باب الميت يعذب ببكاء اهله عليه
باب الميت يعذب ببكاء اهله عليه
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَيِّت لَيُعَذِّب بِبُكَاءِ أَهْله عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَة: «بِبَعْضِ بُكَاء أَهْله عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَة: «بِبُكَاءِ الْحَيّ» وَفِي رِوَايَة: «يُعَذَّب فِي قَبْره بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَة: «مَنْ يَبْكِ عَلَيْهِ يُعَذَّب» وَهَذِهِ الرِّوَايَات مِنْ رِوَايَة عُمَر بْن الْخَطَّاب وَابْنه عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وَأَنْكَرَتْ عَائِشَة وَنَسَبَتْهَا إِلَى النِّسْيَان وَالِاشْتِبَاه عَلَيْهِمَا، وَأَنْكَرَتْ أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّتْ بِقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قَالَتْ: وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَهُودِيَّة أَنَّهَا تُعَذَّب وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهَا يَعْنِي تُعَذَّب بِكُفْرِهَا فِي حَال بُكَاء أَهْلهَا لَا بِسَبَبِ الْبُكَاء وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث فَتَأَوَّلَهَا الْجُمْهُور عَلَى مَنْ وَصَّى بِأَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ وَيُنَاح بَعْد مَوْته فَنُفِّذَتْ وَصِيَّته، فَهَذَا يُعَذَّب بِبُكَاءِ أَهْله عَلَيْهِ وَنَوْحهمْ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبِهِ وَمَنْسُوب إِلَيْهِ.
قَالُوا فَأَمَّا مَنْ بَكَى عَلَيْهِ أَهْله وَنَاحُوا مِنْ غَيْر وَصِيَّة مِنْهُ فَلَا يُعَذَّب لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قَالُوا: وَكَانَ مِنْ عَادَة الْعَرَب الْوَصِيَّة بِذَلِكَ وَمِنْهُ قَوْل طَرَفَةَ بْن الْعَبْد: إِذَا مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْله وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْب يَا اِبْنَة مَعْبَد.
قَالُوا: فَخَرَجَ الْحَدِيث مُطْلَقًا حَمْلًا عَلَى مَا كَانَ مُعْتَادًا لَهُمْ.
وَقَالَتْ طَائِفَة: هُوَ مَحْمُول عَلَى مَنْ أَوْصَى بِالْبُكَاءِ وَالنَّوْح أَوْ لَمْ يُوصِ بِتَرْكِهِمَا.
فَمَنْ أَوْصَى بِهِمَا أَوْ أَهْمَلَ الْوَصِيَّة بِتَرْكِهِمَا يُعَذَّب بِهِمَا لِتَفْرِيطِهِ بِإِهْمَالِ الْوَصِيَّة بِتَرْكِهِمَا فَأَمَّا مَنْ وَصَّى بِتَرْكِهِمَا فَلَا يُعَذَّب بِهِمَا إِذْ لَا صُنْع لَهُ فيهمَا وَلَا تَفْرِيط مِنْهُ.
وَحَاصِل هَذَا الْقَوْل إِيجَاب الْوَصِيَّة بِتَرْكِهِمَا، وَمَنْ أَهْمَلَهُمَا عُذِّبَ بِهِمَا.
وَقَالَتْ طَائِفَة: مَعْنَى الْأَحَادِيث أَنَّهُمْ كَانُوا يَنُوحُونَ عَلَى الْمَيِّت وَيَنْدُبُونَهُ بِتَعْدِيدِ شَمَائِله وَمَحَاسِنه فِي زَعْمهمْ، وَتِلْكَ الشَّمَائِل قَبَائِح فِي الشَّرْع يُعَذَّب بِهَا كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ: يَا مُؤَيِّد النِّسْوَانِ، وَمُؤْتِمّ الْوِلْدَان وَمُخَرِّب الْعُمْرَانِ وَمُفَرِّق الْأَخْدَان، وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا يَرَوْنَهُ شَجَاعَة وَفَخْرًا وَهُوَ حَرَام شَرْعًا.
وَقَالَتْ طَائِفَة: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُعَذَّب بِسَمَاعِهِ بُكَاء أَهْله وَيَرِقّ لَهُمْ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيُّ وَغَيْره.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَهُوَ أَوْلَى الْأَقْوَال، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثٍ فيه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَرَ اِمْرَأَة عَنْ الْبُكَاء عَلَى أَبِيهَا وَقَالَ: «إِنَّ أَحَدكُمْ إِذَا بَكَى اِسْتَعْبَرَ لَهُ صُوَيْحِبه فَيَا عِبَاد اللَّه لَا تُعَذِّبُوا إِخْوَانكُمْ» وَقَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الْكَافِر أَوْ غَيْره مِنْ أَصْحَاب الذُّنُوب يُعَذَّب فِي حَال بُكَاء أَهْله عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ لَا بِبُكَائِهِمْ وَالصَّحِيح مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَال مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْجُمْهُور وَأَجْمَعُوا كُلّهمْ عَلَى اِخْتِلَاف مَذَاهِبهمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْبُكَاءِ هُنَا الْبُكَاء بِصَوْتٍ وَنِيَاحَة لَا مُجَرَّد دَمْع الْعَيْن.
