بعد الهمة وشرف النفس
بعد الهمة وشرف النفس
دخل نافع بن جبيرة بن مطعم على الوليد، وعليه كساء غليظ، وخفان جاسيان، فسلم وجلس، فلم يعرفه الوليد، فقال لخادم بين يديه:
سل هذا الشيخ من هو. فسأله، فقال له:
اعزب؛ فعاد إلى الوليد فأخبره؛ فقال:
عد إليه واسأله؛ فعاد إليه، فقال له مثل ذلك. فضحك الوليد، وقال له:
من أنت؟ قال:
نافع بن جبير بن مطعم.
وقال زياد بن ظبيان لابنه عبيد الله؛ ألا أوصي بك الأمير زياداً؟ قال:
يا أبت إذا لم يكن للحي إلا وصية فالحي هو الميت.
وقال معاوية لعمرو بن سعيد:
إلى من أوصى بك أبوك؟ قال:
إن أبي أوصى إلي ولم يوص بي؛ قال وبما أوصى إليك؟ قال:
أن لا يفقد إخوانه منه إلا وجهه.
وقال مالك بن مسمع لعبيد الله بن زياد بن ظبيان:
ما في كنانتي سهم أنا به أوثق مني بك، قال:
وإني لفي كنانتك! أما والله لئن كنت فيها قائماً لأطولنها، ولئن كنت فيها قاعداً لأخرقنها. قال:
كثر الله مثلك في العشيرة؛ قال:
لقد سألت الله شططا.
وقال يزيد بن المهلب:
ما رأيت أشرف نفساً من الفرزدق، هجاني ملكاً ومدحني سوقة.
وقدم عبيد الله بن زياد بن ظبيان على عتاب بن ورقاء الرياحي - وهو والي خراسان - فأعطاه عشرين ألفاً، فقال له:
والله ما أحسنت فأحمدك، ولا أسأت فألومك، وإنك لأقرب البعداء، وأحب البغضاء.
وعبيد الله بن زياد بن ظبيان هذا هو القائل:
والله ما ندمت على شيء قط ندمي على عبد الملك بن مروان، إذ أتيته برأس مصعب بن الزبير فخر لله ساجداً، أن لا أكون قد ضربت عنقه، فأكون قد قتلت ملكين من ملوك العرب في يوم واحد.
ومن أشرف الناس همة عقيل بن علفة المري. وكان أعرابياً يسكن البادية، وكان تصهر إليه الخلفاء، وخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لأحد أولاده، فقال له:
جنبني هجناء ولدك.
وقال عمر بن عبد العزيز لرجل من بني أمية كان له أخوال في بني مرة:
قبح الله شبهاً غلب عليك من بني مرة. فبلغ ذلك عقيل بن علفة، فأقبل إليه فقال له قبل أن يبتدئه بالسلام:
بلغني يا أمير المؤمنين أنك غضبت على رجل من بني عمك له أخوال في بني مرة، فقلت:
قبح الله شبهاً غلب عليك من بني مرة، وأنا أقول قبح الله ألأم الطرفين، ثم انصرف. فقال عمر بن عبد العزيز:
من رأى أعجب من هذا الشيخ الذي أقبل من البادية ليست له حاجة إلا شتمنا ثم انصرف؟ فقال له رجل من بني مرة:
والله يا أمير المؤمنين ما شتمك وما شتم إلا نفسه وقومه، نحن والله ألأم الطرفين.
أبو حاتم السجستاني عن محمد بن عبد الله العتبي قال:
سمعت أبي يحدث عن أبي عمرو المري، قال:
كان بنو عقيل بن علفة بن مرة بن غطفان يتناقلون وينتجعون الغيث، فسمع عقيل بن علفة بنتاً له ضحكت فشهقت في آخر ضحكها، فاخترط السيف وحمل عليها وهو يقول:
فرقت إني رجل فروق
***
بضحكة آخرها شهيق
وقال عقيل:
إني وإن سيق إلي المهر
***
ألف وعبدان وذود عشر
أحب أصهاري إلي القبر
وقال الأصمعي:
كان عقيل بن علفة المري رجلاً غيوراً، وكان يصهر إليه الخلفاء، وإذا خرج يمتار خرج بابنته الجرباء معه. قال:
فنزلوا ديراً من ديرة الشام يقال لها دير سعد، فلما ارتحلوا قال عقيل:
قضت وطراً من دير سعد وطالماً
***
على عرض ناطحنه بالجماجم
ثم قال لابنه:
يا عملس أجز، فقال:
فأصبحن بالموماة يحملن فتية
***
نشاوى من الإدلاج ميل العمائم
ثم قال لابنته:
يا جرباء، أجيزي، فقالت:
كأن الكرى سقاهم صرخدية
***
عقاراً تمشى في المطا والقوائم
قال:
وما يدريك أنت ما نعت الخمر! فأخذ السيف وهوى نحوها، فاستعانت بأخيها عملس، فحال بينه وبينها.
