باب من فضائل الخضر عليه السلام
باب من فضائل الخضر عليه السلام
جُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ مَوْجُودٌ بَيْن أَظْهُرِنَا، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْد الصُّوفِيَّةِ، وَأَهْل الصَّلَاح وَالْمَعْرِفَة، وَحِكَايَاتهمْ فِي رُؤْيَته وَالِاجْتِمَاع بِهِ وَالْأَخْذ عَنْهُ وَسُؤَاله وَجَوَابه وَوُجُوده فِي الْمَوَاضِع الشَّرِيفَة وَمَوَاطِن الْخَيْر أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ، وَأَشْهَر مِنْ أَنْ يُسْتَرَ.
قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح هُوَ حَيٌّ عِنْد جَمَاهِير الْعُلَمَاء وَالصَّالِحِينَ.
وَالْعَامَّة مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ مُرْسَلًا.
وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ وَكَثِيرُونَ: هُوَ وَلِيٌّ وَحَكَى الْمَاوَرْدِيّ فِي تَفْسِيره ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحَدهَا نَبِيّ، وَالثَّانِي وَلِيّ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ مِنْ الْمَلَائِكَة وَهَذَا غَرِيب بَاطِل.
قَالَ الْمَازِرِيّ: اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْخَضِر هَلْ هُوَ نَبِيّ أَوْ وَلِيّ؟ قَالَ: وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِنُبُوَّتِهِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا فَعَلْته عَنْ أَمْرِي} فَدَلَّ عَلَى إِنَّهُ نَبِيّ أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَبِأَنَّهُ أَعْلَم مِنْ مُوسَى، وَيَبْعُد أَنْ يَكُون وَلِيّ أَعْلَم مِنْ نَبِيٍّ.
وَأَجَابَ الْآخَرُونَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْحَى اللَّه إِلَى نَبِيٍّ فِي ذَلِكَ الْعَصْر أَنْ يَأْمُرَ الْخَضِرَ بِذَلِكَ.
وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ الْمُفَسِّر: الْخَضِر نَبِيّ مُعَمَّر عَلَى جَمِيع الْأَقْوَال، مَحْجُوب عَنْ الْأَبْصَار، يَعْنِي عَنْ أَبْصَار أَكْثَر النَّاس.
قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَمُوتُ إِلَّا فِي آخِر الزَّمَان حِين يُرْفَعُ الْقُرْآن، وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ ثَلَاثَة أَقْوَال فِي أَنَّ الْخَضِر كَانَ مِنْ زَمَن إِبْرَاهِيم الْخَلِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ أَمْ بِكَثِيرٍ.
كُنْيَة الْخَضِر أَبُو الْعَبَّاس، وَاسْمه (بَلْيَا) بِمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَة ثُمَّ لَام سَاكِنَة ثُمَّ مُثَنَّاة تَحْتُ، اِبْن (مَلْكَان) بِفَتْحِ الْمِيم وَإِسْكَان اللَّام، وَقِيلَ: (كَلْيَان).
قَالَ اِبْن قُتَيْبَة فِي الْمَعَارِف: قَالَ وَهْب بْن مَنْبَه: اِسْم الْخَضِر (بَلْيَا بْن مَلْكَان بْن فَالِغ بْن عَابِر بْن شالخ بْن أرفخشد بْن سَام بْن نُوح).
قَالُوا: وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ الْمُلُوك.
وَاخْتَلَفُوا فِي لَقَبه الْخَضِر، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَة بَيْضَاء، فَصَارَتْ خَضْرَاء، وَالْفَرْوَة وَجْه الْأَرْض.
وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى اِخْضَرَّ مَا حَوْله وَالصَّوَاب الْأَوَّل، فَقَدْ صَحَّ فِي الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِر لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَة فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاء» وَبَسَطْت أَحْوَاله فِي تَهْذِيب الْأَسْمَاء وَاللُّغَات وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
✯✯✯✯✯✯
4385- قَوْله: (إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيّ) هَكَذَا ضَبَطَهُ الْجُمْهُور بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَة وَتَخْفِيف الْكَاف، وَرَوَاهُ بَعْضهمْ بِفَتْحِهَا وَتَشْدِيد الْكَاف.
قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الثَّانِي هُوَ ضَبْط أَكْثَر الشُّيُوخ وَأَصْحَاب الْحَدِيث.
قَالَ: وَالصَّوَاب الْأَوَّل، وَهُوَ قَوْل الْمُحَقِّقِينَ، وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى بَنِي بِكَالٍ بَطْن مِنْ حِمْيَر، وَقِيلَ: مِنْ هَمْدَانَ.
وَنَوْف هَذَا هُوَ اِبْن فَضَالَة، كَذَا قَالَهُ اِبْن دُرَيْد وَغَيْره، وَهُوَ اِبْن اِمْرَأَة كَعْب الْأَحْبَار، وَقِيلَ: اِبْن أَخِيهِ، وَالْمَشْهُور الْأَوَّل، قَالَهُ اِبْن أَبِي حَاتِم وَغَيْره.
قَالُوا: وَكُنْيَته أَبُو يَزِيد، وَقِيلَ: أَوْ رُشْد، وَكَانَ عَالِمًا حَكِيمًا قَاضِيًا وَإِمَامًا لِأَهْلِ دِمَشْق.
قَوْله: «كَذَبَ عَدُوّ اللَّه» قَالَ الْعُلَمَاء: هُوَ عَلَى وَجْه الْإِغْلَاظ وَالزَّجْر عَنْ مِثْل قَوْله، لَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَدُوّ اللَّه حَقِيقَة، إِنَّمَا قَالَهُ مُبَالَغَة فِي إِنْكَار قَوْله لِمُخَالَفَتِهِ قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَال غَضَب اِبْن عَبَّاس لِشِدَّةِ إِنْكَاره، وَحَال الْغَضَب تُطْلَق الْأَلْفَاظ وَلَا تُرَادُ بِهَا حَقَائِقهَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: «أَنَا أَعْلَم» أَيْ فِي اِعْتِقَاده، وَإِلَّا فَكَانَ الْخَضِر أَعْلَم مِنْهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيث.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَعَتَبَ اللَّه عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْم إِلَيْهِ» أَيْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: اللَّه أَعْلَم، فَإِنَّ مَخْلُوقَاتِ اللَّه تَعَالَى لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ.
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّك إِلَّا هُوَ} وَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاء بِسُؤَالِ مُوسَى السَّبِيل إِلَى لِقَاء الْخَضِر صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اِسْتِحْبَاب الرِّحْلَة فِي طَلَب الْعِلْم، وَاسْتِحْبَاب الِاسْتِكْثَار مِنْهُ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعِلْم بِمَحَلٍّ عَظِيم أَنْ يَأْخُذَهُ مِمَّنْ هُوَ أَعْلَم مِنْهُ، وَيَسْعَى إِلَيْهِ فِي تَحْصِيلِهِ، وَفيه فَضِيلَةُ طَلَب الْعِلْم وَفِي تَزَوُّدِهِ الْحُوت وَغَيْره جَوَاز التَّزَوُّد فِي السَّفَر.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث الْأَدَب مَعَ الْعَالِم، وَحُرْمَة الْمَشَايِخ، وَتَرْك الِاعْتِرَاض عَلَيْهِمْ، وَتَأْوِيل مَا لَا يُفْهَم ظَاهِره مِنْ أَفْعَالهمْ وَحَرَكَاتهمْ وَأَقْوَالهمْ، وَالْوَفَاء بِعُهُودِهِمْ، وَالِاعْتِذَار عِنْد مُخَالَفَة عَهْدهمْ.
وَفيه إِثْبَات كَرَامَات الْأَوْلِيَاء عَلَى قَوْل مَنْ يَقُول: الْخَضِر وَلِيّ.
وَفيه جَوَاز سُؤَال الطَّعَام عِنْد الْحَاجَة، وَجَوَاز إِجَارَة السَّفِينَة، وَجَوَاز رُكُوب السَّفِينَة وَالدَّابَّة وَسُكْنَى الدَّار وَلُبْس الثَّوْب وَنَحْو ذَلِكَ بِغَيْرِ أُجْرَة بِرِضَى صَاحِبه وَقَوْله: (حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْل).
