باب كراهية الشرب قايما
باب كراهية الشرب قايما
3771- حَدِيث قَتَادَة: «عَنْ أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَرَ عَنْ الشُّرْب قَائِمًا»، وَفِي رِوَايَة: «نَهَى عَنْ الشُّرْب قَائِمًا قَالَ قَتَادَة: فَالْأَكْل؟ قَالَ: أَشَرّ أَوْ أَخْبَث»، وَفِي رِوَايَة: عَنْ قَتَادَة عَنْ أَبِي عِيسَى الْأَسْوَارِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَرَ عَنْ الشُّرْب قَائِمًا»، وَفِي رِوَايَة عَنْهُمْ: «نَهَى عَنْ الشُّرْب قَائِمًا»، وَفِي رِوَايَة: عَنْ عُمَر بْن حَمْزَة قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو غَطَفَان الْمُرِّيّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدكُمْ قَائِمًا فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِيء» وَعَنْ اِبْن عَبَّاس: «سَقَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَمْزَم فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِم»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ مِنْ زَمْزَم وَهُوَ قَائِم» وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ: «أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ شَرِبَ قَائِمًا وَقَالَ: رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْت».
اِعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيث أَشْكَلَ مَعْنَاهَا عَلَى بَعْض الْعُلَمَاء حَتَّى قَالَ فيها أَقْوَالًا بَاطِلَة، وَزَادَ حَتَّى تَجَاسَرَ وَرَامَ أَنْ يُضَعِّف بَعْضهَا، وَادَّعَى فيها دَعَاوِي بَاطِلَة لَا غَرَض لَنَا فِي ذِكْرهَا، وَلَا وَجْه لِإِشَاعَةِ الْأَبَاطِيل وَالْغَلَطَات فِي تَفْسِير السُّنَن، بَلْ نَذْكُر الصَّوَاب، وَيُشَار إِلَى التَّحْذِير مِنْ الِاغْتِرَار بِمَا خَالَفَهُ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث بِحَمْدِ اللَّه تَعَالَى إِشْكَال، وَلَا فيها ضَعْف، بَلْ كُلّهَا صَحِيحَة، وَالصَّوَاب فيها أَنَّ النَّهْي فيها مَحْمُول عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه.
وَأَمَّا شُرْبه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا فَبَيَان لِلْجَوَازِ، فَلَا إِشْكَال وَلَا تَعَارُض، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَتَعَيَّن الْمَصِير إِلَيْهِ، وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ نَسْخًا أَوْ غَيْره فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا، وَكَيْف يُصَار إِلَى النَّسْخ مَعَ إِمْكَان الْجَمْع بَيْن الْأَحَادِيث لَوْ ثَبَتَ التَّارِيخ وَأَنَّى لَهُ بِذَلِكَ.
وَاللَّهُ أَعْلَم.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْف يَكُون الشُّرْب قَائِمًا مَكْرُوهًا وَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَالْجَوَاب: أَنَّ فِعْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ بَيَانًا لِلْجَوَازِ لَا يَكُون مَكْرُوهًا، بَلْ الْبَيَان وَاجِب عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَيْف يَكُون مَكْرُوهًا وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّة مَرَّة وَطَافَ عَلَى بَعِير مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّ الْوُضُوء ثَلَاثًا وَالطَّوَاف مَاشِيًا أَكْمَل، وَنَظَائِر هَذَا غَيْر مُنْحَصِرَة، فَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَبِّه عَلَى جَوَاز الشَّيْء مَرَّة أَوْ مَرَّات، وَيُوَاظِب عَلَى الْأَفْضَل مِنْهُ، وَهَكَذَا كَانَ أَكْثَر وُضُوئِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاث ثَلَاثًا، وَأَكْثَر طَوَافه مَاشِيًا، وَأَكْثَر شُرْبه جَالِسًا، وَهَذَا وَاضِح لَا يَتَشَكَّك فيه مَنْ لَهُ أَدْنَى نِسْبَة إِلَى عِلْم.
