باب بيان قدر ثواب من غزا فغنم ومن لم يغنم
باب بيان قدر ثواب من غزا فغنم ومن لم يغنم
3528- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ غَازِيَة تَغْزُو فِي سَبِيل اللَّه فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَة إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرهمْ مِنْ الْآخِرَة، وَيَبْقَى لَهُمْ الثُّلُث، وَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَة تَمَّ لَهُمْ أَجْرهمْ» وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «مَا مِنْ غَازِيَة أَوْ سَرِيَّة تَغْزُو فَتَغْنَم وَتَسْلَم إِلَّا كَانُوا قَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أُجُورهمْ وَمَا مِنْ غَازِيَة أَوْ سَرِيَّة تُخْفِق وَتُصَاب إِلَّا تَمَّ أُجُورهمْ» قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْإِخْفَاق: أَنْ يَغْزُوَا فَلَا يَغْنَمُوا شَيْئًا، وَكَذَلِكَ كُلّ طَالِب حَاجَة إِذَا لَمْ تَحْصُل فَقَدْ أَخْفَقَ، وَمِنْهُ: أَخْفَقَ الصَّائِد، إِذَا لَمْ يَقَع لَهُ صَيْد.
وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيث: فَالصَّوَاب الَّذِي لَا يَجُوز غَيْره، أَنَّ الْغُزَاة إِذَا سَلِمُوا أَوْ غَنِمُوا يَكُون أَجْرهمْ أَقَلّ مِنْ أَجْر مَنْ لَمْ يَسْلَم، أَوْ سَلِمَ وَلَمْ يَغْنَم، وَأَنَّ الْغَنِيمَة هِيَ فِي مُقَابَلَة جُزْء مِنْ أَجْر غَزْوهمْ، فَإِذَا حَصَلَتْ لَهُمْ فَقَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرهمْ الْمُتَرَتَّب عَلَى الْغَزْو، وَتَكُون هَذِهِ الْغَنِيمَة مِنْ جُمْلَة الْأَجْر، وَهَذَا مُوَافِق لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة عَنْ الصَّحَابَة كَقَوْلِهِ: «مِنَّا مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَأْكُل مِنْ أَجْره شَيْئًا وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَته فَهُوَ يَهْدُبُهَا» أَيْ: يَجْتَنِيهَا، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الصَّوَاب، وَهُوَ ظَاهِر الْحَدِيث، وَلَمْ يَأْتِ حَدِيث صَرِيح صَحِيح يُخَالِف هَذَا، فَتَعَيَّنَ حَمْله عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ اِخْتَارَ الْقَاضِي عِيَاض مَعْنَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بَعْد حِكَايَته فِي تَفْسِيره أَقْوَالًا فَاسِدَة؛ مِنْهَا: قَوْل: مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَا يَجُوز أَنْ يَنْقُص ثَوَابهمْ بِالْغَنِيمَةِ، كَمَا لَمْ يَنْقُص ثَوَاب أَهْل بَدْر وَهُمْ أَفْضَل الْمُجَاهِدِينَ، وَهِيَ أَفْضَل غَنِيمَة، قَالَ: وَزَعَمَ بَعْض هَؤُلَاءِ أَنَّ أَبَا هَانِئ حُمَيْدَ بْن هَانِئ رَاوِيه مَجْهُول، وَرَجَّحُوا الْحَدِيث السَّابِق، فِي أَنَّ الْمُجَاهِد يَرْجِع بِمَا نَالَ مِنْ أَجْر وَغَنِيمَة، فَرَجَّحُوهُ عَلَى هَذَا الْحَدِيث لِشُهْرَتِهِ وَشُهْرَة رِجَاله، وَلِأَنَّهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهَذَا فِي مُسْلِم خَاصَّة، وَهَذَا الْقَوْل بَاطِل مِنْ أَوْجُه، فَإِنَّهُ لَا تَعَارُض بَيْنه وَبَيْن هَذَا الْحَدِيث الْمَذْكُور، فَإِنَّ الَّذِي فِي الْحَدِيث السَّابِق رُجُوعه بِمَا نَالَ مِنْ أَجْر وَغَنِيمَة، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ الْغَنِيمَة تُنْقِص الْأَجْر أَمْ لَا وَلَا قَالَ: أَجْره كَأَجْرِ مَنْ لَمْ يَغْنَم، فَهُوَ مُطْلَق، وَهَذَا مُقَيَّد، فَوَجَبَ حَمْله عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلهمْ: أَبُو هَانِئ مَجْهُول؛ فَغَلَط فَاحِش، بَلْ هُوَ ثِقَة مَشْهُور، رَوَى عَنْهُ اللَّيْث بْن سَعْد وَحَيْوَة وَابْن وَهْب وَخَلَائِق مِنْ الْأَئِمَّة، وَيَكْفِي فِي تَوْثِيقه اِحْتِجَاج مُسْلِم بِهِ فِي صَحِيحه.
