تعازى الملوك تعازى الملوك
تعازى الملوك تعازى الملوك
العُتْبى قال:
عَزّى أكثَم بن صَيْفيّ عمرو بنَ هِنْد ملكَ العرب على أخيه، فقال له:
أيها الملك، إنّ أهلَ الدار سَفْرٌ لا يَحُلّون عُقَد الرحال إلا في غَيْرها، وقد أتاك ما ليس بمردود عنك، وارتحل عنك ما ليس براجع إليك، وأقام معك مَن سَيَظْعَنِ عنك ويَدَعك. واعلم أنّ الدُنيا ثلاثة أيام:
فأمس عِظَة وشاهدُ عَدْل، فَجَعَك بِنفْسه، وأبْقَى لك عليه حُكْمَك؛ واليوم غَنيمة وصَدَيق، أتاك ولم تَأته، طالت عليك غَيْبَتُه، وستُسْرع عنك رِحْلته؛ وغَد لا تَدري من أهلُه، وسيأتيك إنْ وَجَدك. فما أحسَن الشُّكر للمُنْعم، والتسليمَ للقادر! وقد مَضت لنا أصولٌ نحن فُروِعها، فما بَقَاء الفُروع بعد أصُولها! واعلم أنّ أعظم من المُصيبة سوءُ الخَلف منها، وخيرٌ من الخير مُعْطيه، وشرٌ من الشرّ فاعله.
لما هَلك أميرُ المؤمنين المَنصور، قَدِمَت وُفود الأنصار على أمير المؤمنين المهديّ، وقَدِمَ فيهم أبو العَيْناء المُحَدَث، فَتَقَدَّمَ إلى التّعْزية، فقال:
آجَر الله أميرَ المؤمنين على أمير المؤمنين قبلَه، وبارك لأمير المُؤمنين فيما خَلِّفه له، فلا مُصِيبةَ أعظمُ من مُصيبة إمام والد، ولا عُقْبَى أفْضَلُ من خِلافة الله على أوليائه، فاْقبل من الله أفضلَ العطية، واصْبر له على الرزيّة. ولما مات معاويةُ بن أبي سفيان، ويزيدُ غائب، صلَّى عليه الضحّاك بن قيس الفِهْري، ثم قَدِمَ يزيد من يومه ذلك، فلم يَقْدَم أحدٌ على تَعْزيته حتى دخل عليه عبدُ الله بن همّام السلوليّ، فقال:
اصْبرْ يزيدُ فقد فارقتَ ذا مِقَةٍ
***
واشكُر حِبَاءَ الذي بالمُلْك حاباكَا
لا رُزْءَ أعظمُ في الأَقْوَام قد عَلِمُوا
***
مما رُزِئْتَ ولا عُقْبَى كعُقْبَاكا
أصبحتَ رَاعى أهل الأرض كلِّهمُ
***
فأنت تَرعاهُم واللّه يَرْعاكا
وفي مُعاويةَ الباقي لنا خلف
***
إذا بقيتَ فلا نَسْمَع بِمَنْعاكا
فافتتح الخُطباء الكلام.
عَزى شَبيبُ بن شَيْبَة المنصورَ على أخيه أبي العبّاس، فقال:
جَعل الله ثوابَ ما رُزِئت به لك أَجراً، وأعْقَبك عليه صبرا، وخَتَم لك ذلك بعافية تامّة، ونعْمة عامّة، فثوابُ الله خير لك منه، وما عند الله خير له منك، وأحقُّ ما صُبر عليه ما ليس إلى تَغْييره سبيل. وكتب إبراهيم بن إسحاق إلى بعض الخُلَفاء يُعَزِّيه:
إنّ أحَقَّ مَن عَرف حقَ اللهّ فيما أَخَذ منه مَن عَرف نِعْمَته فيما أبقَى عليه. يا أميرَ المؤمنين، إِنّ الماضيَ قبلك هو الباقي لك، والباقيَ بعدك هو المأجور فيك، وإِنّ النِّعمة على الصابرين فيما ابتُلوا به أعظمُ منها عليهم فيما يُعَافَوْنَ منه.
دخل عبدُ الملك بن صالح دار الرّشيد، فقال له الحاجبُ:
إن أمير المؤمنين قد أصِيب بابن له ووُلد له آخر. فلما دخل عليه، قال:
سرَّك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءَك، ولا ساءَك فيما سرّك، وجَعل هذه بهذه مَثُوبةً على الصبر، وجزاءً على الشكر. ودخل المأمونُ عَلَى أم الفَضْل بن سَهل يُعَزِّيها بابنها الفَضْل بن سهل، فقال:
يا أُمّه، إنك لم تَفْقِدِي إلا رؤيته وأنا ولدُك مكانَه؛ فقالت:
يا أمير المؤمنين، إنّ رجلا أفادني ولداً مثلك لَجَدير أن أَجْزع عليه.
