من رثى جاريته من رثى جاريته
من رثى جاريته من رثى جاريته
كان لمُعلّى الطائِي جارية يُقال لها وَصْف، وكانت أديبةً شاعرة، فأخبرني محمد بن وَضّاح، قال:
أدركتُ معلَّى الطائي بمصر، وأعْطِي بجاريته وَصْف أربعةَ الآف دينار فباعها. فلما دَخل عليها قالت له:
بِعْتني يا مُعلى! قال نعم، قالت:
واللّه لو مَلَكْتً منك مثلَ ما تَمْلك مني ما بِعْتك بالدُّنيا وما فيها. فَردَ الدَّنانير، واستقال صاحبَه، فأصيب بها إلى ثمانية أيام، فقال يَرْثيها:
***
قَدَّمْتها وتَرَكْتَني خَلْفَا
هَلا ذَهَبْتَ بنا معاً فَلَقد
***
ظَفِرَتْ يَدَاك فسُمْتَني خَسْفا
وأَخَذْتَ شِقَّ النَفْس من بَدَني
***
فَقَبَرْتَه وتَرَكْتَ لي النِّصْفا
فَعَلَيك بالباقي بلا أجَل
***
فالموتُ بعد وفاتها أعفي
يا موتُ ما بَقّيت لي أحداً
***
لما زَفَفْت إلى البِلَى وَصْفا
هَلاّ رَحِمْت شَبَابَ غَانِيةٍ
***
رَيَّا العِظام وشَعْرَها الوَحْفا
ورَحِمْت عَيْني ظَبْية جَعَلت
***
بين الرّياض تُناظِر الخِشْفا
تُغْفي إذا انتصبت فرائصه
***
ولَظَلُّ تَرْعاه إذا أغفى
فإذا مَشىِ اختلفت قوائمهُ
***
وَقْت الرَّضاع فَيَنْطَوِي ضعْفا
متحيراً في المَشيْ مُرْتَعِشاً
***
يَخْطو فَيَضْرِب ظِلْفُه الظّلْفا
فكأَنها وَصْفٌ إذا جَعَلت
***
نحوي تُدِير مَحَاجِراً وُطْفا
يا مَوْتُ أنت كذا لكلِّ أخِي
***
إلفٍ يَصُون ببرِّه الإلْفا
خَلَّيتني فَرْداً وبِنْت بها
***
ما كنتُ قَبْلَك حافلا وكفا
فَتَرَكْتُها بالرَّغْم في جَدَث
***
للرّيح يَنْسِف تُرْبَه نَسْفا
دون المُقَطَّم لا ألبسها
***
من زينةٍ قُرْطاً ولا شَنْفا
أسْكَنْتها في قَعْر مُظلِمة
***
بيتاً يُصافِح تُرْبُه السقْفا
بيتاً إذا ما زَاره أَحَدٌ
***
عَصَفَت به أيْدِي البِلَى عَصْفا
لَبِسَتْ ثِيَاب الحَتْفِ جاريةٌ
***
قد كنتُ أَلْبَس دونها الحَتْفا
فكأَنّها والنفسُ زاهِقةٌ
***
غُصْن من الرَّيْحانِ قد جَفّا
يا قبرُ أبْقِ على محاسنها
***
فلقد حويت النور والظرْفا
لما هُزِم مَرْوان بن محمد وخَرج نحو مِصرْ، كتب إلى جارية له خَلَّفها بالرَّمْلة:
وما زَال يَدْعُوِني إلى الصَّبر ما أَرى
***
فآبى ويَثْنِيني الذي لكِ في صَدْري
وكانَ عزيزاَ أنّ بَيْني وبينها
***
حِجاباً فقد أَمسيتُ منك على عَشر
وأنْكاهما لِلْقَلْب واللّه فاعلمي
***
إذا ازددتُ مِثلَيها فَصِرْتُ على شَهْر
وأعظمُ من هَذَينِ واللّه أنني
***
أخاف بأن لا نَلْتَقي آخرَ الدَّهر
سأَبْكِيك لا مُستَبْقِياَ فَيْض عَبْرة
***
ولا طالباً بالصبر عاقبةَ الصَّبر
وَجدوا على قبر جارية إلى جَنب قَبر أبي نُواس أبياتاً ذكروا أنَ أبا نُواس قالها، وهى:
أَقُولُ لقبْرٍ زُرْتُه مُتَلَثِّما
***
سَقَي اللهّ بَرْدَ العَفْو صاحبَة القَبْر
لقد غيَّبوا تَحت الثّرَى قَمر الدُّجَى
***
وشَمْس الضًّحَى بين الصَّفائح والعَفر
عَجِبتُ لِعَينْ بَعدها مَلَت البُكا
***
وقلْب عَلْيها يَرْتَجي راحَة الصَّبر
وقال حَبِيب الطائي يَرثِي جارِية أصِيب بها:
