باب المدينة تنفي شرارها
باب المدينة تنفي شرارها
2451- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي الْمَدِينَة: «إِنَّهَا تَنْفِي خَبَثهَا وَشِرَارهَا كَمَا يَنْفِي الْكِير خَبَث الْحَدِيد» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «كَمَا تَنْفِي النَّار خَبَث الْفِضَّة» قَالَ الْعُلَمَاء: خَبَث الْحَدِيد وَالْفِضَّة هُوَ وَسَخهمَا وَقَذَرهمَا الَّذِي تُخْرِجهُ النَّار مِنْهُمَا.
قَالَ الْقَاضِي: الْأَظْهَر أَنَّ هَذَا مُخْتَصّ بِزَمَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَصْبِر عَلَى الْهِجْرَة وَالْمَقَام مَعَهُ إِلَّا مَنْ ثَبَتَ إِيمَانه، وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ وَجَهَلَة الْأَعْرَاب فَلَا يَصْبِرُونَ عَلَى شِدَّة الْمَدِينَة، وَلَا يَحْتَسِبُونَ الْأَجْر فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيّ الَّذِي أَصَابَهُ الْوَعَك: أَقِلْنِي بَيْعَتِي.
هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَهَذَا الَّذِي اِدَّعَى أَنَّهُ الْأَظْهَر لَيْسَ بِالْأَظْهَرِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيث الْأَوَّل فِي صَحِيح مُسْلِم أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَقُوم السَّاعَة حَتَّى تَنْفِي الْمَدِينَة شِرَارهَا كَمَا يَنْفِي الْكِير خَبَث الْحَدِيد» وَهَذَا وَاَللَّه أَعْلَم فِي زَمَن الدَّجَّال، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي أَوَاخِر الْكِتَاب فِي أَحَادِيث الدَّجَّال: «أَنَّهُ يَقْصِد الْمَدِينَة فَتَرْجُف الْمَدِينَة ثَلَاث رَجَفَات يُخْرِج اللَّه بِهَا مِنْهَا كُلّ كَافِر وَمُنَافِق» فَيَحْتَمِل أَنَّهُ مُخْتَصّ بِزَمَنِ الدَّجَّال، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ فِي أَزْمَان مُتَفَرِّقَة وَاَللَّه أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
2452- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْت بَقَرْيَةٍ تَأْكُل الْقُرَى» مَعْنَاهُ أُمِرْت بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا وَاسْتِيطَانهَا، وَذَكَرُوا فِي مَعْنَى (أَكْلهَا الْقُرَى) وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّهَا مَرْكَز جُيُوش الْإِسْلَام فِي أَوَّل الْأَمْر، فَمِنْهَا فُتِحَتْ الْقُرَى وَغُنِمَتْ أَمْوَالهَا وَسَبَايَاهَا.
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ: أَنَّ أَكْلهَا وَمِيرَتهَا تَكُون مِنْ الْقُرَى الْمُفْتَتِحَة، وَإِلَيْهَا تُسَاق غَنَائِمهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُونَ يَثْرِب وَهِيَ الْمَدِينَة» يَعْنِي أَنَّ بَعْض النَّاس مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرهمْ يُسَمُّونَهَا (يَثْرِب) وَإِنَّمَا اِسْمهَا (الْمَدِينَة) و(طَابَة) و(طَيْبَة) فَفِي هَذَا كَرَاهَة تَسْمِيَتهَا (يَثْرِب)، وَقَدْ جَاءَ فِي مُسْنَد أَحْمَد بْن حَنْبَل حَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَرَاهَة تَسْمِيَتهَا (يَثْرِب)، وَحُكِيَ عَنْ عِيسَى بْن دِينَار أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَمَّاهَا (يَثْرِب) كُتِبَتْ عَلَيْهِ خَطِيئَة، قَالُوا: وَسَبَب كَرَاهَة تَسْمِيَتهَا (يَثْرِب) لَفْظ (التَّثْرِيب) الَّذِي هُوَ التَّوْبِيخ وَالْمَلَامَة، وَسُمِّيَتْ (طَيْبَة وَطَابَة) لِحُسْنِ لَفْظهمَا، وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبّ الِاسْم الْحَسَن، وَيَكْرَه الِاسْم الْقَبِيح، وَأَمَّا تَسْمِيَتهَا فِي الْقُرْآن (يَثْرِب) فَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَة عَنْ قَوْل الْمُنَافِقِينَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ مَرَض، قَالَ الْعُلَمَاء: وَلِمَدِينَةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَاء (الْمَدِينَة) قَالَ اللَّه تَعَالَى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَة} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْل الْمَدِينَة}.
وَطَابَة وَطَيْبَة.
وَالدَّار.