لما مات عبدُ الملك بن عمر بن عبد العزيز كتب عمر إلى عُمّاله:
إِنَّ عبد الملك كان عبداً من عَبيد اللهّ، أَحْسَنَ الله إليه وإليّ فيه، أعاشه ما شاء وقَبَضَه حين شاء، وكان - ما علمتُ من صالِحِي شباب أَهْل بَيْته قراءةً للقرآن، وتَحَرِّياً للخير، وأعوذ باللّه أن تكون لي مَحَبّة أخالف فيها محبة اللّه، فإن ذلك لا يَحْسُن في إحسانه إليّ، وتتابُع نَعمه عليّ، ولأعلمنّ ما بكت عليه باكية ولا ناحت عليه نائحة، قد نَهينا أهلَه الذين هم أحقُّ بالبكاء عليه. دخل زيادُ بن عثمان بن زياد على سُليمان بن عبد الملك وقد تُوفي ابنه أيُّوب، فقال:
يا أميرَ المؤمنين، إنّ عبدَ الرحمن ابن أبي بكر كان يقول:
من أَحبّ البقاء - ولا بقاء - فَلْيُوَطِّن نفسه على المصائب.
لما مات مُعاوية دخل عَطاء بن أبي صيْفِيّ على يزِيد، فقال:
يا أميرَ المؤمنين، أصبحتَ رُزِئْت خليفةَ اللّه، وأعطيت خلافةَ اللّه، فاحْتسِب على الله أعظم الرزيّة، واشكُره على أحسن العَطية. عزّى محمدُ بن الوليد بن عتبة عُمَر بن عبد العزيز على ابنه عبد الملك، فقال:
يا أمير المؤمنين، أعِدّ لما تَرَى عُدَّةً تكنِ لك جُنّة من الحُزن وسِتْراً من النار. فقال عمر:
هلِ رأيتَ حُزْناً يُحْتَجّ به، أو غَفْلة يُنبّه عليها؟ قال:
يا أميرَ المؤمنين، لو أن رجلاً ترَك تعْزية رجل لِعِلْمِه وانتباهه لكُنَته، ولكن الله قضى أن الذِّكرى تنفع المؤمنين.
وتُوُفِّيَت أخْتٌ لعمر بن عبد العزيز، فلما فرغ من دَفْنها دَنا إليه رجل فعزَّاه، فلم يَرُدّ عليه شيئاً، ثم دنا إليه آخرُ فعزَّاه، فلم يرُدَّ عليه شيئاً، فلما رأى الناسُ ذلك أمسكوا عنه ومَشَوْا معه. فلما بلغ البابَ أقبل على الناس بوجهه وقال:
أدركتُ الناس وهم لا يُعَزون بامرأة إلا أن تكون أًمًّا، انقلبوا رحمكم اللهّ. وُجد في حائط من حيطان تُبَّع مكتوب:
اصبِرْ لِدَهْرٍ نال من
***
ك فهكذا مضت الدهور
فرح وَحُزْنٌ مرةً
***
لا الحزن دام ولا السرور
وهذا نظيرُ قول العتَّابي:
وقائلة لمَّا رَأَتْني مسهداً
***
كَأَنّ الحَشَا مِنِّي تُلَذِّعُه الجَمُرْ
أباطِنُ داءٍ أم جَوَى بك قاتلٌ
***
فقلتُ الذي بي ما يَقوم له صبر
تَفرّق ألافٍ وموتُ أَحِبّة
***
وفَقْدُ ذَوى الإفْضَال قالت كذا الدهر
كتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى المُتوكل يُعزيه بابن له:
إنّي أًعزِّيك لا أَنِّي عَلَى ثِقَةٍ
***
من الحياة ولكنْ سُنَّةُ الدِّينِ
ليس المُعزى ببعد ميته بباق بعد مَيِّته
***
ولا المعزِّي وإن عاشا إلى حِين
وقال أبو عُيَينة:
فإنْ أَشكُ من لَيلى بجُرْجان طُولَه
***
فقد كنت أشكو منه بالبَصرة القِصَرْ
وقائلةٍ ماذا نأى بك عنهمُ
***
فقلت لها لا عِلْم لي فَسَلِي القَدَر
وقال بعض الحُكماء لسُليمان بن عبد الملك لما أصِيب بابنه أيّوب:
يا أميرَ المؤمنين، إنّ مثلَك لا يُوعَظ إلا بدون عِلْمه، فإن رأَيتَ أن تًقَدِّم ما أخَّرَت العَجَزة من حُسن العَزاء والصَّبر على المُصيبة فتُرضي ربَّك وتُرِيح بدنك، فافعل. وكتب الحسنُ إلى عمر بن عبد العزيزُ يعزِّيه في ابنه عبد الملك ببيت شعر وهو:
وعُوِّضْتُ أَجْراً مِن فَقيد فلا يكُن
***
فَقِيدُك لا يَأتي وأَجْرُك يَذْهَبُ
ولما حَضرت الإسكندرَ الوفاةُ كَتب إلى أمِّه:
أن اصنَعي طعاماً يحضُره الناسُ، ثم تَقدّمي إليهم أن لا يَأكل منه مَحْزون، ففَعلت. فلم يبْسُط إليه أحدٌ يده، فقالت:
ما لكم لا تَأكلون؟ فقالوا:
إنك تقَدّمت إلينا أن لا يأكلَ منه مَحْزون، وليس منَّا إلا من قد أصيب بِحَميم أو قرِيب؛ فقالت:
مات واللّه ابني وما أَوْصى إِليّ بهذا إلا ليُعَزِّينَى به.
وكان سهل بن هارون يقول في تَعْزِيته:
إن التَهْنِئَة بآجل الثَوَاب أوجبُ من التَّعزية على عاجل المُصيبة.
تعازى الملوك تعازى الملوك
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب الدرة في المعازي والمراثي ﴿ 16 ﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞
تعازى الملوك تعازى الملوك تعازى الملوك تعازى الملوك