصدر لا يكون إلا قلبياً؛ لأنه لا يجتمع مع الحدث -الفاعل له- في الوقت إلا إذا كان قلبياً، وأما أفعال الجوارح فلا يتصور فيها ذلك الاجتماع في الزمن، فبهذا استغني عن اشتراط كونه قلبياً؛ لأن أفعال الجوارح لا تجتمع في الوقت مع الفعل المعلِّل، فلا يصح حينئذٍ قولك: جئتك قراءة للعلم.
إذاً اشترط بعضهم؛ وهذا منسوب للمتأخرين؛ أنه لا يكون الفعل أو المصدر منصوباً على المفعولية له إلا إذا كان قلبياً؛ لأن العلة هي الحاملة على إيجاد الفعل، هذا تعليل آخر، العلة هي الحاملة على إيجاد الفعل، لماذا جئت؟ المجيء ما وقع إلا من أجل الغرض، والغرض هذا أين محله؟ القلب، ثم هل هو سابق عن الفعل أو مقارن أو لاحق؟ سابق، يوجد أولاً الإرادة، ثم بعد ذلك يوجد الفعل، الإرادة سابقة على الفعل، لا شك في هذا، حينئذٍ نقول: العلة هي الحاملة على إيجاد الفعل، والحامل على الشيء متقدم عليه، وأفعال الجوارح ليست كذلك، وردَّه الرضي -رَدَّ هذا الشرط-؛ بأنه لا يشترط في المصدر أن يكون قلبياً؛ لأنهم اتفقوا على جواز إعراب (إصلاحاً) من قول: جئتك إصلاحاً لأمرك، وضربته تأديباً، التأديب هذا شيء حسي، وإصلاحاً هذا شيء حسي كذلك، واتفقوا على أنهما منصوبان على المفعولية مفعول له، كيف نشترط أن يكون قلبياً، ونحن اتفقنا على جواز جئتك إصلاحاً لأمرك وضربته تأديباً، والأصل عدم التقدير، قد يقال بأنه ضربته لإرادة التأديب، وجئتك لإرادة إصلاح أمرك، فالأصل عدم التقدير، مادام أنه حُكِم عليه بأنه مفعول له فالأصل تنزيل المصطلح على اللفظ لا على المضاف المقدر.
ورَدَّه الرضي بجواز جئتك إصلاحاً لأمرك، وضربته تأديباً، اتفاقاً، حينئذٍ قال تنصيصاً على هذا: المفعول يكون على ضربين - يعني المفعول له-: ما يتقدم وجوده على مضمون عامله، حينئذٍ يكون من أفعال القلوب، نحو: قعدت جُبناً، لا شك أن الجُبْنَ هذا سابق عن القعود، موجود أولاً ثم قعد، ما حمله على القعود إلا الجبن، فهو سابق.
الثاني ما يتقدم على الفعل تصوراً في الذهن فحسب لا في الوجود، ما يتقدم على الفعل تصوراً، أي: يكون غرضاً ولا يلزم كونه فعل القلب، نحو ضربته تقويماً، وجئته إصلاحاً، ضربته تأديباً أو تقويماً وجئته إصلاحاً.
إذاً قد يكون المفعول له ليس فعل قلب، وقد يكون كذلك، وأما اشتراطه مطلقاً في كل مفعول له، فهذا محل نظر.
وَهْوَ بِمَا يَعْمَلُ فِيهِ مُتَّحِدْ: وَهْوَ أي المصدر المعلل، مُتَّحِدٌ بِمَا يعني مع ما يَعْمَلُ فِيهِ، وَقْتَاً يعني في الوقت، وفي الفاعل، فإن انتفت المصدرية انتفى المفعول له، وإن انتفى التعليل انتفى المفعول له، وإن انتفى كونه متحداً مع ما يعمل فيه في الوقت انتفى المفعول له، والرابع مثله، ولذلك قال: وَإِنْ شَرْطٌ فُقِدْ فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ، وَإنْ شَرْطٌ من هذه الشروط المذكورة، فُقِدْ يعني: لم يوجد، فَقدُ الشيء إنما يكون بعد وجوده، هذا الأصل، لكن مراده هنا لم يتوفر من أصله، فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ يعني فاجرره وجوباً، لا يجوز نصبه على أنه مفعول له، بل يجب جره بالحرف، والمراد بالحرف هنا حرف التعليل، وفي بعض النسخ فاجرره بـ (اللام)، المراد بها (لام) التعليل، وأطلقها لأنها هي الأصل في الباب، وما عداها محمول عليها، وإلا فحروف التعليل: (اللام) و (من) و (الباء) و (في) هذه أربعة، وزاد بعضهم: (الكاف)، وزاد بعضهم (على)، لكن المشهور هذه الأربعة التي تدخل على المفعول له أصالةً قبل دخول الحرف.
فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ وجوباً، فاجرره بـ (اللام) وجوباً، وما يقوم مقامها، والظاهر أن النسخة بـ (اللام) هي مراد المصنف؛ لأنه قال بعد ذلك: وَقَلَّ أَنْ يَصْحَبَهَا الْمُجَرَّدُ وقل أن يصحبها ما هي؟؟؟؟ هذا الظاهر والله أعلم، أوله بعضهم: قل أن يصحبها حرف الجر بتأويل الكلمة، يَصْحَبَهَا يعني الكلمة أوَّل حرف، فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ فاجرره بالكلمة، التي هي حرف، فأول الحرف بالكلمة وأعاد الضمير عليها بالتأويل، فهذا فيه بُعد، إذاً فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ أو بـ (اللام) نقول: سيان، لكن الظاهر هي بـ (اللام)، ولذلك هي التي شرح عليها الأشموني بـ (اللام)، وأما التي شرح عليها المكودي بالحرف، على كل هذا وذاك ليس بقرآن.
فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ وَإنْ شَرْطٌ فُقِدْ، مثال ما فقد المصدرية نحو قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا)) [البقرة:29] هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ (اللام) هذه (لامُ) التعليل فتحت من أجلِ -الأصل فيها الكسر، لتأديبٍ مكسورة هذا الأصل فيها،- فتحت هنا من أجل دخولها على الضمير (له