وَاللَّهُ أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
3772- وَقَوْله: (قَالَ قَتَادَة: قُلْنَا- يَعْنِي لِأَنَسٍ-: فَالْأَكْل؟ قَالَ: أَشَرّ وَأَخْبَث) هَكَذَا وَقَعَ فِي الْأُصُول (أَشَرّ) بِالْأَلِفِ وَالْمَعْرُوف فِي الْعَرَبِيَّة (شَرّ) بِغَيْرِ أَلِف، وَكَذَلِكَ (خَيْر) قَالَ اللَّه تَعَالَى: {أَصْحَاب الْجَنَّة يَوْمئِذٍ خَيْر مُسْتَقَرًّا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرّ مَكَانًا} وَلَكِنَّ هَذِهِ اللَّفْظَة وَقَعَتْ هُنَا عَلَى الشَّكّ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَشَرّ أَوْ أَخْبَث، فَشَكَّ قَتَادَة فِي أَنَّ أَنَسًا قَالَ: أَشَرّ أَوْ قَالَ: أَخْبَث، فَلَا يَثْبُت عَنْ أَنَس (أَشَرّ) بِهَذِهِ الرِّوَايَة، فَإِنْ جَاءَتْ هَذِهِ اللَّفْظَة بِلَا شَكّ، وَثَبَتَتْ عَنْ أَنَس، فَهُوَ عَرَبِيّ فَصِيح فَهِيَ لُغَة، وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَة الِاسْتِعْمَال، وَلِهَذَا نَظَائِر مِمَّا لَا يَكُون مَعْرُوفًا عِنْد النَّحْوِيِّينَ وَجَارِيًا عَلَى قَوَاعِدهمْ، وَقَدْ صَحَّتْ بِهِ الْأَحَادِيث فَلَا يَنْبَغِي رَدّه إِذَا ثَبَتَ، بَلْ يُقَال: هَذِهِ لُغَة قَلِيلَة الِاسْتِعْمَال، وَنَحْو هَذَا مِنْ الْعِبَارَات، وَسَبَبه أَنَّ النَّحْوِيِّينَ لَمْ يُحِيطُوا إِحَاطَة قَطْعِيَّة بِجَمِيعِ كَلَام الْعَرَب، وَلِهَذَا يَمْنَع بَعْضهمْ مَا يَنْقُلهُ غَيْره عَنْ الْعَرَب كَمَا هُوَ مَعْرُوف.
وَاللَّهُ أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
3773- وَقَوْله: (عَنْ أَبِي عِيسَى الْأُسْوَارِيّ) هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَة وَحُكِيَ كَسْرهَا، وَالَّذِي ذَكَرَهُ السَّمْعَانِيّ وَصَاحِبَا الْمَشَارِق وَالْمَطَالِع هُوَ الضَّمّ فَقَطْ، قَالَ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ وَالسَّمْعَانِيّ وَغَيْرهمَا: لَا يُعْرَف اِسْمه، قَالَ الْإِمَام أَحْمَد بْن حَنْبَل: لَا نَعْلَم أَحَدًا رَوَى عَنْهُ غَيْر قَتَادَة، وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: هُوَ بَصْرِيّ ثِقَة، وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى الْأُسْوَار، وَهُوَ الْوَاحِد مِنْ أَسَاوِرَة الْفُرْس، قَالَ الْجَوْهَرِيّ: قَالَ أَبُو عُبَيْد هُمْ الْفُرْسَانِ، قَالَ: وَالْأَسَاوِرَة أَيْضًا قَوْم مِنْ الْعَجَم بِالْبَصْرَةِ نَزَلُوهَا قَدِيمًا كَالْأَخَامِرَة بِالْكُوفَةِ.
