باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم
باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم
2137- حَدِيث جَابِر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَهُوَ حَدِيث عَظِيم مُشْتَمِل عَلَى جُمَل مِنْ الْفَوَائِد، وَنَفَائِس مِنْ مُهِمَّات الْقَوَاعِد، وَهُوَ مِنْ أَفْرَاد مُسْلِم لَمْ يَرْوِهِ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ كَرِوَايَةِ مُسْلِم.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاس عَلَى مَا فيه مِنْ الْفِقْه، وَأَكْثَرُوا، وَصَنَّفَ فيه أَبُو بَكْر بْن الْمُنْذِر جُزْءًا كَبِيرًا، وَخَرَّجَ فيه مِنْ الْفِقْه مِائَة وَنَيِّفًا وَخَمْسِينَ نَوْعًا، وَلَوْ تُقُصِّيَ لَزِيدَ عَلَى هَذَا الْقَدْر قَرِيب مِنْهُ، وَقَدْ سَبَقَ الِاحْتِجَاج بِنُكَتٍ مِنْهُ فِي أَثْنَاء شَرْح الْأَحَادِيث السَّابِقَة، وَسَنَذْكُرُ مَا يَحْتَاج إِلَى التَّنْبِيه عَلَيْهِ عَلَى تَرْتِيبه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
قَوْله: (عَنْ جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَنْ أَبِيهِ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى جَابِر بْن عَبْد اللَّه فَسَأَلَ عَنْ الْقَوْم حَتَّى اِنْتَهَى إِلَيَّ فَقُلْت: أَنَا مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن حُسَيْن فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِي فَنَزَعَ زِرِّي الْأَعْلَى، ثُمَّ نَزَعَ زِرِّي الْأَسْفَل ثُمَّ وَضَعَ كَفّه بَيْن ثَدْيَيَّ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَام شَابّ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِك يَا اِبْن أَخِي سَلْ عَمَّا شِئْت، فَسَأَلْته وَهُوَ أَعْمَى، فَحَضَرَ وَقْت الصَّلَاة فَقَامَ فِي نِسَاجَة مُلْتَحِفًا بِهَا كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبه رَجَعَ طَرَفَاهَا إِلَيْهِ مِنْ صِغَرهَا وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَنْبه عَلَى الْمِشْجَب فَصَلَّى بِنَا) هَذِهِ الْقِطْعَة فيها فَوَائِد مِنْهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ زَائِرُونَ أَوْ ضِيفَان وَنَحْوهمْ أَنْ يَسْأَل عَنْهُمْ لِيُنْزِلهُمْ مَنَازِلهمْ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: «أَمَرَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُنْزِل النَّاس مَنَازِلهمْ»، وَفيه إِكْرَام أَهْل بَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فَعَلَ جَابِر بِمُحَمَّدِ بْن عَلِيّ، وَمِنْهَا اِسْتِحْبَاب قَوْله لِلزَّائِرِ وَالضَّيْف وَنَحْوهمَا مَرْحَبًا، وَمِنْهَا مُلَاطَفَة الزَّائِر بِمَا يَلِيق بِهِ وَتَأْنِيسه، وَهَذَا سَبَب حَلّ جَابِر زِرَّيْ مُحَمَّد بْن عَلِيّ وَوَضْع يَده بَيْن ثَدْيَيْهِ.
وَقَوْله: (وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَام شَابّ فيه) تَنْبِيه عَلَى أَنَّ سَبَب فِعْل جَابِر ذَلِكَ التَّأْنِيس لِكَوْنِهِ صَغِيرًا، وَأَمَّا الرَّجُل الْكَبِير فَلَا يَحْسُن إِدْخَال الْيَد فِي جَيْبه وَالْمَسْح بَيْن ثَدْيَيْهِ، وَمِنْهَا جَوَاز إِمَامَة الْأَعْمَى الْبُصَرَاء، وَلَا خِلَاف فِي جَوَاز ذَلِكَ، لَكِنْ اِخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَل عَلَى ثَلَاثَة مَذَاهِب وَهِيَ ثَلَاثَة أَوْجُه لِأَصْحَابِنَا: أَحَدهَا إِمَامَة الْأَعْمَى أَفْضَل مِنْ إِمَامَة الْبَصِير لِأَنَّ الْأَعْمَى أَكْمَلَ خُشُوعًا لِعَدَمِ نَظَره إِلَى الْمُلْهِيَات، وَالثَّانِي الْبَصِير أَفْضَل لِأَنَّهُ أَكْثَر اِحْتِرَازًا مِنْ النَّجَاسَات، وَالثَّالِث هُمَا سَوَاء لِتَعَادُلِ فَضِيلَتهمَا، وَهَذَا الثَّالِث هُوَ الْأَصَحّ عِنْد أَصْحَابنَا، وَهُوَ نَصّ الشَّافِعِيّ.