وَفيه الْحُكْمُ بِالظَّاهِرِ حَتَّى يَتَبَيَّن خِلَافه لِإِنْكَارِ مُوسَى.
قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي قَوْل مُوسَى: {لَقَدْ جِئْت شَيْئًا إِمْرًا} وَ{شَيْئًا نُكْرًا} أَيُّهُمَا أَشَدُّ؟ فَقِيلَ: إِمْرًا لِأَنَّهُ الْعَظِيم، وَلِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَة خَرْق السَّفِينَة الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فِي الْعَادَة هَلَاك الَّذِي فيها وَأَمْوَالهمْ، وَهُوَ أَعْظَم مِنْ قَتْل الْغُلَام، فَإِنَّهَا نَفْسُ وَاحِدٍ.
وَقِيلَ: نُكْرًا أَشَدّ لِأَنَّهُ مَا قَالَهُ عِنْد مُبَاشَرَة الْقَتْل حَقِيقَة، وَأَمَّا الْقَتْل فِي خَرْق السَّفِينَة فَمَظْنُون، وَقَدْ يَسْلَمُونَ فِي الْعَادَة، وَقَدْ سَلِمُوا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّة، وَلَيْسَ فيه مَا هُوَ مُحَقَّق إِلَّا مُجَرَّد الْخَرْق وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله تَعَالَى: «إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَم مِنْك» قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَجْمَع بَحْرَيْ فَارِس وَالرُّوم مِمَّا يَلِي الْمَشْرِق، وَحَكَى الثَّعْلَبِيّ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب أَنَّهُ بَأَفْرِيقِيَّة.
قَوْله: «اِحْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَل فَحَيْثُ تَفْقِد الْحُوت فَهُوَ ثَمَّ» الْحُوت السَّمَكَة، وَكَانَتْ سَمَكَة مَالِحَة كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة، وَالْمِكْتَل بِكَسْرِ الْمِيم وَفَتْح الْمُثَنَّاة فَوْقُ، وَهُوَ الْقُفَّة وَالزَّبِيل، وَسَبَقَ بَيَانه مَرَّات.
وَتَفْقِدُهُ بِكَسْرِ الْقَاف أَيْ يَذْهَبُ مِنْك، يُقَالُ: فَقَدَهُ وَافْتَقَدَهُ.
وَثَمَّ بِفَتْحِ الثَّاء أَيْ هُنَاكَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ» وَهُوَ يُوشَع بْن نُون مَعْنَى فَتَاهُ صَاحِبه، وَنُون مَصْرُوف كَنُوحٍ، وَهَذَا الْحَدِيث يَرُدُّ قَوْل مَنْ قَالَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ فَتَاهُ عَبْدٌ لَهُ وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَال الْبَاطِلَة.
قَالُوا.
وَهُوَ يُوشَع بْن نُون بْن إفراثيم بْن يُوسُف صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَمْسَكَ اللَّه عَنْهُ جِرْيَة الْمَاء حَتَّى كَانَ مِثْل الطَّاق» أَمَّا (الْجِرْيَة) فَبِكَسْرِ الْجِيم.
وَالطَّاق عَقْد الْبِنَاء، وَجَمْعه طِيقَان وَأَطْوَاق، وَهُوَ الْأَزَجِ، وَمَا عُقِدَ أَعْلَاهُ مِنْ الْبِنَاء وَبَقِيَ مَا تَحْته خَالِيًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَانْطَلَقَا بَقِيَّة يَوْمهمَا وَلَيْلَتهمَا» ضَبَطُوهُ بِنَصْبِ لَيْلَتهمَا وَجَرِّهَا.
وَالنَّصَب التَّعَب.
قَالُوا: لَحِقَهُ النَّصَب وَالْجُوع لِيَطْلُبَ الْغِذَاء، فَيَتَذَكَّر بِهِ نِسْيَان الْحُوت، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَمْ يَنْصَبْ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَان الَّذِي أُمِرَ بِهِ».
قَوْله: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} قِيلَ: إِنَّ لَفْظَة عَجَبًا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمَامِ كَلَام يُوشَع، وَقِيلَ: مِنْ كَلَام مُوسَى، أَيْ قَالَ مُوسَى: عَجِبْت مِنْ هَذَا عَجَبًا، وَقِيلَ: مِنْ كَلَام اللَّه تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ اتَّخَذَ مُوسَى سَبِيل الْحُوت فِي الْبَحْر عَجَبًا.
