📁 آخر الأخبار

باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها

 

 باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها

باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها


2422- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيم حَرَّمَ مَكَّة» هَذَا دَلِيل لِمَنْ يَقُول: إِنَّ تَحْرِيم مَكَّة إِنَّمَا هُوَ كَانَ فِي زَمَن إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالصَّحِيح أَنَّهُ كَانَ يَوْم خَلَقَ اللَّه السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة مُسْتَوْفَاة قَرِيبًا، وَذَكَرُوا فِي تَحْرِيم إِبْرَاهِيم اِحْتِمَالَيْنِ.

أَحَدهمَا: أَنَّهُ حَرَّمَهَا بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى لَهُ بِذَلِكَ لَا بِاجْتِهَادِهِ، فَلِهَذَا أَضَافَ التَّحْرِيم إِلَيْهِ تَارَة وَإِلَى اللَّه تَعَالَى تَارَة.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ دَعَا لَهَا فَحَرَّمَهَا اللَّه تَعَالَى بِدَعْوَتِهِ، فَأُضِيفَ التَّحْرِيم إِلَيْهِ لِذَلِكَ.

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنِّي حَرَّمْت الْمَدِينَة كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيم مَكَّة» وَذَكَرَ مُسْلِم الْأَحَادِيث الَّتِي بَعْده بِمَعْنَاهُ.

هَذِهِ الْأَحَادِيث حُجَّة ظَاهِرَة لِلشَّافِعَيَّ وَمَالِك وَمُوَافِقِيهِمَا فِي تَحْرِيم صَيْد الْمَدِينَة وَشَجَرهَا، وَأَبَاحَ أَبُو حَنِيفَة ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِحَدِيث: «يَا أَبَا عُمَيْر مَا فَعَلَ النُّغَيْر» وَأَجَابَ أَصْحَابنَا بِجَوَابَيْنِ.

أَحَدهمَا: أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنَّ حَدِيث النُّغَيْر كَانَ قَبْل تَحْرِيم الْمَدِينَة.

وَالثَّانِي: يَحْتَمِل أَنَّهُ صَادَهُ مِنْ الْحِلّ لَا مِنْ حَرَم الْمَدِينَة، وَهَذَا الْجَوَاب لَا يَلْزَمهُمْ عَلَى أُصُولهمْ؛ لِأَنَّ مَذْهَب الْحَنَفِيَّة أَنَّ صَيْد الْحِلّ إِذَا أَدْخَلَهُ إِلَى الْحَرَم ثَبَتَ لَهُ حُكْم الْحَرَم، وَلَكِنَّ أَصْلهمْ هَذَا ضَعِيف فَيُرَدّ عَلَيْهِمْ بِدَلِيلِهِ، وَالْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور أَنَّهُ لَا ضَمَان فِي صَيْد الْمَدِينَة وَشَجَرهَا، بَلْ هُوَ حَرَام بِلَا ضَمَان، وَقَالَ اِبْن أَبِي ذِئْب، وَابْن أَبِي لَيْلَى: يَجِب فيه الْجَزَاء كَحَرَمِ مَكَّة، وَبِهِ قَالَ بَعْض الْمَالِكِيَّة، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْل قَدِيم: أَنَّهُ يُسْلَب الْقَاتِل، لِحَدِيثِ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِم بَعْد هَذَا، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: لَمْ يَقُلْ بِهَذَا الْقَوْل أَحَد بَعْد الصَّحَابَة إِلَّا الشَّافِعِيّ فِي قَوْله الْقَدِيم.

 وَاَللَّه أَعْلَم.

✯✯✯✯✯✯

‏2423- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيم حَرَّمَ مَكَّة، وَإِنِّي أُحَرِّم مَا بَيْن لَابَتَيْهَا» يُرِيد الْمَدِينَة، قَالَ أَهْل اللُّغَة وَغَرِيب الْحَدِيث: (اللَّابَتَانِ) الْحَرَّتَانِ، وَاحِدَتهمَا (لَابَة)، وَهِيَ الْأَرْض الْمُلْبَسَة حِجَارَة سَوْدَاء، وَلِلْمَدِينَةِ لَابَتَانِ شَرْقِيَّة وَغَرْبِيَّة، وَهِيَ بَيْنهمَا، وَيُقَال: لَابَة وَلُوبَة وَنُوبَة، بِالنُّونِ ثَلَاث لُغَات مَشْهُورَات، وَجَمْع اللَّابَة فِي الْقِلَّة لَابَات، وَفِي الْكَثْرَة لَابٌ وُلُوب.

وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنِّي أُحَرِّم مَا بَيْن لَابَتَيْهَا» مَعْنَاهُ: اللَّابَتَانِ وَمَا بَيْنهمَا، وَالْمُرَاد تَحْرِيم الْمَدِينَة وَلَابَتَيْهَا.

✯✯✯✯✯✯

‏2425- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُقْطَع عِضَاههَا، وَلَا يُصَاد صَيْدهَا» صَرِيح فِي الدَّلَالَة لِمَذْهَبِ الْجُمْهُور فِي تَحْرِيم صَيْد الْمَدِينَة وَشَجَرهَا، وَسَبَقَ خِلَاف أَبِي حَنِيفَة.

وَالْعِضَاه: بِالْقَصْرِ وَكَسْر الْعَيْن وَتَخْفِيف الضَّاد الْمُعْجَمَة كُلّ شَجَر فيه شَوْك، وَاحِدَتهَا عِضَاهَة وَعَضِيهَة.

 وَاَللَّه أَعْلَم.

✯✯✯✯✯✯

‏2426- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا يَثْبُت أَحَد عَلَى لَأْوَائِهَا وَجَهْدهَا إِلَّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْم الْقِيَامَة» قَالَ أَهْل اللُّغَة: (اللَّأْوَاء) بِالْمَدِّ: الشِّدَّة وَالْجُوع، وَأَمَّا الْجَهْد: فَهُوَ الْمَشَقَّة وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيم، وَفِي لُغَة قَلِيلَة بِضَمِّهَا، وَأَمَّا الْجَهْد بِمَعْنَى الطَّاقَة فَبِضَمِّهَا عَلَى الْمَشْهُور، وَحُكِيَ فَتْحهَا.

وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا»، فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمه اللَّه: سَأَلْت قَدِيمًا عَنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث وَلِمَ خَصَّ سَاكِن الْمَدِينَة بِالشَّفَاعَةِ هُنَا مَعَ عُمُوم شَفَاعَته وَإِدِّخَاره إِيَّاهَا لِأُمَّتِهِ؟ قَالَ: وَأُجِيب عَنْهُ بِجَوَابِ شَافٍ مُقْنِع فِي أَوْرَاق اِعْتَرَفَ بِصَوَابِهِ كُلّ وَاقِف عَلَيْهِ، قَالَ: وَأَذْكُر مِنْهُ هُنَا لُمَعًا تَلِيق بِهَذَا الْمَوْضِع، قَالَ بَعْض شُيُوخنَا: (أَوْ) هُنَا لِلشَّكِّ، وَالْأَظْهَر عِنْدنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلشَّكِّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيث رَوَاهُ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ وَابْن عُمَر وَأَبُو سَعِيد وَأَبُو هُرَيْرَة وَأَسْمَاء بِنْت عُمَيْس وَصْفِيَّة بِنْت أَبِي عُبَيْد عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا اللَّفْظ، وَيَبْعُد اِتِّفَاق جَمِيعهمْ أَوْ رُوَاتهمْ عَلَى الشَّكّ وَتَطَابُقهمْ فيه عَلَى صِيغَة وَاحِدَة، بَلْ الْأَظْهَر أَنَّهُ قَالَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُون أَعْلَمَ بِهَذِهِ الْجُمْلَة هَكَذَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُون (أَوْ) لِلتَّقْسِيمِ، وَيَكُون شَهِيدًا لِبَعْضِ أَهْل الْمَدِينَة وَشَفِيعًا لِبَقِيَّتِهِمْ، إِمَّا شَفِيعًا لِلْعَاصِينَ وَشَهِيدًا لِلْمُطِيعِينَ، وَإِمَّا شَهِيدًا لِمَنْ مَاتَ فِي حَيَاتِه، وَشَفِيعًا لِمَنْ مَاتَ بَعْده، أَوْ غَيْر ذَلِكَ، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ خُصُوصِيَّة زَائِدَة عَلَى الشَّفَاعَة لِلْمُذْنِبِينَ أَوْ لَلْعَالَمِينَ فِي الْقِيَامَة، وَعَلَى شَهَادَته عَلَى جَمِيع الْأُمَّة، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شُهَدَاء أُحُد: «أَنَا شَهِيد عَلَى هَؤُلَاءِ» فَيَكُون لِتَخْصِيصِهِمْ بِهَذَا كُلّه مَزِيد أَوْ زِيَادَة مَنْزِلَة وَحِظْوَة.

