📁 آخر الأخبار

من صحب من ليس من نظرائه لخصال فيه


من صحب من ليس من نظرائه لخصال فيه

من صحب من ليس من نظرائه لخصال فيه

كان حارثةُ بن بَدر الغُدَانيِّ فارسَ بني تميم، وكان شاعراً أديبَا ظريفاً، وكان يُعاقرا الشَّرابَ ويَصْحب زياداَ، فقيل لزياد:
 إنك تَصْحب هذا الرجلَ وليس من شاكِلَتك، إنهُ يُعاقر الشراب؛ فقال:
 كيف لا أَصحبه، ولم أَسْأله عن شيء قطّ إلا وجدتُ عنده منه عِلماً، ولا مَشىَ أمامي فاضطرَّني أن أناديه، ولا مَشى خَلْفي فاضطرَّني أن أَلتفتَ إليه، ولا راكَبني فمسَّتْ رُكْبتي رُكْبَتَه. فلما هلك زيادٌ قال حارثةُ بنُ بَدْر يَرْثيه:

***
 وإِنّ مَن غَرَّت الدُّنيا لَمَغْرورُ
قد كان عِنْدك للمَعْروف مَعْرِفَةٌ
***
 وكان عندك للتَّنْكير تَنْكِير
لو خلدَ الخيرُ والإسلامُ ذا قِدَمٍ
***
 إذاً لخلّدَك الإسلامُ والخِير
وتمامُ هذه الأبياتِ قد وقعتْ في الكتاب الذي أَفْرَدناه للمَرَاثي. وكان زياد لا يُدَاعب " أحداً " في مجلسه ولا يَضْحَك، فاختصم إليه بنو راسِب وبنو الطُّفَاوَة في غُلام أثْبته هؤلاء وهؤلاء، فَتَحَيَّر زيادٌ في الحًكم. فقال له حارثةُ ابن بدر:
 عِنْدي أكرمَ اللهّ الأميرَ في هذا الغلام أمرٌ، إن أذِن الأميرُ تكلّمت به فيه؟ قال:
 وما عندك فيه؟ قال:
 أرى أن يُلْقَى في دِجْلة فإن رَسَب فهو لِبَني راسِب، وإن طفا فهو لبني الطُّفَاوَة، فتبسَّم زياد وأَخَذَ نَعْليه ودخل، ثم خَرج، فقال لحارثة:
 ما حَمَلك على الدُّعابة في مَجلسي؟ قال:
 طَيِّبَةٌ حَضرَتْني أبقى الله الأمير خِفْت أن تَفُوتنِى؛ قال:
 لا تَعُدْ إلى مثلها. ولما وَليَ عُبيد اللهّ بن زياد بعد موت أبيه اطرحَ حارثةَ بنَ بدر وجفاه. فقال له حارثةُ:
 مالك لا تُنْزلني المنزلةَ التي كان يُنزِلني أبوك؟ أتدَّعي أنّكَ أفضلُ منه أو أعقل؟ قال له:
 إنّ أبي كان بَرَع في الفضل بُرُوعاَ لا تَضرّه صُحْبَة مثلك، وأنا حَدَث أخشى أن تَحْرِقني بنارك، فإنْ شِئْتَ فاتْرُك الشراب وتكونَ أوَلَ داخل وآخِرَ خارج؟ قال:
 واللّه ما تركتُه للّه فكيف أتركه لك؟ قال:
 فتخَيَّرْ بلداً أوَلِّيكه. فاختار سُرَّق من أرض العِراق، فولاّه إياها. فكتب إليه أبو الأسود الدُؤلي، وكان صديقاً له:

أحارَ بنَ بَدْرٍ قَدْ وَليتَ وِلايةً
***
 فكُنْ جًرَذاً فيها تَخُون وتَسْرِقُ
وباهِ تَمِيَماَ بالغِنى إنّ للغنى
***
 لِساناً به المرْء الهيوبة يَنطق
وما الناس إلا اثنان إما مُكَذِّبٌ
***
 يقول بما يهْوَى وإمَّا مُصدِّق
يقُولون أقوالاً ولا يحْكِمُونها
***
 فإنْ قيل يوماً حققوا لم يُحَقَقُوا
فدع عنك ما قالوا ولا تَكْترث بهم
***
 فحظك من مال العِرَاقين سُرّق
فوقَّع في أسفل كتابه:
 لا بَعُد عنك الرَّشَد.
وكان ابن الوليد البَجليّ، وهو ابن أخت خالد بن عبد الله القَسْرِيّ، ولي أصبهان، وكان رجلاً مُتَسَمِّتاً مُتَصَلحاً، فَقدِمَ عليه حمزةُ بن بيض بن عَوْف " راغباً " في صُحْبته، فقيل له:
 إنّ مثل حمزة لا يَصْحب مثلَك، لأنه صاحبُ كِلاب ولهو، فبعث إليه ثلاثةَ آلاف درْهم وأمره بالانصراف. فقال فيه:

يابن الوليد المُرْتَجَى سَيْبهُ
***
 ومن يُجَلي الحدث الحالِكَا
سَبِيلُ مَعْروفك مني عَلَى
***
 بالٍ فما بالِي عَلَى بالِكا
حَشْوُ قميصي شاعرٌ مُفْلِقٌ
***
 والجودُ أمْسى حشو سربالِكا
يلومك النَّاسُ على صُحْبتٍي
***
 والمِسْكُ قد يستصحبِ الرّامِكا
إنْ كُنتَ لا تَصحَب إلا فَتى
***
 مِثْلك لن تُؤْتىَ بأمْثَالِكا
إنيّ آمرُؤ جئتُ أريد الهُدَى
***
 فَعُد على جَهلي بإسْلامِكا
قال له:
 صدقتَ، وقَرَّبه وحَسُنت منزلته " عنده " .
وكان عبدُ الرحمن بن الحَكم الأمير قد عَتَب على نُدمائه! فأَمرَ نَصْراً الفتى بإسقاطهم من ديوان عَطائه، ولم يَسْتبدل بهم. فلما كان بعد أيام أستوحش لهم، فقال لِنصر:
 قد استوحشنا لأصحابنا أولئك؟ فقال له نصر:
 قد نالهم من سخْط الأمير ما فيه أدبٌ لهم، فإن رأى أن يُرْسل فيهم أرْسلت؟ قال:
 أرْسِلْ. فأقبل القومُ وعليهم كآبة، فأخذُوا مجالسهم، ولم يَنشرحوا ولا خاضُوا فيما كانوا يَخُوضون فيه، فقال الأميرُ لِنصر:
 ما يَمنع هؤلاء من الانشراح؟ قال:
 عليهم أَبقى الله الأمير وَجْمَةُ السُخط الذي نالهم؟ قال:
 قُلْ لهم:
 قد عَفَوْنا فليَنْشرحوا. قال فقام عبد الرحمن بن الشَمر الشاعرِ المُتنجِّم، فجثا بين يديه، ثم أنشد شَعراً له أقذع فيه على بعض أصْحابه إلا أنه خَتمه ببيتين بديعين وهما:

فيا رَحْمَةَ الله في خَلْقه
***
 ومَن جُوده أبداً يَسْكُبُ
لئن عِفْتَ صُحْبة أهل الذُّنوب
***
 لقلَّ مِن الناس من يُصْحَب
وأَحسنُ ما قيل في هذا المعنى قولُ النابغة:

ولمسْتَ بِمُسْتَبْق أخا لا تَلُمّه
***
 على شَعَثٍ أيُّ الرِّجال المُهَذَّبُ
من صحب من ليس من نظرائه لخصال فيه
من صحب من ليس من نظرائه لخصال فيه

۞۞۞۞۞۞۞۞
 كتاب الياقوتة في العلم والأدب ﴿ 110 ﴾ 
۞۞۞۞۞۞۞۞
من صحب من ليس من نظرائه لخصال فيه
من صحب من ليس من نظرائه لخصال فيه


كاتب
كاتب
مصطفى خميس خريج كلية اللغة العربية جامعة الإسكندرية، لعيب كرة قدم سابق لدي نادي أهلي دمنهور، مدون ومحرر اخبار ومالك عدة مواقع إلكترونية.
تعليقات