جُفوف البِلَى أَسْرَعْتَ في الغُصُنِ الرَّطْبوخَطْبَ الردى والموتِ أَبْرحْتَ من خَطْبِ
لقد شَرِقَت في الشَّرق بالموت غادةٌ
***
تَبَدَّلْتُ منها غُرْبة الدَّار في الغَرْب
وألبسنى ثوباً من الحُزْن والأسيَ
***
هِلاَلٌ عليه نَسْجُ ثَوْب من التُّرب
وكنتُ أرَجِّي القُرْبَ وهي بعيدة
***
فقد ثقُلَت بَعْدي عن الًبُعدِ والقُرْب
أقول وقد قالوا استراح بموتها
***
من الكرب رَوْح المَوْت شَرٌّ من الكَرْب
لها مَنزل تحت الثَّرَى وعَهدتُها
***
لها منزلٌ بين الجَوانِح والقَلْب
وقال يرْثيها:
ألم تَرَني خَلَيتُ نَفْسي وشانَها
***
ولم أحفِل الدُّنيا ولا حَدَثانَها
لقد خوَفَتْني النائباتُ صُرُوفَها
***
ولو أَمَّنَتْني ما قِبِلتُ أمانَها
وكيف على نارِ اللًيالي مُعرَّسي
***
إذا كان شَيْبُ العارِضَين دُخانَها
أُصِبْتُ بِخَوْد سوف أَعْبُر بعدها
***
حليفَ أسى أبكى زماناً زمانَها
عِنَانٌ من اللَذَّات قد كان في يَدِي
***
فلما قَضىَ الإلْفُ استردت عِنَانَهَا
مَنَحْتُ المَهَاهَجْرِي فَلاَ مُحْسِناتها
***
أَوَدُّ ولا يَهْوىَ فُؤَادِي حِسانَها
يقولون هَلْ يبكي الفَتَىِ لِخَريدةٍ
***
إذا ما أراد اعتاض عَشْراً مَكانَها
وهل يَسْتَعِيض المَرْءُ من خمْس كَفّه
***
ولو صاغَ مِن حًرِّ اللُّجَينْ بنانَها
وقال أعرابي يَرْثي آمراته:
فوالله ما أدْري إذا الليلُ جَنَّني
***
وذَكَّرَنيها أيُّنا هو أَوْجعُ
أمُنْفَصِلٌ عن ثَدْي أم كريمةٍ
***
أم العاشقُ النَّابي به كلُّ مَضْجَع
وقال محمود الورّاق يَرْثي جاريتَه نَشْو:
ومنتصح يُرَدِّد ذِكْر نَشْوٍ
***
على عَمْدٍ لِيَبْعَثَ لي اْكتئاباً
أقول وَعَدَّ ما كانت تُسَاويسَيَحْسُبُ ذاك مَن خَلَقَ الْحِسابا
عَطِيَّته إذا أعطَى سُرور
***
وإن أخذ الذي أعطَى أَثَابَا
فأيُ النِّعمتينْ أعمُّ نَفْعاً
***
وأحسَنُ في عَواقِبها إيابا
أنعِمْته التي أهْدت سروراً
***
أم الأًخْرى التي أهدت ثَوَابا
بل الأخرى وَإِنْ نَزَلَت بحُزْن
***
أحَقُ بِشُكْرِ مَن صَبَرَ احتسابا
أبو جَعفر البغداديّ قال:
كان لنا جارٌ وكانت له جاريةٌ جَميلة، وكان شَديد المحبَّة لها، فماتت فَوَجد عليها وَجْداً شديداً، فبينا هو ذاتَ لَيْلة نائمٌ إذ أتتْه الجاريةُ في نَوْمه فأنشدتْه هذه الأبيات:
جاءت تَزور وسادِي بعدما دُفِنتْ
***
في النَّوْم ألْثِمُ خَدًّا زَانَه الجيدُ
فقلتُ قُرَّةَ عيني قد نُعيتِ لنا
***
فكيفَ ذا وطَريقُ القبر مسدود
قالت هُناك عِظامي فيه مُلْحَدةٌ
***
ينْهَشْنَ منها هَوَامُ الأرض والدُّود
وهذه النفسُ قد جاءتْك زائرةً
***
فاقبَلْ زيارةَ من في القَبر مَلْحُود
فانتبه وقد حَفِظها، وكان يحدّث الناس بذلك ويُنشدهم. فما بَقي بعدَها إلا أيَّاماً يَسيرة حتى لَحِق بها.
من رثى جاريته من رثى جاريته
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب الدرة في المعازي والمراثي ﴿ 10 ﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞
من رثى جاريته من رثى جاريته