قَالَ: وَقَدْ يَكُون (أَوْ) بِمَعْنَى (الْوَاو) فَيَكُون لِأَهْلِ الْمَدِينَة شَفِيعًا وَشَهِيدًا قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ (إِلَّا كُنْت لَهُ شَهِيدًا أَوْ لَهُ شَفِيعًا) قَالَ: وَإِذَا جَعَلْنَا (أَوْ) لِلشَّكِّ كَمَا قَالَهُ الْمَشَايِخ، فَإِنْ كَانَتْ اللَّفْظَة الصَّحِيحَة (شَهِيدًا) اِنْدَفَعَ الِاعْتِرَاض، لِأَنَّهَا زَائِدَة عَلَى الشَّفَاعَة الْمُدَّخَرَة الْمُجَرَّدَة لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ اللَّفْظَة الصَّحِيحَة (شَفِيعًا) فَاخْتِصَاص أَهْل الْمَدِينَة بِهَذَا مَعَ مَا جَاءَ مِنْ عُمُومهَا وَادِّخَارهَا لِجَمِيعِ الْأُمَّة أَنَّ هَذِهِ شَفَاعَة أُخْرَى غَيْر الْعَامَّة الَّتِي هِيَ لِإِخْرَاجِ أُمَّته مِنْ النَّار، وَمُعَافَاة بَعْضهمْ مِنْهَا بِشَفَاعَتِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِيَامَة، وَتَكُون هَذِهِ الشَّفَاعَة لِأَهْلِ الْمَدِينَة بِزِيَادَةِ الدَّرَجَات، أَوْ تَخْفِيف الْحِسَاب، أَوْ بِمَا شَاءَ اللَّه مِنْ ذَلِكَ، أَوْ بِإِكْرَامِهِمْ يَوْم الْقِيَامَة بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْكَرَامَة، كَإِيوَائِهِمْ إِلَى ظِلّ الْعَرْش، أَوْ كَوْنهمْ فِي رَوْح وَعَلَى مَنَابِر، أَوْ الْإِسْرَاع بِهِمْ إِلَى الْجَنَّة، أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِنْ خُصُوص الْكَرَامَات الْوَارِدَة لِبَعْضِهِمْ دُون بَعْض.

 وَاَللَّه أَعْلَم.

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدَعهَا أَحَد رَغْبَة عَنْهَا إِلَّا أَبْدَلَ اللَّه فيها مَنْ هُوَ خَيْر مِنْهُ» قَالَ الْقَاضِي: اِخْتَلَفُوا فِي هَذَا، فَقِيلَ: هُوَ مُخْتَصّ بِمُدَّةِ حَيَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ عَامّ أَبَدًا، وَهَذَا أَصَحّ.

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا يُرِيد أَحَد أَهْل الْمَدِينَة بِسُوءٍ إِلَّا أَذَابَهُ اللَّه فِي النَّار ذَوْب الرَّصَاص أَوْ ذَوْب الْمِلْح فِي الْمَاء» قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الزِّيَادَة وَهِيَ قَوْله: (فِي النَّار) تَدْفَع إِشْكَال الْأَحَادِيث الَّتِي لَمْ تُذْكَر فيها هَذِهِ الزِّيَادَة، وَتُبَيِّن أَنَّ هَذَا حُكْمه فِي الْآخِرَة، قَالَ: وَقَدْ يَكُون الْمُرَاد بِهِ: مَنْ أَرَادَهَا فِي حَيَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِيَ الْمُسْلِمُونَ أَمْره وَاضْمَحَلَّ كَيْده كَمَا يَضْمَحِلّ الرَّصَاص فِي النَّار، قَالَ: وَقَدْ يَكُون فِي اللَّفْظ تَأْخِير وَتَقْدِيم، أَيْ أَذَابَهُ اللَّه ذَوْبَ الرَّصَاص فِي النَّار، وَيَكُون ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَهَا فِي الدُّنْيَا فَلَا يُمْهِلهُ اللَّه، وَلَا يُمَكَّن لَهُ سُلْطَان، بَلْ يُذْهِبهُ عَنْ قُرْب كَمَا اِنْقَضَى شَأْن مَنْ حَارَبَهَا أَيَّام بَنِي أُمَيَّة، مِثْل مُسْلِم بْن عُقْبَة فَإِنَّهُ هَلَكَ فِي مُنْصَرَفِهِ عَنْهَا، ثُمَّ هَلَكَ يَزِيد بْن مُعَاوِيَة مُرْسِلُه عَلَى أَثَر ذَلِكَ، وَغَيْرهمَا مِمَّنْ صَنَعَ صَنِيعهمَا، قَالَ: وَقِيلَ: قَدْ يَكُون الْمُرَاد مَنْ كَادَهَا اِغْتِيَالًا وَطَلَبًا لِغُرَّتِهَا فِي غَفْلَة، فَلَا يَتِمّ لَهُ أَمْره، بِخِلَافِ مَنْ أَتَى ذَلِكَ جِهَارًا كَأُمَرَاء اِسْتَبَاحُوهَا.