قال:
فأراد أن يضربه. قال:
فرماه بسهم فاختل فخذيه فبرك، ومضوا وتركوه، حتى إذا بلغو أدنى ماء للأعراب، قالوا لهم:
إنا أسقطنا جزروا فأدركوها وخذوا معكم الماء، فإذا عقيل بارك وهو يقول:
إن بني زملوني بالدم
***
شنشنة أعرفها من أخزم
من يلق أبطال الرجال يكلم
والشنشنة:
الطبيعة، وأخزم:
فحل معروف، وهذا مثل للعرب ومن أعز الناس نفساً وأشرفهم همماً الأنصار، وهم الأوس والخزرج ابنا قيلة، لم يؤدوا إتاوة قط في الجاهلية إلى أحد من الملوك، وكتب إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته، ويتوعدهم إن لم يفعلوا أن يغزوهم. فكتبوا إليه:
العبد تبع كم يروم قتالنا
***
ومكانه بالمنزل المتذلل
إنا أناس لا ينام بأرضنا
***
عض الرسول ببظر أم المرسل
فغزاهم تبع أبو كرب، فكانوا يقاتلونه نهاراً ويخرجون إليه القرى ليلاً، فتذمم من قتالهم ورحل عنهم.
ودخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك، فقال له:
من أنت؟ وتجهم له كأنه لا يعرفه:
فقال له الفرزدق:
وما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال:
لا؛ قال:
أنا من قوم منهم أوفى العرب، أسود العرب، وأجود العرب، وأحلم العرب، وأفرس العرب، وأشعر العرب:
قال:
والله لتبينن ما قلت أو لأوجعن ظهرك؛ ولأهدمن دارك، قال:
نعم يا أمير المؤمنين، أما أوفى العرب، فحاجب بن زرارة، الذي رهن قوسه عن جميع العرب فوفى بها:
وأما أسود العرب، فقيس بن عاصم، الذي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبسط له رداءه، وقال:
هذا سيد الوبر؛ وأما أحلم العرب، فعتاب بن ورقاء الرياحي؛ وأما أفرس العرب، فالحريش بن هلال السعدي؛ أما أشعر العرب فأنذا بين يديك يا أمير المؤمنين، فاغتم سليمان مما سمع من فخره ولم ينكره، وقال:
ارجع على عقبيك، فما لك عندنا شيء من خير. فرجع الفرزدق وقال:
أتيناك لا من حاجة عرضت لنا
***
إليك ولا من قلة في مجاشع
وقال الفرزدق في الفخر:
بنو دارم قومي ترى حجزاتهم
***
عتاقاً حواشيها رقاقاً نعالها
يجرون هداب اليماني كأنهم
***
سيوف جلا الأطباع عنها صقالها
وقال الأحوص في الفخر، وهو أفخر بيت قالته العرب:
ما من مصيبة نكبة أرمى بها
***
ألا تشرفني وترفع شاني
وإذا سألت عن الكرام وجدتني
***
كالشمس لا تخفى بكل مكان
وقال أبو عبيدة:
اجتمعت وفود العرب عند النعمان بن المنذر، فأخرج إليهم بردي محرق، وقال:
ليقم أعز العرب قبيلة فليلبسهما فقام عامر بن أحيمر السعدي فاتزر بأحدهما وارتدى بالآخر؛ فقال له النعمان:
بم أنت أعز العرب؟ قال:
العز والعدد من العرب في معد، ثم في نزار، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني؛ فسكت الناس. ثم قال النعمان:
هذه حالك في قومك، فكيف أنت في نفسك وأهل بيتك؟ قال:
أنا أبو عشرة، وخال عشرة، وعم عشرة؛ وأما أنا في نفسي فهذا شاهدي ثم وضع قدمه في الأرض، ثم قال:
من أزالها من مكانها فله مائة من الإبل. فلم يقم إليه أحد، فذهب بالبردين.
ففيه يقول الفرزدق:
فما ثم في سعد ولا آل مالك
***
غلام إذا ما سيل لم يتبهدل
لهم وهب النعمان بردي محرق
***
بمجد معد والعديد المحصل
وفي أهل هذا البيت من سعد بن زيد مناة كانت الإفاضة في الجاهلية. ومنهم بنو صفوان الذين يقول فيهم أوس بن مغراء السعدي:
ولا يريمون في التعريف موقفهم
***
حتى يقال أجيزوا آل صفوانا
ما تطلع الشمس إلا عند أولنا
***
ولا تغيب إلا عند أخرانا
وقال الفرزدق في مثل هذا المعنى:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا
***
وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
وكانت هنيدة بنت صعصعة عمة الفرزدق تقول:
من جاءت من نساء العرب بأربعة كأربعتي يحل لها أن تضع خمارها عندهم فصرمتى لها:
أبي صعصعة، وأخي غالب، وخالي الأقرع بن حابس، وزوجي الزبرقان بن بدر، فسميت ذات الخمار.
وممن شرفت نفسه، وبعدت همته:
طاهر بن الحسين الخراساني، وذلك أنه لما قتل محمد بن زبيدة، وخاف المأمون أن يغدر به، امتنع عليه بخراسان ولم يظهره خلعه.