قَوْله: «مَا كُنَّا نَبْغِي» أَيْ نَطْلُبُ، مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي جِئْنَا نَطْلُبُهُ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي نَفْقِدُ فيه الْحُوت.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَرَأَى رَجُلًا مُسَجًّى عَلَيْهِ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْخَضِر: أَنَّى بِأَرْضِك السَّلَام؟» الْمُسَجَّى الْمُغَطَّى.
وَأَنَّى أَيْ مِنْ أَيْنَ السَّلَام فِي هَذِهِ الْأَرْض الَّتِي لَا يُعْرَف فيها السَّلَام؟ قَالَ الْعُلَمَاء: (أَنَّى) تَأْتِي بِمَعْنَى أَيْنَ، وَمَتَى، وَحَيْثُ، وَكَيْف.
«وَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْل» بِفَتْحِ النُّون وَإِسْكَان الْوَاو أَيْ بِغَيْرِ أَجْر وَالنَّوْل، وَالنَّوَال الْعَطَاء.
قَوْله: {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} قُرِئَ فِي السَّبْع بِضَمِّ التَّاء الْمُثَنَّاة فَوْقُ وَنَصْب أَهْلهَا، وَبِفَتْحِ الْمُثَنَّاة تَحْتُ وَرَفْع أَهْلهَا {لَقَدْ جِئْت شَيْئًا إِمْرًا} أَيْ عَظِيمًا كَثِير الشِّدَّة {وَلَا تُرْهِقْنِي} أَيْ تَغْشَنِي وَتُحَمِّلنِي.
قَوْله: {أَقَتَلْت نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْت شَيْئًا نُكْرًا} قُرِئَ فِي السَّبْع {زَاكِيَة} و{زَكِيَّة} قَالُوا: وَمَعْنَاهُ طَاهِرَة مِنْ الذُّنُوب.
وَقَوْله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} أَيْ بِغَيْرِ قِصَاصٍ لَك عَلَيْهَا.
وَالنُّكْر الْمُنْكَر.
وَقُرِئَ فِي السَّبْع بِإِسْكَانِ الْكَاف وَضَمّهَا، وَالْأَكْثَرُونَ بِالْإِسْكَانِ.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَقَوْله: إِذَا غُلَام يَلْعَب فَقَتَلَهُ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ كَانَ صَبِيًّا لَيْسَ بِبَالِغٍ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَة الْغُلَام، وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُور أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا.
وَزَعَمَتْ طَائِفَة أَنَّهُ كَانَ بَالِغًا يَعْمَل بِالْفَسَادِ، وَاحْتَجَّتْ بِقَوْلِهِ: {أَقَتَلْت نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاص، وَالصَّبِيّ لَا قِصَاص عَلَيْهِ، وَبِقَوْلِهِ: {كَانَ كَافِرًا} فِي قِرَاءَة اِبْن عَبَّاس كَمَا ذَكَرَ فِي آخِر الْحَدِيث، وَالْجَوَاب عَنْ الْأَوَّل مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدهمَا أَنَّ الْمُرَاد التَّنَبُّه عَلَى أَنَّهُ قَتَلَ بِغَيْرِ حَقّ، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ شَرْعهمْ كَانَ إِيجَاب الْقِصَاص عَلَى الصَّبِيّ، كَمَا أَنَّهُ فِي شَرْعِنَا يُؤَاخَذُ بِغَرَامَةِ الْمُتْلَفَات.
وَالْجَوَاب عَنْ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّهُ شَاذّ لَا حُجَّة فيه، وَالثَّانِي أَنَّهُ سَمَّاهُ بِمَا يَؤُول إِلَيْهِ لَوْ عَاشَ كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة.