✯✯✯✯✯✯

‏2427- قَوْله: (أَنَّ سَعْدًا رَكِبَ إِلَى قَصْره بِالْعَقِيقِ، فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَع شَجَرًا أَوْ يَخْبِطهُ فَسَلَبَهُ، فَلَّمَا رَجَعَ جَاءَهُ أَهْل الْعَبْد فَكَلَّمُوهُ عَلَى أَنْ يَرُدّ عَلَى غُلَامهمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَهُ مِنْ غُلَامهمْ، فَقَالَ: مَعَاذ اللَّه أَنْ أَرُدّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَى أَنْ يَرُدّ عَلَيْهِمْ) هَذَا الْحَدِيث صَرِيح فِي الدَّلَالَة لِمَذْهَبِ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَالْجَمَاهِير فِي تَحْرِيم صَيْد الْمَدِينَة وَشَجَرهَا كَمَا سَبَقَ، وَخَالَفَ فيه أَبُو حَنِيفَة كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ هُنَا مُسْلِم فِي صَحِيحه تَحْرِيمهَا مَرْفُوعًا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَة عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ وَأَنَسِ بْن مَالِك وَجَابِر بْن عَبْد اللَّه وَأَبِي سَعِيد وَأَبِي هُرَيْرَة وَعَبْد اللَّه بْن زَيْد وَرَافِع بْن خَدِيج وَسَهْل بْن حُنَيْف، وَذَكَرَ غَيْره مِنْ رِوَايَة غَيْرهمْ أَيْضًا، فَلَا يُلْتَفَت إِلَى مَنْ خَالَفَ هَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الْمُسْتَفِيضَة.

وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلَالَة لِقَوْلِ الشَّافِعِيّ الْقَدِيم: إِنَّ مَنْ صَادَ فِي حَرَم الْمَدِينَة أَوْ قَطَعَ مِنْ شَجَرهَا أُخِذَ سَلَبُهُ، وَبِهَذَا قَالَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ وَجَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَد بَعْد الصَّحَابَة إِلَّا الشَّافِعِيّ فِي قَوْله الْقَدِيم، وَخَالَفَهُ أَئِمَّة الْأَمْصَار.

قُلْت: وَلَا تَضُرّ مُخَالَفَتهمْ إِذَا كَانَتْ السُّنَّة مَعَهُ، وَهَذَا الْقَوْل الْقَدِيم هُوَ الْمُخْتَار لِثُبُوتِ الْحَدِيث فيه وَعَمَل الصَّحَابَة عَلَى وَفْقِهِ، وَلَمْ يَثْبُت لَهُ دَافِع، قَالَ أَصْحَابنَا: فَإِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ فَفِي كَيْفِيَّة الضَّمَان وَجْهَانِ: أَحَدهمَا يَضْمَن الصَّيْد وَالشَّجَر وَالْكَلَأ كَضَمَانِ حَرَم مَكَّة، وَأَصَحّهمَا وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُور الْمُفَرِّعِينَ عَلَى هَذَا الْقَدِيم: أَنَّهُ يُسْلَب الصَّائِد وَقَاطِع الشَّجَر وَالْكَلَأ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَاد بِالسَّلَبِ وَجْهَانِ: أَحَدهمَا: أَنَّهُ ثِيَابه فَقَطْ، وَأَصَحّهمَا وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُور أَنَّهُ كَسَلَبِ الْقَتِيل مِنْ الْكُفَّار، فَيَدْخُل فيه فَرَسه وَسِلَاحه وَنَفَقَته وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُل فِي سَلَبِ الْقَتِيل، وَفِي مَصْرِف السَّلَب ثَلَاثَة أَوْجُه لِأَصْحَابِنَا: أَصَحّهَا: أَنَّهُ لِلسَّالِبِ، وَهُوَ الْمُوَافِق لِحَدِيثِ سَعْد، وَالثَّانِي أَنَّهُ لِمَسَاكِين الْمَدِينَة، وَالثَّالِث: لِبَيْتِ الْمَال.