✯✯✯✯✯✯
3775- وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِيء» فَمَحْمُول عَلَى الِاسْتِحْبَاب وَالنَّدْب، فَيُسْتَحَبّ لِمَنْ شَرِبَ قَائِمًا أَنْ يَتَقَايَأَهُ لِهَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح الصَّرِيح؛ فَإِنَّ الْأَمْر إِذَا تَعَذَّرَ حَمْله عَلَى الْوُجُوب حُمِلَ عَلَى الِاسْتِحْبَاب.
وَأَمَّا قَوْل الْقَاضِي عِيَاض: لَا خِلَاف بَيْن أَهْل الْعِلْم أَنَّ مَنْ شَرِبَ نَاسِيًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَيَّأَهُ، فَأَشَارَ إِلَى تَضْعِيف الْحَدِيث فَلَا يُلْتَفَت إِلَى إِشَارَته، وَكَوْن أَهْل الْعِلْم لَمْ يُوجِبُوا الِاسْتِقَاءَة لَا يَمْنَع كَوْنهَا مُسْتَحَبَّة، فَإِنْ اِدَّعَى مُدَّعٍ مَنْع الِاسْتِحْبَاب فَهُوَ مُجَازِف لَا يُلْتَفَت إِلَيْهِ، فَمِنْ أَيْنَ لَهُ الْإِجْمَاع عَلَى مَنْع الِاسْتِحْبَاب؟ وَكَيْف تُتْرَك هَذِهِ السُّنَّة الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة بِالتَّوَهُّمَاتِ وَالدَّعَاوَى وَالتُّرَّهَات؟ ثُمَّ اِعْلَمْ أَنَّهُ تُسْتَحَبّ الِاسْتِقَاءَة لِمَنْ شَرِبَ قَائِمًا نَاسِيًا أَوْ مُتَعَمِّدًا، وَذِكْر النَّاسِي فِي الْحَدِيث لَيْسَ الْمُرَاد بِهِ أَنَّ الْقَاصِد يُخَالِفهُ، بَلْ لِلتَّنْبِيهِ بِهِ عَلَى غَيْره بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَمَرَ بِهِ النَّاسِي وَهُوَ غَيْر مُخَاطَب فَالْعَامِد الْمُخَاطَب الْمُكَلَّف أَوْلَى، وَهَذَا وَاضِح لَا شَكّ فيه لاسيما عَلَى مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور فِي أَنَّ الْقَاتِل عَمْدًا تَلْزَمهُ الْكَفَّارَة، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأ فَتَحْرِير رَقَبَة} لَا يَمْنَع وُجُوبهَا عَلَى الْعَامِد بَلْ لِلتَّنْبِيهِ.
وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّق بِأَسَانِيد الْبَاب وَأَلْفَاظه: فَقَالَ مُسْلِم: (حَدَّثَنَا هَدَّاب بْن خَالِد حَدَّثَنَا هَمَّام حَدَّثَنَا قَتَادَة عَنْ أَنَس رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْد الْأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيد عَنْ قَتَادَة عَنْ أَنَس).
هَذَانِ الْإِسْنَادَانِ بَصْرِيُّونَ كُلّهمْ، وَقَدْ سَبَقَ مَرَّات أَنَّ هَدَّابًا يُقَال فيه: هُدْبَة، وَأَنَّ أَحَدهمَا اِسْم وَالْآخَر لَقَب، وَاخْتُلِفَ فيهمَا، وَسَعِيد هَذَا هُوَ اِبْن أَبِي عَرُوبَة.
قَوْله: (أَبُو غَطَفَان الْمُرِّيّ) هُوَ بِضَمِّ الْمِيم وَتَشْدِيد الرَّاء وَلَا يُعْرَف اِسْمه، وَفيه: سُرَيْج بْن يُونُس تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ مَرَّات أَنَّهُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْجِيم.
باب كراهية الشرب قايما
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب الأشربة ﴿ 12 ﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