فَأَمَّا (الدَّار) فَلِأَمْنِهَا وَالِاسْتِقْرَار بِهَا، وَأَمَّا (طَابَة وَطَيْبَة) فَمِنْ الطِّيب وَهُوَ الرَّائِحَة الْحَسَنَة، وَالطَّاب وَالطِّيب لُغَتَانِ، وَقِيلَ: مِنْ الطَّيِّب- بِفَتْحِ الطَّاء وَتَشْدِيد الْيَاء- وَهُوَ الطَّاهِر، لِخُلُوصِهَا مِنْ الشِّرْك، وَطَهَارَتهَا، وَقِيلَ: مِنْ طِيب الْعَيْش بِهَا، وَأَمَّا (الْمَدِينَة) فَفيها قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعَرَبِيَّة أَحَدهمَا وَبِهِ جَزَمَ قُطْرُب وَابْن فَارِس وَغَيْرهمَا: أَنَّهَا مُشْتَقَّة مِنْ (دَانَ) إِذَا أَطَاعَ، وَالدِّين الطَّاعَة.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُشْتَقَّة مِنْ (مَدَن) بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ، وَجَمْع الْمَدِينَة: مُدُن وَمُدْن بِإِسْكَانِ الدَّال وَضَمّهَا، وَمَدَائِن بِالْهَمْزِ وَتَرْكه وَالْهَمْز أَفْصَح، بِهِ جَاءَ الْقُرْآن الْعَزِيز.
وَاَللَّه أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
2453- قَوْله: «أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيّ وَعَك بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّد أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيّ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْمَدِينَة كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثهَا»، قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا لَمْ يُقِلْهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَته لِأَنَّهُ لَا يَجُوز لِمَنْ أَسْلَمَ أَنْ يَتْرُك الْإِسْلَام، وَلَا لِمَنْ هَاجَرَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَقَامِ عِنْده أَنْ يَتْرُك الْهِجْرَة وَيَذْهَب إِلَى وَطَنه أَوْ غَيْره، قَالُوا: وَهَذَا الْأَعْرَابِيّ كَانَ مِمَّنْ هَاجَرَ وَبَايَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَقَام مَعَهُ، قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِل أَنَّ بَيْعَة هَذَا الْأَعْرَابِيّ كَانَتْ بَعْد فَتْح مَكَّة وَسُقُوط الْهِجْرَة إِلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا بَايَعَ عَلَى الْإِسْلَام، وَطَلَب الْإِقَالَة مِنْهُ فَلَمْ يُقِلْهُ، وَالصَّحِيح الْأَوَّل.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيّ وَعَك» هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَهُوَ مَغْث الْحُمَّى وَأَلَمُهَا، وَوَعَك كُلّ شَيْء مُعْظَمه وَشِدَّته.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْمَدِينَة كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثهَا وَيَنْصَع طِيبهَا» هُوَ بِفَتْحِ الْيَاء وَالصَّاد الْمُهْمَلَة، أَيْ: يَصْفُو وَيَخْلُص وَيَتَمَيَّز، وَالنَّاصِع: الصَّافِي الْخَالِص، وَمِنْهُ قَوْلهمْ: نَاصِع اللَّوْن، أَيْ: صَافيه وَخَالِصه، وَمَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّهُ يَخْرُج مِنْ الْمَدِينَة مَنْ لَمْ يَخْلُص إِيمَانه، وَيَبْقَى فيها مَنْ خَلَصَ إِيمَانه، قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال نَصَعَ الشَّيْء يَنْصَع بِفَتْحِ الصَّاد فيهمَا نُصُوعًا إِذَا خَلَصَ وَوَضَح، وَالنَّاصِع: الْخَالِص مِنْ كُلّ شَيْء.
✯✯✯✯✯✯
2455- قَوْله (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَة بْن سَعِيد وَهَنَّاد بْن السَّرِيّ وَأَبُو كُرَيْب وَأَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة) هَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ، وَوَقَعَ فِي أَكْثَرهَا بِحَذْفِ ذِكْر (أَبِي كُرَيْب).
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه سَمَّى الْمَدِينَة طَابَة» هَذَا فيه اِسْتِحْبَاب تَسْمِيَتهَا (طَابَة) وَلَيْسَ فيه (أَنَّهَا لَا تُسَمَّى بِغَيْرِهِ) فَقَدْ سَمَّاهَا اللَّه تَعَالَى الْمَدِينَة فِي مَوَاضِع مِنْ الْقُرْآن، وَسَمَّاهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَيْبَة» فِي الْحَدِيث الَّذِي قَبْل هَذَا مِنْ هَذَا الْبَاب، وَقَدْ سَبَقَ إِيضَاح الْجَمِيع فِي هَذَا الْبَاب.
وَاَللَّه أَعْلَم.
باب المدينة تنفي شرارها