وَأَمَّا قَوْلهمْ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَلَيْسَ لَازِمًا فِي صِحَّة الْحَدِيث كَوْنه فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا فِي أَحَدهمَا.
وَأَمَّا قَوْلهمْ: فِي غَنِيمَة بَدْر، فَلَيْسَ فِي غَنِيمَة بَدْر نَصّ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَغْنَمُوا لَكَانَ أَجْرهمْ عَلَى قَدْر أَجْرهمْ، وَقَدْ غَنِمُوا فَقَطْ، وَكَوْنهمْ مَغْفُورًا لَهُمْ، مَرَضِيًّا عَنْهُمْ، وَمِنْ أَهْل الْجَنَّة، لَا يَلْزَم أَلَّا تَكُون وَرَاء هَذَا مَرْتَبَة أُخْرَى هِيَ أَفْضَل مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ شَدِيد الْفَضْل عَظِيم الْقَدْر.
وَمِنْ الْأَقْوَال الْبَاطِلَة مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ قَالَ: لَعَلَّ الَّذِي تَعَجَّلَ ثُلُثَيْ أَجْره إِنَّمَا هُوَ فِي غَنِيمَة أُخِذَتْ عَلَى غَيْر وَجْههَا، وَهَذَا غَلَط فَاحِش، إِذْ لَوْ كَانَتْ عَلَى خِلَاف وَجْههَا لَمْ يَكُنْ ثُلُث الْأَجْر، وَزَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّ الْمُرَاد أَنَّ الَّتِي أَخْفَقَتْ يَكُون لَهَا أَجْر بِالْأَسَفِ عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ الْغَنِيمَة، فَيُضَاعَف ثَوَابهَا كَمَا يُضَاعَف لِمَنْ أُصِيب فِي مَاله وَأَهْله، وَهَذَا الْقَوْل فَاسِد مُبَايِن لِصَرِيحِ الْحَدِيث، وَزَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّ الْحَدِيث مَحْمُول عَلَى مَنْ خَرَجَ بِنِيَّةِ الْغَزْو وَالْغَنِيمَة مَعًا فَنَقَصَ ثَوَابه، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيف.
وَالصَّوَاب مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
3529- سبق شرحه بالباببَاب قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ وَأَنَّهُ يَدْخُل فيه الْغَزْو وَغَيْره مِنْ الْأَعْمَال:قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ» الْحَدِيث.
أَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِظَم مَوْقِع هَذَا الْحَدِيث، وَكَثْرَة فَوَائِده وَصِحَّته، قَالَ الشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ: هُوَ ثُلُث الْإِسْلَام، وَقَالَ الشَّافِعِيّ: يَدْخُل فِي سَبْعِينَ بَابًا مِنْ الْفِقْه، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ رُبْع الْإِسْلَام، وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ وَغَيْره: يَنْبَغِي لِمَنْ صَنَّفَ كِتَابًا أَنْ يَبْدَأ فيه بِهَذَا الْحَدِيث تَنْبِيهًا لِلطَّالِبِ عَلَى تَصْحِيح النِّيَّة.
وَنَقَلَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا عَنْ الْأَئِمَّة مُطْلَقًا، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ الْبُخَارِيّ وَغَيْره، فَابْتَدَءُوا بِهِ قَبْل كُلّ شَيْء، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي سَبْعَة مَوَاضِع مِنْ كِتَابه، قَالَ الْحُفَّاظ: وَلَمْ يَصِحّ هَذَا الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ رِوَايَة عُمَر بْن الْخَطَّاب، وَلَا عَنْ عُمَر إِلَّا مِنْ رِوَايَة عَلْقَمَة بْن وَقَّاص، وَلَا عَنْ عَلْقَمَة إِلَّا مِنْ رِوَايَة مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيِّ، وَلَا عَنْ مُحَمَّد إِلَّا مِنْ رِوَايَة يَحْيَى بْن سَعِيد الْأَنْصَارِيّ، وَعَنْ يَحْيَى اِنْتَشَرَ فَرَوَاهُ عَنْهُ أَكْثَر مِنْ مِائَتَيْ إِنْسَان أَكْثَرهمْ أَئِمَّة، وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّة: لَيْسَ هُوَ مُتَوَاتِرًا، وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا عِنْد الْخَاصَّة وَالْعَامَّة؛ لِأَنَّهُ فَقَدَ شَرْط التَّوَاتُر فِي أَوَّله.