قَوْله: {قَدْ بَلَغْت مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} فيه ثَلَاث قَرَاءات فِي السَّبْع: الْأَكْثَرُونَ بِضَمِّ الدَّال وَتَشْدِيد النُّون، وَالثَّانِيَة بِالضَّمِّ وَتَخْفِيف النُّون، وَالثَّالِثَة بِإِسْكَانِ الدَّال وَإِشْمَامهَا الضَّمّ وَتَخْفِيف النُّون، وَمَعْنَاهُ قَدْ بَلَغْت إِلَى الْغَايَة الَّتِي تُعْذَر بِسَبَبِهَا فِي فِرَاقِي.
قَوْله تَعَالَى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} قَالَ الثَّعْلَبِيّ: قَالَ اِبْن عَبَّاس: هِيَ أَنْطَاكِيَّة، وَقَالَ اِبْن سِيرِينَ: الْأَيْلَة، وَهِيَ أَبْعَد الْأَرْض مِنْ السَّمَاء.
قَوْله تَعَالَى: {فَوَجَدَا فيها جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} هَذَا مِنْ الْمَجَاز لِأَنَّ الْجِدَار لَا يَكُونُ لَهُ حَقِيقَة إِرَادَة، وَمَعْنَاهُ قَرُبَ مِنْ الِانْقِضَاض، وَهُوَ السُّقُوط.
وَاسْتَدَلَّ الْأُصُولِيُّونَ بِهَذَا عَلَى وُجُود الْمَجَاز فِي الْقُرْآن، وَلَهُ نَظَائِر مَعْرُوفَة.
قَالَ وَهْب بْن مَنْبَه: كَانَ طُول هَذَا الْجِدَار إِلَى السَّمَاء مِائَة ذِرَاع.
قَوْله: {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} قُرِئَ بِالسَّبْعِ {لَتَخِذْت} بِتَخْفِيفِ التَّاء وَكَسْر الْخَاء، {وَلَاتَّخَذْت} بِالتَّشْدِيدِ وَفَتْح الْخَاء أَيْ لَأَخَذْت عَلَيْهِ أُجْرَة تَأْكُلُ بِهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجَاءَ عُصْفُور حَتَّى وَقَعَ عَلَى حَرْف السَّفِينَة ثُمَّ نَقَرَ فِي الْبَحْر فَقَالَ لَهُ الْخَضِر: مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمك مِنْ عِلْم اللَّه تَعَالَى إِلَّا مِثْل مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُور مِنْ الْبَحْر» قَالَ الْعُلَمَاء: لَفْظ (النَّقْص) هُنَا لَيْسَ عَلَى ظَاهِره، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ عِلْمِي وَعِلْمك بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْم اللَّه تَعَالَى كَنِسْبَةِ مَا نَقَرَهُ هَذَا الْعُصْفُور إِلَى مَاء الْبَحْر، هَذَا عَلَى التَّقْرِيب إِلَى الْأَفْهَام، وَإِلَّا فَنِسْبَة عِلْمهمَا أَقَلّ وَأَحْقَر.
وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: «مَا عِلْمِي وَعِلْمك فِي جَنْب عِلْم اللَّه إِلَّا كَمَا أَخَذَ هَذَا الْعُصْفُور بِمِنْقَارِهِ» أَيْ فِي جَنْب مَعْلُوم اللَّه.
وَقَدْ يُطْلَق الْعِلْم بِمَعْنَى الْمَعْلُوم، وَهُوَ مِنْ إِطْلَاق الْمَصْدَر لِإِرَادَةِ الْمَفْعُول كَقَوْلِهِمْ: رَغْم ضَرْب السُّلْطَان أَيْ مَضْرُوبه.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَالَ بَعْض مَنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيث: (إِلَّا) هُنَا بِمَعْنَى (وَلَا) أَيْ وَلَا نَقَصَ عِلْمِي.
وَعِلْمك مِنْ عِلْم اللَّه وَلَا مِثْل مَا أَخْذ هَذَا الْعُصْفُور، لِأَنَّ عِلْم اللَّه تَعَالَى لَا يَدْخُلُهُ نَقْص.