 وَإِذَا سَلَبَ أَخَذَ جَمِيع مَا عَلَيْهِ إِلَّا سَاتِر الْعَوْرَة، وَقِيلَ: يُؤْخَذ سَاتِر الْعَوْرَة أَيْضًا، قَالَ أَصْحَابنَا: وَيُسْلَب بِمُجَرَّدِ الِاصْطِيَاد، سَوَاء أَتْلَفَ الصَّيْد أَمْ لَا.

 وَاَللَّه أَعْلَم.

✯✯✯✯✯✯

‏2428- قَوْله: «حَتَّى إِذَا بَدَا لَهُ أُحُد قَالَ: هَذَا جَبَل يُحِبّنَا وَنُحِبّهُ» الصَّحِيح الْمُخْتَار أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ أُحُدًا يُحِبّنَا حَقِيقَة، جَعَلَ اللَّه تَعَالَى فيه تَمْيِيزًا يُحِبّ بِهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانه وَتَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِط مِنْ خَشْيَة اللَّه} وَكَمَا حَنَّ الْجِذْع الْيَابِس، وَكَمَا سَبَّحَ الْحَصَى، وَكَمَا فَرَّ الْحَجَر بِثَوْبِ مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَمَا قَالَ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْرِف حَجَرًا بِمَكَّة كَانَ يُسَلِّم عَلَيّ» وَكَمَا دَعَا الشَّجَرَتَيْنِ الْمُفْتَرِقَتَيْنِ فَاجْتَمَعَا، وَكَمَا رَجَفَ حِرَاء فَقَالَ: «اُسْكُنْ حِرَاء فَلَيْسَ عَلَيْك إِلَّا نَبِيّ أَوْ صِدِّيق» الْحَدِيث.

 وَكَمَا كَلَّمَهُ ذِرَاع الشَّاة، وَكَمَا قَالَ سُبْحَانه وَتَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْء إِلَّا يُسَبِّح بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحهمْ} وَالصَّحِيح فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة: أَنَّ كُلّ شَيْء يُسَبِّح حَقِيقَة بِحَسَبِ حَاله، وَلَكِنْ لَا نَفْقَههُ، وَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ شَوَاهِد لِمَا اِخْتَرْنَاهُ، وَاخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ فِي مَعْنَى الْحَدِيث، وَأَنَّ أُحُدًا يُحِبّنَا حَقِيقَة.

وَقِيلَ: الْمُرَاد يُحِبّنَا أَهْله، فَحَذَفَ الْمُضَاف وَأَقَامَ الْمُضَاف إِلَيْهِ مَقَامه.

 وَاَللَّه أَعْلَم.

✯✯✯✯✯✯

‏2429- قَوْله: «مَنْ أَحْدَثَ فيها حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَة اللَّه وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ» قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ مَنْ أَتَى فيها إِثْمًا أَوْ آوَى مَنْ أَتَاهُ وَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَحَمَاهُ.

قَالَ: وَيُقَال: أَوَى وَآوَى بِالْقَصْرِ وَالْمَدّ فِي الْفِعْل اللَّازِم وَالْمُتَعَدِّي جَمِيعًا لَكِنَّ الْقَصْر فِي اللَّازِم أَشْهَر وَأَفْصَح، وَالْمَدّ فِي الْمُتَعَدِّي أَشْهَر وَأَفْصَح.