وَفيه: طُرْفَة مِنْ طُرَف الْإِسْنَاد، فَإِنَّهُ رَوَاهُ ثَلَاثَة تَابِعِيُّونَ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض، يَحْيَى وَمُحَمَّد وَعَلْقَمَة، قَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ أَهْل الْعَرَبِيَّة وَالْأُصُول وَغَيْرهمْ: لَفْظَة (إِنَّمَا) مَوْضُوعَة لِلْحَصْرِ، تُثْبِت الْمَذْكُور، وَتَنْفِي مَا سِوَاهُ.
فَتَقْدِير هَذَا الْحَدِيث: إِنَّ الْأَعْمَال تُحْسَب بِنِيَّةٍ، وَلَا تُحْسَب إِذَا كَانَتْ بِلَا نِيَّة.
وَفيه: دَلِيل عَلَى أَنَّ الطَّهَارَة وَهِيَ الْوُضُوء وَالْغُسْل وَالتَّيَمُّم لَا تَصِحّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحَجّ وَالِاعْتِكَاف وَسَائِر الْعِبَادَات.
وَأَمَّا إِزَالَة النَّجَاسَة فَالْمَشْهُور عِنْدنَا أَنَّهَا لَا تَفْتَقِر إِلَى نِيَّة؛ لِأَنَّهَا مِنْ بَاب وَتَدْخُل النِّيَّة فِي الطَّلَاق وَالْعَتَاق وَالْقَذْف، وَمَعْنَى دُخُولهَا أَنَّهَا إِذَا قَارَنَتْ كِنَايَة صَارَتْ كَالصَّرِيحِ، وَإِنْ أَتَى بِصَرِيحِ طَلَاق وَنَوَى طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاث وَقَعَ مَا نَوَى، وَإِنْ نَوَى بِصَرِيحٍ غَيْر مُقْتَضَاهُ دِينَ فِيمَا بَيْنه وَبَيْن اللَّه تَعَالَى، وَلَا يُقْبَل مِنْهُ فِي الظَّاهِر.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى» قَالُوا: فَائِدَة ذِكْره بَعْد إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ، بَيَان أَنَّ تَعْيِين الْمَنَوِيّ شَرْط، فَلَوْ كَانَ عَلَى إِنْسَان صَلَاة مَقْضِيَّة لَا يَكْفيه أَنْ يَنْوِي الصَّلَاة الْفَائِتَة، بَلْ يُشْتَرَط أَنْ يَنْوِي كَوْنهَا ظُهْرًا أَوْ غَيْرهَا، وَلَوْلَا اللَّفْظ الثَّانِي لَاقْتَضَى الْأَوَّل صِحَّة النِّيَّة بِلَا تَعْيِين أَوْ أَوْهَمَ ذَلِكَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ كَانَ هِجْرَته إِلَى اللَّه وَرَسُوله فَهِجْرَته إِلَى اللَّه وَرَسُوله» مَعْنَاهُ: مَنْ قَصَدَ بِهِجْرَتِهِ وَجْه اللَّه وَقَعَ أَجْره عَلَى اللَّه، وَمَنْ قَصَدَ بِهَا دُنْيَا أَوْ اِمْرَأَة فَهِيَ حَظّه وَلَا نَصِيب لَهُ فِي الْآخِرَة بِسَبَبِ هَذِهِ الْهِجْرَة، وَأَصْل الْهِجْرَة التَّرْك، وَالْمُرَاد هُنَا تَرْك الْوَطَن.
وَذِكْر الْمَرْأَة مَعَ الدُّنْيَا يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّهُ جَاءَ أَنَّ سَبَب هَذَا الْحَدِيث أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ لِيَتَزَوَّج اِمْرَأَة يُقَال: لَهَا أُمّ قَيْس، فَقِيلَ لَهُ: مُهَاجِر أُمّ قَيْس.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى زِيَادَة التَّحْذِير مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ بَاب ذِكْر الْخَاصّ بَعْد الْعَامّ تَنْبِيهًا عَلَى مَزِيَّته.
وَاللَّهُ أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
3530- سبق شرحه بالباب.
باب بيان قدر ثواب من غزا فغنم ومن لم يغنم
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب الإمارة ﴿ 41 ﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