✯✯✯✯✯✯
1536- سبق شرحه بالباب.
✯✯✯✯✯✯
1537- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث مُحَمَّد بْن بَشَّار: «يُعَذَّب فِي قَبْره بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» و«مَا نِيحَ عَلَيْهِ» بِإِثْبَاتِ الْبَاء وَحَذْفهَا وَهُمَا صَحِيحَانِ وَفِي رِوَايَة بِإِثْبَاتِ: «فِي قَبْره» وَفِي رِوَايَة بِحَذْفِهِ.
✯✯✯✯✯✯
1538- سبق شرحه بالباب.
✯✯✯✯✯✯
1541- قَوْله: «فَقَامَ بِحِيَالِهِ يَبْكِي» أَيْ حِذَاءَهُ وَعِنْده.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ يُعَذَّب» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول: «يَبْكِي» بِالْيَاءِ وَهُوَ صَحِيح وَيَكُون (مَنْ) بِمَعْنَى الَّذِي وَيَجُوز عَلَى لُغَة أَنْ تَكُون شَرْطِيَّة وَتَثْبِيت الْيَاء وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر:أَلَمْ يَأْتِيك وَالْأَنْبَاء تُنْمِيقَوْله: (فَذَكَرْت ذَلِكَ لِمُوسَى بْن طَلْحَة) الْقَائِل فَذَكَرْت ذَلِكَ هُوَ عَبْد الْمَلِك بْن عُمَيْر.
✯✯✯✯✯✯
1542- قَوْله: «عَوَّلَتْ عَلَيْهِ حَفْصَةُ فَقَالَ: يَا حَفْصَة أَمَا سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول الْمُعَوَّل عَلَيْهِ يُعَذَّب» قَالَ مُحَقِّقُو أَهْل اللُّغَة: يُقَال عَوَّلَ عَلَيْهِ وَأَعْوَلَ لُغَتَانِ، وَهُوَ الْبُكَاء بِصَوْتٍ.
وَقَالَ بَعْضهمْ: لَا يُقَال إِلَّا أَعْوَلَ، وَهَذَا الْحَدِيث يَرُدّ عَلَيْهِ.
✯✯✯✯✯✯
1543- قَوْله: «عَنْ عَائِشَة فَقَالَتْ: لَا وَاَللَّه مَا قَالَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ إِنَّ الْمَيِّت يُعَذَّب بِبُكَاءِ أَحَد» فِي هَذِهِ جَوَاز الْحَلِف بِغَلَبَةِ الظَّنّ بِقَرَائِن وَإِنْ لَمْ يَقْطَع الْإِنْسَان، وَهَذَا مَذْهَبنَا، وَمِنْ هَذَا قَالُوا لَهُ الْحَلِف بِدَيْنٍ رَآهُ بِخَطِّ أَبِيهِ الْمَيِّت عَلَى فُلَان إِذَا ظَنَّهُ فَإِنْ قِيلَ فَلَعَلَّ عَائِشَة لَمْ تَحْلِف عَلَى ظَنٍّ بَلْ عَلَى عِلْم وَتَكُون سَمِعَتْهُ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِر أَجْزَاء حَيَاته قُلْنَا: هَذَا بَعِيد مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدهمَا: أَنَّ عُمَر وَابْن عُمَر سَمِعَاهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: فَيُعَذَّب بِبُكَاءِ أَهْله وَالثَّانِي لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاحْتَجَّتْ بِهِ عَائِشَة وَقَالَتْ سَمِعَتْهُ فِي آخِر حَيَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تَحْتَجْ بِهِ إِنَّمَا اِحْتَجَّتْ بِالْآيَةِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
1547- قَوْلهَا: (وَهِلَ) هُوَ بِفَتْحِ الْوَاو وَكَسْر الْهَاء وَفَتْحهَا أَيْ غَلِطَ وَنَسِيَ.
وَأَمَّا قَوْلهَا فِي إِنْكَارهَا سَمَاع الْمَوْتَى فَسَيَأْتِي بَسْط الْكَلَام فيه فِي آخِر الْكِتَاب حَيْثُ ذَكَرَ مُسْلِم أَحَادِيثه.
باب الميت يعذب ببكاء اهله عليه
باب الميت يعذب ببكاء اهله عليه
باب الميت يعذب ببكاء اهله عليه