وَمِنْهَا أَنَّ صَاحِب الْبَيْت أَحَقّ بِالْإِمَامَةِ مِنْ غَيْره، وَمِنْهَا جَوَاز الصَّلَاة فِي ثَوْب وَاحِد مَعَ التَّمَكُّن مِنْ الزِّيَادَة عَلَيْهِ، وَمِنْهَا جَوَاز تَسْمِيَة الثَّدْي لِلرَّجُلِ، وَفيه خِلَاف لِأَهْلِ اللُّغَة مِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ كَالْمَرْأَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ وَقَالَ يَخْتَصّ الثَّدْي بِالْمَرْأَةِ وَيُقَال فِي الرَّجُل: ثُنْدُوَة وَقَدْ سَبَقَ إِيضَاحه فِي أَوَائِل كِتَاب الْإِيمَان فِي حَدِيث الرَّجُل الَّذِي قَتَلَ نَفْسه فَقَالَ فيه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ مِنْ أَهْل النَّار».
وَقَوْله: (قَامَ فِي نِسَاجَة) هِيَ بِكَسْرِ النُّون وَتَخْفِيف السِّين الْمُهْمَلَة وَبِالْجِيمِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي نُسَخ بِلَادنَا وَرِوَايَاتنَا لِصَحِيحِ مُسْلِم وَسُنَن أَبِي دَاوُدَ، وَوَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ فِي (سَاجَة) بِحَذْفِ النُّون، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ رِوَايَة الْجُمْهُور قَالَ: وَهُوَ الصَّوَاب.
قَالَ: وَالسَّاجَة وَالسَّاج جَمِيعًا ثَوْب كَالطَّيْلَسَانِ وَشِبْهه.
قَالَ: وَرِوَايَة النُّون وَقَعَتْ فِي رِوَايَة الْفَارِسِيّ قَالَ: وَمَعْنَاهُ ثَوْب مُلَفَّق قَالَ: قَالَ بَعْضهمْ: النُّون خَطَأ وَتَصْحِيف قُلْت: لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ كِلَاهُمَا صَحِيح، وَيَكُون ثَوْبًا مُلَفَّقًا عَلَى هَيْئَة الطَّيْلَسَان.
قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِق: السَّاج وَالسَّاجَة الطَّيْلَسَان، وَجَمْعه (سِيجَان).
قَالَ: وَقِيلَ: هِيَ الْخَضِر مِنْهَا خَاصَّة.
وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ: هُوَ طَيْلَسَان مُقَوَّر يُنْسَج كَذَلِكَ.
قَالَ: وَقِيلَ: هُوَ الطَّيْلَسَان الْحَسَن قَالَ: وَيُقَال: الطَّيْلَسَان بِفَتْحِ اللَّام وَكَسْرهَا وَضَمّهَا وَهِيَ أَقَلّ.
وقَوْله: (وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَنْبه عَلَى الْمِشْجَب) هُوَ بِمِيمٍ مَكْسُورَة ثُمَّ شِين مُعْجَمَة سَاكِنَة ثُمَّ جِيم ثُمَّ بَاء مُوَحَّدَة وَهُوَ اِسْم لِأَعْوَادِ يُوضَع عَلَيْهَا الثِّيَاب وَمَتَاع الْبَيْت.
قَوْله: (أَخْبِرْنِي عَنْ حَجَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هِيَ بِكَسْرِ الْحَاء وَفَتْحهَا، وَالْمُرَاد حَجَّة الْوَدَاع.
قَوْله: (إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَثَ تِسْع سِنِينَ لَمْ يَحُجّ) يَعْنِي مَكَثَ بِالْمَدِينَةِ بَعْد الْهِجْرَة.