قَالَ الْقَاضِي: وَلَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّكَلُّف، بَلْ هُوَ صَحِيح كَمَا بَيَّنَّا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
✯✯✯✯✯✯
4386- قَوْله: (كَذَبَ نَوْفٌ) هُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَب أَصْحَابنَا أَنَّ الْكَذِب هُوَ الْإِخْبَار عَنْ الشَّيْء خِلَاف مَا هُوَ عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فِي كِتَاب الْإِيمَان.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى اِنْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَة فَعُمِّيَ عَلَيْهِ» وَقَعَ فِي بَعْض الْأُصُول بِفَتْحِ الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَكَسْر الْمِيم، وَفِي بَعْضهَا بِضَمِّ الْعَيْن وَتَشْدِيد الْمِيم، وَفِي بَعْضهَا بَالِغَيْنِ الْمُعْجَمَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِثْل الْكَوَّة» بِفَتْحِ الْكَاف، وَيُقَال: بِضَمِّهَا وَهِيَ الطَّاق كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُولَى.
قَوْله: «مُسْتَلْقِيًا عَلَى حُلَاوَة الْقَفَا» هِيَ وَسَط الْقَفَا، وَمَعْنَاهُ لَمْ يَمِلْ إِلَى أَحَد جَانِبَيْهِ، وَهِيَ بِضَمِّ الْحَاء وَفَتْحهَا وَكَسْرهَا، أَفْصَحهَا الضَّمّ، وَمِمَّنْ حَكَى الْكَسْر صَاحِب نِهَايَة الْغَرِيب، وَيُقَالُ أَيْضًا (حَلَاوَة) بِالْفَتْحِ، (وَحُلَاوَى) بِالضَّمِّ وَالْقَصْر، (وَحَلْوَاء) بِالْمَدِّ.
قَوْله: (مَجِيء مَا جَاءَ بِك) قَالَ الْقَاضِي: ضَبَطْنَاهُ مَجِيء مَرْفُوع غَيْر مَنُون عَنْ بَعْضهمْ، وَعَنْ بَعْضهمْ مَنُونًا.
قَالَ: وَهُوَ أَظْهَر، أَيُّ أَمْرٍ عَظِيم جَاءَ بِك.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِنْتَحَى عَلَيْهَا» أَيْ اِعْتَمَدَ عَلَى السَّفِينَة، وَقَصَدَ خَرْقَهَا.
وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْعُلَمَاء عَلَى النَّظَر فِي الْمَصَالِح عِنْد تَعَارُض الْأُمُور، وَأَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَتْ مَفْسَدَتَانِ دُفِعَ أَعْظَمُهُمَا بِارْتِكَابِ أَخَفِّهِمَا، كَمَا خَرَقَ السَّفِينَة لِدَفْعِ غَصْبِهَا وَذَهَاب جُمْلَتهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَانْطَلَقَ إِلَى أَحَدهمْ بَادِيَ الرَّأْي فَقَتَلَهُ» بَادِئ بِالْهَمْزِ وَتَرْكه.
فَمَنْ هَمَزَهُ مَعْنَاهُ أَوَّل الرَّأْي وَابْتِدَاؤُهُ أَيْ اِنْطَلَقَ إِلَيْهِ مُسَارِعًا إِلَى قَتْله مِنْ غَيْر فِكْر.
وَمَنْ لَمْ يَهْمِز فَمَعْنَاهُ ظَهَرَ لَهُ رَأْيٌ فِي قَتْله مِنْ الْبَدْء، وَهُوَ ظُهُور رَأْي لَمْ يَكُنْ.