وقال دعبل بن علي الخزاعي يفتخر بقتل طاهر بن الحسين محمداً، لأنه كان مولى خزاعة، ويقال إنه خزاعي:
أيسومني المأمون خطة عاجز
***
أوما رأى بالأمس رأس محمد
توفي على روس الخلائق مثل ما
***
توفي الجبال على رؤوس القردد
إني من القوم الذين هم هم
***
قتلوا أخاك وشرفوك بمقعد
رفعوا محلك بعد طول خموله
***
واستنقذوك من الحضيض الأوهد
وقال طاهر بن الحسين:
غضبت على الدنيا فأنهبت ما حوت
***
وأعتبتها مني بإحدى المتالف
قتلت أمير المؤمنين وإنما
***
بقيت عناء بعده للخلائف
وأصبحت في دار مقيما كما ترى
***
كأني فيها من ملوك الطوائف
وقد بقيت في أم رأس فتكة
***
فإما لرشد أو لرأي مخالف
فأجابه محمد بن يزيد بن مسلمة:
عتبت على الدنيا فلا كنت راضيا
***
فلا أعتبت إلا بإحدى المتالف
فمن أنت أو ما أنت يا فقع قرقر
***
إذا أنت منا لم تعلق بكانف
فنحن بأيدينا هرقنا دماءنا
***
كثول تهادى الموت عند التزاحف
ستعلم ما تجني عليك وما جنت
***
يداك فلا تفخر بقتل الخلائف
وقد بقيت في أم رأسك فتكة
***
سنخرجها منه بأسمر راعف
وقال عبد الله بن طاهر:
مدمن الإغضاء موصول
***
ومديم العتب مملول
ومدين البيض في تعب
***
وغريم البيض ممطول
وأخو الوجهين حيث رمى
***
بهواه فهو مدخول
أقصري عما لهجت به
***
ففراغي عنك مشغول
سائلي، عمن تسائلني
***
قد يرد الخير مسئول
أنا من تعرف نسبته
***
سلفي الغر بالبهاليل
سل بهم تنبيك نجدتهم
***
مشرفيات مصاقيل
كل عضب مشرب علقا
***
وغرار الحد مفلول
مصعب جدي نقيب بني
***
هاشم والأمر مجبول
وحسين رأس دعوتهم
***
بعده الحق مقبول
وأبي من لا كفاء له
***
من يسامي مجده قولوا
صاحب الرأي الذي حصلت
***
رأيه القوم المحاصيل
حل منهم بالذرى شرفاً
***
دونه عز وتبجيل
نفصح الأنباء عنه إذا
***
أسكت الأنباء مجهول
سل به الجبار يوم غدا
***
حوله الجرد الأبابيل
إذ علت من فوقه يده
***
نوطها أبيض مصقول
أبطن المخلوع كلكله
***
وحوالبه المقاويل
فثوى والترب مصرعه
***
غال منه ملكه غول
وهبوا لله أنفسهم
***
لا معازيل ولا ميل
ملك تجتاح صولته
***
ونداه الدهر مبذول
نزعت منه تمائمه
***
وهو مرهوب ومأمول
وتره يسعى إليه به
***
ودم يجنيه مطلول
فأجابه محمد بن يزيد بن مسلمة، وكان من أصحابه وآثرهم عنده، ثم اعتذر إليه وزعم أنه لم يدعه إلى إجابته إلا قوله:
من يسامي مجده قولوا
فأمر له بمائة ألف وزاده أثرة ومنزلة:
لا يرعك القال والقيل
***
كل ما بلغت تضليل
ما هوى لي كنت أعرفه
***
بهوى غيرك موصول
أيخون العهد ذو ثقة
***
لا يخون العهد متبول
حملتني كل لائمة
***
كل ما حملت محمول
واحكمي ما شئت واحتكمي
***
فحرامي لك تحليل
أين لي عنك إلى بدل
***
لا بديل منك مقبول
ما لداري منك مقفرة
***
وضميري منك مأهول
وبدت يوم الوداع لنا
***
غادة كالشمس عطبول
تتعاطى شد مئزرها
***
ونطاق الخصر محلول
شملنا إذ ذاك مجتمع
***
وجناح البين مشكول
ثم ولت كي تودعنا
***
كحلها بالدمع مغسول
أيها البادي بطيته
***
ما لأغلاطك تحصيل
قد تأولت على جهة
***
ولنا ويحك تأويل
إن دليلاك يوم غدا
***
بك في الحين لضليل
قاتل المخلوع مقتول
***
ودم القاتل مطلول
قد يخون الرمح عامله
***
وسنان الرمح مصقول
وينال الوتر طالبه
***
بعد ما تسلو المثاكيل
بأخي المخلوع طلت يداً
***
لم يكن في باعها طول
وبنعماه التي كفرت
***
جالت الخيل الأبابيل
ويراع غير ذي شفق
***
فعلت تلك الأفاعيل
يا بن بيت النار موقدها
***
ما لحاذيه سراويل
من حسين وأبوه ومن
***
مصعب غالتهم غول
إن خير القول أصدقه
***
حين تصطك الأقاويل
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب
المرجانة في مخاطبة الملوك ﴿ 13 ﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