قَوْله: (ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاس فِي الْعَاشِرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجّ) مَعْنَاهُ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ وَأَشَاعَهُ بَيْنهمْ لِيَتَأَهَّبُوا لِلْحَجِّ مَعَهُ، وَيَتَعَلَّمُوا الْمَنَاسِك وَالْأَحْكَام، وَيَشْهَدُوا أَقْوَاله وَأَفْعَاله، وَيُوصِيهِمْ لِيُبَلِّغ الشَّاهِد الْغَائِب وَتَشِيع دَعْوَة الْإِسْلَام، وَتَبْلُغ الرِّسَالَة الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ، وَفيه أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِلْإِمَامِ إِيذَان النَّاس بِالْأُمُورِ الْمُهِمَّة لِيَتَأَهَّبُوا لَهَا.
قَوْله: (كُلّهمْ يَلْتَمِس أَنْ يَأْتَمّ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ كُلّهمْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَهُمْ لَا يُخَالِفُونَهُ، وَلِهَذَا قَالَ جَابِر: وَمَا عَمِلَ مِنْ شَيْء عَمِلْنَا بِهِ، وَمِثْله تَوَقُّفهمْ عَنْ التَّحَلُّل بِالْعُمْرَةِ، مَا لَمْ يَتَحَلَّل حَتَّى أَغْضَبُوهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ، وَمِثْله تَعْلِيق عَلِيّ وَأَبِي مُوسَى إِحْرَامهمَا عَلَى إِحْرَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَسْمَاءَ بِنْت عُمَيْس وَقَدْ وَلَدَتْ: «اِغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي» فيه اِسْتِحْبَاب غُسْل الْإِحْرَام لِلنُّفَسَاءِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه فِي بَاب مُسْتَقِلّ فيه أَمْر الْحَائِض وَالنُّفَسَاء وَالْمُسْتَحَاضَة بِالِاسْتِثْفَارِ وَهُوَ أَنْ تَشُدّ فِي وَسَطهَا شَيْئًا وَتَأْخُذ خِرْقَة عَرِيضَة تَجْعَلهَا عَلَى مَحَلّ الدَّم وَتَشُدّ طَرَفيها مِنْ قُدَّامهَا وَمِنْ وَرَائِهَا فِي ذَلِكَ الْمَشْدُود فِي وَسَطهَا، وَهُوَ شَبِيه بِثَفَر الدَّابَّة بِفَتْحِ الْفَاء.
وَفيه صِحَّة إِحْرَام النُّفَسَاء وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ» فيه اِسْتِحْبَاب رَكْعَتَيْ الْإِحْرَام، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَام فيه مَبْسُوطًا.
قَوْله: «ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاء» هِيَ بِفَتْحِ الْقَاف وَبِالْمَدِّ.
قَالَ الْقَاضِي: وَوَقَعَ فِي نُسْخَة الْعَذَرِيّ: «الْقُصْوَى» بِضَمِّ الْقَاف وَالْقَصْر.
قَالَ: وَهُوَ خَطَأ.
قَالَ الْقَاضِي: قَالَ اِبْن قُتَيْبَة: كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُوق: الْقَصْوَاء، وَالْجَدْعَاء، وَالْعَضْبَاء.
قَالَ أَبُو عُبَيْد: الْعَضْبَاء اِسْم لِنَاقَةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَمْ تُسَمَّ بِذَلِكَ لِشَيْءٍ أَصَابَهَا، قَالَ الْقَاضِي: قَدْ ذُكِرَ هُنَا أَنَّهُ رَكِبَ الْقَصْوَاء، وَفِي آخِر هَذَا الْحَدِيث: «خَطَبَ عَلَى الْقَصْوَاء»، وَفِي غَيْر مُسْلِم خَطَبَ: «عَلَى نَاقَته الْجَدْعَاء»، وَفِي حَدِيث آخَر: «عَلَى نَاقَة خَرْمَاء»، وَفِي آخَر: «الْعَضْبَاء»، وَفِي حَدِيث آخَر: «كَانَتْ لَهُ نَاقَة لَا تُسْبَق»، وَفِي آخَر تُسَمَّى: «مُخَضْرَمَة»، وَهَذَا كُلّه يَدُلّ عَلَى أَنَّهَا نَاقَة وَاحِدَة خِلَاف مَا قَالَهُ اِبْن قُتَيْبَة، وَأَنَّ هَذَا كَانَ اِسْمهَا أَوْ وَصْفهَا لِهَذَا الَّذِي بِهَا، خِلَاف مَا قَالَ أَبُو عُبَيْد، لَكِنْ يَأْتِي فِي كِتَاب النَّذْر أَنَّ الْقَصْوَاء غَيْر الْعَضْبَاء كَمَا سَنُبَيِّنُهُ هُنَاكَ.