قُلْت: وَبِالْأَفْصَحِ جَاءَ الْقُرْآن الْعَزِيز فِي الْمَوْضِعَيْنِ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {أَرَأَيْت إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَة} وَقَالَ فِي الْمُتَعَدِّي: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَة} قَالَ الْقَاضِي وَلَمْ يُرْوَ هَذَا الْحَرْف إِلَّا مُحْدِثًا بِكَسْرِ الدَّال، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْإِمَام الْمَازِرِيّ، رُوِيَ بِوَجْهَيْنِ كَسْر الدَّال وَفَتْحهَا، قَالَ: فَمَنْ فَتَحَ أَرَادَ الْإِحْدَاث نَفْسه، وَمَنْ كَسَرَ أَرَادَ فَاعِل الْحَدَث، وَقَوْله: «عَلَيْهِ لَعْنَة اللَّه» إِلَى آخِره، هَذَا وَعِيد شَدِيد لِمَنْ اِرْتَكَبَ هَذَا، قَالَ الْقَاضِي: وَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِر؛ لِأَنَّ اللَّعْنَة لَا تَكُون إِلَّا فِي كَبِيرَة، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَلْعَنهُ، وَكَذَا يَلْعَنهُ الْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعُونَ، وَهَذَا مُبَالَغَة فِي إِبْعَاده عَنْ رَحْمَة اللَّه تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّعْن فِي اللُّغَة هُوَ الطَّرْد وَالْإِبْعَاد، قَالُوا: وَالْمُرَاد بِاللَّعْنِ هُنَا الْعَذَاب الَّذِي يَسْتَحِقّهُ عَلَى ذَنْبه، وَالطَّرْد عَنْ الْجَنَّة أَوَّل الْأَمْر، وَلَيْسَتْ هِيَ كَلَعْنَةِ الْكُفَّار الَّذِينَ يُبْعَدُونَ مِنْ رَحْمَة اللَّه تَعَالَى كُلّ الْإِبْعَاد.

 وَاَللَّه أَعْلَم.

قَوْله: «لَا يَقْبَل اللَّه مِنْهُ يَوْم الْقِيَامَة صَرْفًا وَلَا عَدْلًا»، قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الْمَازِرِيّ: اِخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرهمَا، فَقِيلَ: الصَّرْف: الْفَرِيضَة، وَالْعَدْل: النَّافِلَة، وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ: الصَّرْف: النَّافِلَة، وَالْعَدْل: الْفَرِيضَة، عَكْس قَوْل الْجُمْهُور، وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ: الصَّرْف: التَّوْبَة، وَالْعَدْل: الْفِدْيَة، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ يُونُس: الصَّرْف الِاكْتِسَاب، وَالْعَدْل: الْفِدْيَة، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الْعَدْل: الْحِيلَة، وَقِيلَ: الْعَدْل: الْمِثْل.

وَقِيلَ: الصَّرْف: الدِّيَة، وَالْعَدْل: الزِّيَادَة، قَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تُقْبَل فَرِيضَته وَلَا نَافِلَته قَبُول رِضًا، وَإِنْ قُبِلَتْ قَبُول جَزَاء، وَقِيلَ: يَكُون الْقَبُول هُنَا بِمَعْنَى تَكْفِير الذَّنْب بِهِمَا، قَالَ: وَقَدْ يَكُون مَعْنَى الْفِدْيَة هُنَا: أَنَّهُ لَا يَجِد فِي الْقِيَامَة فِدَاء يَفْتَدِي بِهِ بِخِلَافِ غَيْره مِنْ الْمُذْنِبِينَ الَّذِينَ يَتَفَضَّل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَنْ يَشَاء مِنْهُمْ بِأَنْ يَفْدِيه مِنْ النَّار بِيَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيّ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح.

قَوْله فِي آخِر هَذَا الْحَدِيث: (فَقَالَ اِبْن أَنَس: أَوْ آوَى مُحْدِثًا) كَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَر النُّسَخ (فَقَالَ اِبْن أَنَس) وَوَقَعَ فِي بَعْضهَا (فَقَالَ أَنَس) بِحَذْفِ لَفْظَة (اِبْن).