قَالَ الْقَاضِي وَيُمَدُّ الْبَدْء وَيُقْصَرُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحْمَة اللَّه عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى قَالَ: وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاء بَدَأَ بِنَفْسِهِ رَحْمَة اللَّه عَلَيْنَا وَعَلَى أَخِي كَذَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْنَا» قَالَ أَصْحَابنَا: فيه اِسْتِحْبَاب اِبْتِدَاء الْإِنْسَان بِنَفْسِهِ فِي الدُّعَاء وَشِبْهه مِنْ أُمُور الْأَخِرَة، وَأَمَّا حُظُوظ الدُّنْيَا فَالْأَدَب فيها الْإِيثَار وَتَقْدِيم غَيْره عَلَى نَفْسه.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الِابْتِدَاء فِي عِنْوَان الْكِتَاب، فَالصَّحِيح الَّذِي قَالَهُ كَثِيرُونَ مِنْ السَّلَف وَجَاءَ بِهِ الصَّحِيح أَنَّهُ يَبْدَأ بِنَفْسِهِ، فَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْمَكْتُوب إِلَيْهِ، فَيُقَالُ: مِنْ فُلَان إِلَى فُلَان، وَمِنْهُ حَدِيث كِتَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ مُحَمَّد عَبْد اللَّه وَرَسُوله إِلَى هِرَقْل عَظِيم الرُّوم» وَقَالَتْ طَائِفَة: يَبْدَأُ بِالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، فَيَقُول: إِلَى فُلَان مِنْ فُلَان قَالُوا: إِلَّا أَنْ يَكْتُبَ الْأَمِيرُ إِلَى مَنْ دُونه، أَوْ السَّيِّد إِلَى عَبْده، أَوْ الْوَالِد إِلَى وَلَده وَنَحْو هَذَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكِنْ أَخَذْته مِنْ صَاحِبه ذَمَامَة» هِيَ بِفَتْحِ الذَّال الْمُعْجَمَة أَيْ اِسْتِحْيَاءً لِتَكْرَارِ مُخَالَفَته، وَقِيلَ: مَلَامَة، وَالْأَوَّل هُوَ الْمَشْهُور.
قَوْله: «وَأَمَّا الْغُلَام فَطُبِعَ يَوْم طُبِعَ كَافِرًا» قَالَ الْقَاضِي: فِي هَذَا حُجَّة بَيِّنَة لِأَهْلِ السُّنَّة لِصِحَّةِ أَصْل مَذْهَبهمْ فِي الطَّبْع وَالرَّيْن وَالْأَكِنَّة وَالْأَغْشِيَة وَالْحُجُب وَالسَّدّ، وَأَشْبَاه هَذِهِ الْأَلْفَاظ الْوَارِدَة فِي الشَّرْع فِي أَفْعَال اللَّه تَعَالَى بِقُلُوبِ أَهْل الْكُفْر وَالضَّلَال، وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدهمْ خَلَقَ اللَّه تَعَالَى فيها ضِدّ الْإِيمَان، وَضِدّ الْهُدَى، وَهَذَا عَلَى أَصْل أَهْل السُّنَّة أَنَّ الْعَبْد لَا قُدْرَةَ لَهُ إِلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّه تَعَالَى، وَيَسَّرَهُ لَهُ، وَخَلَقَهُ لَهُ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّة الْقَائِلِينَ بِأَنَّ لِلْعَبْدِ فِعْلًا مِنْ قِبَلِ نَفْسه، وَقُدْرَة عَلَى الْهُدَى وَالضَّلَال، وَالْخَيْر وَالشَّرّ، وَالْإِيمَان وَالْكُفْر، وَأَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْأَلْفَاظ نِسْبَة اللَّه تَعَالَى لِأَصْحَابِهَا وَحُكْمه عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْهُمْ: مَعْنَاهَا خَلَقَهُ عَلَامَة لِذَلِكَ فِي قُلُوبهمْ.
وَالْحَقّ الَّذِي لَا شَكّ فيه أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مِنْ الْخَيْر وَالشَّرّ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْأَلُونَ وَكَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الذَّرّ: «هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وَلَا أُبَالِي» فَاَلَّذِينَ قَضَى لَهُمْ بِالنَّارِ طَبَعَ عَلَى قُلُوبهمْ، وَخَتَمَ عَلَيْهَا، وَغَشَّاهَا، وَأَكَنَّهَا، وَجَعَلَ مِنْ بَيْن أَيْدِيهَا سَدًّا، وَمِنْ خَلْفهَا سَدًّا وَحِجَابًا مَسْتُورًا، وَجَعَلَ فِي آذَانهمْ وَقْرًا، وَفِي قُلُوبهمْ مَرَضًا لِتَتِمّ سَابِقَته فيهمْ، وَتَمْضِي كَلِمَته، لَا رَادّ لِحُكْمِهِ، وَلَا مُعَقِّب لِأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ.
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق.
وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيث مَنْ يَقُول: أَطْفَال الْكُفَّار فِي النَّار، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذِهِ الْمَسْأَلَة، وَأَنَّ فيهمْ ثَلَاثَة مَذَاهِب: الصَّحِيح أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّة، وَالثَّانِي فِي النَّار، وَالثَّالِث يَتَوَقَّف عَنْ الْكَلَام فيهمْ، فَلَا يَحْكُم لَهُمْ بِشَيْءٍ، وَتَقَدَّمَتْ دَلَائِل الْجَمِيع.
وَلِلْقَائِلَيْنِ بِالْجَنَّةِ أَنْ يَقُولُوا فِي جَوَاب هَذَا الْحَدِيث مَعْنَاهُ عَلِمَ اللَّه لَوْ بَلَغَ لَكَانَ كَافِرًا.
قَوْله: «وَكَانَ أَبَوَاهُ قَدْ عَطَفَا عَلَيْهِ فَلَوْ أَدْرَكَ أَرْهَقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا» أَيْ حَمَلَهُمَا عَلَيْهِمَا، وَأَلْحَقَهُمَا بِهِمَا.
وَالْمُرَاد بِالطُّغْيَانِ هُنَا الزِّيَادَة فِي الضَّلَال.
وَهَذَا الْحَدِيث مِنْ دَلَائِل مَذْهَب أَهْل الْحَقّ فِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَعْلَم بِمَا كَانَ، وَبِمَا يَكُون، وَبِمَا لَا يَكُون لَوْ كَانَ كَيْف كَانَ يَكُون.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} وَقَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْك كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْآيَة وَقَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ} وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْآيَات قَوْله تَعَالَى: {خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} قِيلَ: الْمُرَاد بِالزَّكَاةِ الْإِسْلَام، وَقِيلَ: الصَّلَاح.
وَأَمَّا الرُّحْم فَقِيلَ: مَعْنَاهُ الرَّحْمَة لِوَالِدَيْهِ وَبِرِّهِمَا، وَقِيلَ: الْمُرَاد يَرْحَمَانِهِ.
قِيلَ: أَبْدَلَهُمَا اللَّه بِنْتًا صَالِحَة، وَقِيلَ: اِبْنًا حَكَاهُ الْقَاضِي.
✯✯✯✯✯✯
4388- قَوْله: (تَمَارَى هُوَ وَالْحُرّ بْن قَيْس) أَيْ تَنَازَعَا وَتَجَادَلَا.
وَالْحُرّ بِالْحَاءِ وَالرَّاء.
وَفِي هَذِهِ الْقِصَّة أَنْوَاع مِنْ الْقَوَاعِد وَالْأُصُول وَالْفُرُوع وَالْآدَاب وَالنَّفَائِس الْمُهِمَّة سَبَقَ التَّنْبِيه عَلَى مُعْظَمهَا، سِوَى مَا هُوَ ظَاهِر مِنْهَا، وَمِمَّا لَمْ يَسْبِقْ أَنَّهُ لَا بَأْس عَلَى الْعَالِم وَالْفَاضِل أَنْ يَخْدُمَهُ الْمَفْضُول وَيَقْضِيَ لَهُ حَاجَة، وَلَا يَكُون هَذَا مِنْ أَخْذ الْعِوَض عَلَى تَعْلِيم الْعِلْم وَالْآدَاب، بَلْ مِنْ مَرُوءَات الْأَصْحَاب، وَحُسْن الْعِشْرَة، وَدَلِيله مِنْ هَذِهِ الْقِصَّة حَمْل فَتَاهُ غَدَاءَهُمَا، وَحَمْل أَصْحَاب السَّفِينَة مُوسَى وَالْخَضِر بِغَيْرِ أُجْرَة لِمَعْرِفَتِهِمْ الْخَضِر بِالصَّلَاحِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا الْحَثّ عَلَى التَّوَاضُع فِي عِلْمه وَغَيْره، وَأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَنَّهُ أَعْلَم النَّاس، وَأَنَّهُ إِذَا سُئِلَ عَنْ أَعْلَم النَّاس يَقُولُ: اللَّه أَعْلَم.
وَمِنْهَا بَيَان أَصْل عَظِيم مِنْ أُصُول الْإِسْلَام، وَهُوَ وُجُوب التَّسْلِيم لِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْع، وَإِنْ كَانَ بَع
باب من فضائل الخضر عليه السلام
باب من فضائل الخضر عليه السلام