قَالَ الْقَاضِي: وَوَقَعَ عِنْد عَامَّة شُيُوخنَا (فَقَالَ اِبْن أَنَس) بِإِثْبَاتِ (اِبْن) قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيح، وَكَأَنَّ اِبْن أَنَس ذَكَّرَ أَبَاهُ هَذِهِ الزِّيَادَة، لِأَنَّ سِيَاق هَذَا الْحَدِيث مِنْ أَوَّله إِلَى آخِره مِنْ كَلَام أَنَس، فَلَا وَجْه لِاسْتِدْرَاكِ أَنَس بِنَفْسِهِ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَة قَدْ وَقَعَتْ فِي أَوَّل الْحَدِيث فِي سِيَاق كَلَام أَنَس فِي أَكْثَر الرِّوَايَات، قَالَ: وَسَقَطَتْ عِنْد السَّمَرْقَنْدِيّ: قَالَ: وَسُقُوطهَا هُنَاكَ يُشْبِه أَنْ يَكُون هُوَ الصَّحِيح، وَلِهَذَا اُسْتُدْرِكَتْ فِي آخِر الْحَدِيث.

 هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي.

✯✯✯✯✯✯

‏2431- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالهمْ وَبَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعهمْ وَبَارِكْ لَهُمْ فِي مُدّهمْ» قَالَ الْقَاضِي: الْبَرَكَة هُنَا بِمَعْنَى النُّمُوّ وَالزِّيَادَة، وَتَكُون بِمَعْنَى الثَّبَات وَاللُّزُوم، قَالَ: فَقِيلَ: يَحْتَمِل أَنْ تَكُون هَذِهِ الْبَرَكَة دِينِيَّة، وَهِيَ مَا تَتَعَلَّق بِهَذِهِ الْمَقَادِير مِنْ حُقُوق اللَّه تَعَالَى فِي الزَّكَاة وَالْكَفَّارَات، فَتَكُون بِمَعْنَى الثَّبَات وَالْبَقَاء لَهَا، كَبَقَاءِ الْحُكْم بِبَقَاءِ الشَّرِيعَة وَثَبَاتهَا، وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون دُنْيَوِيَّة مِنْ تَكْثِير الْكَيْل وَالْقَدْر بِهَذِهِ الْأَكْيَال حَتَّى يَكْفِي مَعَهُ مَا لَا يَكْفِي مِنْ غَيْره فِي غَيْر الْمَدِينَة، أَوْ تَرْجِع الْبَرَكَة إِلَى التَّصَرُّف بِهَا فِي التِّجَارَة وَأَرْبَاحهَا، وَإِلَى كَثْرَة مَا يُكَال بِهَا مِنْ غَلَّاتهَا وَثِمَارهَا، أَوْ تَكُون الزِّيَادَة فِيمَا يُكَال بِهَا لِاتِّسَاعِ عَيْشهمْ وَكَثْرَته بَعْد ضِيقه لَمَّا فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِمْ وَوَسَّعَ مِنْ فَضْله لَهُمْ، وَمَلَّكَهُمْ مِنْ بِلَاد الْخِصْب وَالرِّيف بِالشَّامِ وَالْعِرَاق وَمِصْر وَغَيْرهَا، حَتَّى كَثُرَ الْحَمْل إِلَى الْمَدِينَة، وَاتَّسَعَ عَيْشهمْ حَتَّى صَارَتْ هَذِهِ الْبَرَكَة فِي الْكَيْل نَفْسه، فَزَادَ مُدّهمْ وَصَارَ هَاشِمِيًّا مِثْل مُدّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ أَوْ مَرَّة وَنِصْفًا، وَفِي هَذَا كُلّه ظُهُور إِجَابَة دَعَوْته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبُولهَا، هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي، وَالظَّاهِر مِنْ هَذَا كُلّه: أَنَّ الْبَرَكَة فِي نَفْس الْمَكِيل فِي الْمَدِينَة، بِحَيْثُ يَكْفِي الْمُدّ فيها لِمَنْ لَا يَكْفيه فِي غَيْرهَا.

 وَاَللَّه أَعْلَم.

✯✯✯✯✯✯

‏2432- قَوْله: (إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد السَّامِيّ) هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَة.

✯✯✯✯✯✯

‏2433- قَوْله: (خَطَبَنَا عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِنْدنَا شَيْئًا نَقْرَؤُهُ إِلَّا كِتَاب اللَّه وَهَذِهِ الصَّحِيفَة فَقَدْ كَذَبَ) هَذَا تَصْرِيح مِنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِإِبْطَالِ مَا تَزْعُمهُ الرَّافِضَة وَالشِّيعَة، وَيَخْتَرِعُونَهُ مِنْ قَوْلهمْ: إِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ أَوْصَى إِلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمُورٍ كَثِيرَة مِنْ أَسْرَار الْعِلْم، وَقَوَاعِد الدِّين، وَكُنُوز الشَّرِيعَة، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ أَهْل الْبَيْت بِمَا لَمْ يُطْلِع عَلَيْهِ غَيْرهمْ، وَهَذِهِ دَعَاوَى بَاطِلَة، وَاخْتِرَاعَات فَاسِدَة، لَا أَصْل لَهَا، وَيَكْفِي فِي إِبْطَالهَا قَوْل عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ هَذَا، وَفيه: دَلِيل عَلَى جَوَاز كِتَابَة الْعِلْم، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه قَرِيبًا.

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَدِينَة حَرَم مَا بَيْن عَيْر إِلَى ثَوْر» أَمَّا (عَيْر) فَبِفَتْحِ الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَإِسْكَان الْمُثَنَّاة تَحْت وَهُوَ جَبَل مَعْرُوف، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَالَ مُصْعَب بْن الزُّبَيْر وَغَيْره: لَيْسَ بِالْمَدِينَةِ عَيْر وَلَا ثَوْر، قَالُوا: وَإِنَّمَا ثَوْر بِمَكَّة، قَالَ: وَقَالَ الزُّبَيْر: عَيْر جَبَل بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَة، قَالَ الْقَاضِي: أَكْثَر الرُّوَاة فِي كِتَاب الْبُخَارِيّ ذَكَرُوا عَيْرًا.

وَأَمَّا (ثَوْر) فَمِنْهُمْ مَنْ كَنَّى عَنْهُ بِكَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ مَكَانه بَيَاضًا؛ لِأَنَّهُمْ اِعْتَقَدُوا ذِكْر ثَوْر هُنَا خَطَأ، قَالَ الْمَازِرِيّ: قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: ثَوْر هُنَا وَهْمٌ مِنْ الرَّاوِي، وَإِنَّمَا ثَوْر بِمَكَّة، قَالَ: وَالصَّحِيح إِلَى أُحُد، قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْد: أَصْل الْحَدِيث مِنْ عَيْر إِلَى أُحُد.

 هَذَا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي، وَكَذَا قَالَ أَبُو بَكْر الْحَازِمِيّ الْحَافِظ وَغَيْره مِنْ الْأَئِمَّة أَنَّ أَصْله: مِنْ عَيْر إِلَى أُحُد.

قُلْت: وَيُحْتَمَل أَنَّ ثَوْرًا كَانَ اِسْمًا لِجَبَلٍ هُنَاكَ، إِمَّا أُحُد وَإِمَّا غَيْره، فَخَفِيَ اِسْمه.

 وَاَللَّه أَعْلَم.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ جَاءَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة: «مَا بَيْن عَيْر إِلَى ثَوْر» أَوْ إِلَى أُحُد عَلَى مَا سَبَقَ، وَفِي رِوَايَة أَنَس السَّابِقَة: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّم مَا بَيْن جَبَلَيْهَا» وَفِي الرِّوَايَات السَّابِقَة: «مَا بَيْن لَابَتَيْهَا» وَالْمُرَاد بِاللَّابَتَيْنِ الْحَرَّتَانِ كَمَا سَبَقَ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيث كُلّهَا مُتَّفِقَة: «فَمَا بَيْن لَابَتَيْهَا» بَيَان لِحَدِّ حَرَمهَا مِنْ جِهَتَيْ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب، وَمَا: «بَيْن جَبَلَيْهَا» بَيَان لِحَدِّهِ مِنْ جِهَة الْجَنُوب وَالشَّمَال.

 وَاَللَّه أَعْلَم.

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَذِمَّة الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَة يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ» الْمُرَاد بِالذِّمَّةِ هُنَا الْأَمَان، مَعْنَاهُ أَنَّ أَمَان الْمُسْلِمِينَ لِلْكَافِرِ صَحِيح، فَإِذَا أَمَّنَهُ بِهِ أَحَد الْمُسْلِمِينَ حَرُمَ عَلَى غَيْره التَّعَرُّض لَهُ مَا دَامَ فِي أَمَان الْمُسْلِم، وَلِلْأَمَانِ شُرُوط مَعْرُوفَة.

وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ» فيه دَلَال

تعليقات