قَالَ الْحَرْبِيّ: الْعَضْب وَالْجَدْع وَالْخَرْم وَالْقَصْو وَالْخَضْرَمَة فِي الْآذَان، قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ: الْقَصْوَاء الَّتِي قُطِعَ طَرَف أُذُنهَا، والْجَدْع أَكْثَر مِنْهُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ، وَالْقَصْو مِثْله قَالَ: وَكُلّ قَطْع فِي الْأُذُن جَدْع، فَإِنْ جَاوَزَ الرُّبْع فَهِيَ عَضْبَاء، وَالْمُخَضْرَم مَقْطُوع الْأُذُنَيْنِ، فَإِنْ اِصْطَلَمَتَا فَهِيَ صَلْمَاء.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْد: الْقَصْوَاء الْمَقْطُوعَة الْأُذُن عَرْضًا، وَالْمُخَضْرَمَة الْمُسْتَأْصَلَة وَالْمَقْطُوعَة النِّصْف فَمَا فَوْقه.
وَقَالَ الْخَلِيل: الْمُخَضْرَمَة مَقْطُوعَة الْوَاحِدَة، وَالْعَضْبَاء مَشْقُوقَة الْأُذُن.
قَالَ الْحَرْبِيّ: فَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْعَضْبَاء اِسْم لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ عَضْبَاء الْأُذُن فَقَدْ جُعِلَ اِسْمهَا.
هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيُّ التَّابِعِيّ وَغَيْره: إِنَّ الْعَضْبَاء وَالْقَصْوَاء وَالْجَدْعَاء اِسْم لِنَاقَةٍ وَاحِدَة كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «نَظَرْت إِلَى مَدّ بَصَرِي» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: «مَدّ بَصَرِي»، وَهُوَ صَحِيح، وَمَعْنَاهُ مُنْتَهَى بَصَرِي وَأَنْكَرَ بَعْض أَهْل اللُّغَة (مَدّ بَصَرِي)، وَقَالَ: الصَّوَاب (مَدَى بَصَرِي)، وَلَيْسَ هُوَ بِمُنْكَرٍ بَلْ هُمَا لُغَتَانِ الْمَدّ أَشْهَر.
قَوْله: «بَيْن يَدَيْهِ مِنْ رَاكِب وَمَاشٍ» فيه جَوَاز الْحَجّ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ دَلَائِل الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَإِجْمَاع الْأُمَّة.
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاس بِالْحَجِّ يَأْتُوك رِجَالًا وَعَلَى كُلّ ضَامِر} وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْأَفْضَل مِنْهُمَا، فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَجُمْهُور الْعُلَمَاء: الرُّكُوب أَفْضَل اِقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأَنَّهُ أَعْوَن لَهُ عَلَى وَظَائِف مَنَاسِكه، وَلِأَنَّهُ أَكْثَر نَفَقَة.
وَقَالَ دَاوُدُ: مَاشِيًا أَفْضَل لِمَشَقَّتِهِ.
وَهَذَا فَاسِد لِأَنَّ الْمَشَقَّة لَيْسَتْ مَطْلُوبَة.
قَوْله: (وَعَلَيْهِ يَنْزِل الْقُرْآن وَهُوَ يَعْرِف تَأْوِيله) مَعْنَاهُ الْحَثّ عَلَى التَّمَسُّك بِمَا أُخْبِركُمْ عَنْ فِعْله فِي حَجَّته تِلْكَ.
قَوْله: «فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ» يَعْنِي قَوْله: «لَبَّيْكَ لَا شَرِيك لَك» وَفيه إِشَارَة إِلَى مُخَالَفَة مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَقُول فِي تَلْبِيَتهَا مِنْ لَفْظ الشِّرْك، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْر تَلْبِيَتهمْ فِي بَاب التَّلْبِيَة.
قَوْله: «فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَا شَرِيك لَك لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة لَك وَالْمُلْك لَا شَرِيك لَك، وَأَهَلَّ النَّاس بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ فَلَمْ يَرُدّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنْهُ، وَلَزِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلْبِيَته» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: فيه إِشَارَة إِلَى مَا رُوِيَ مِنْ زِيَادَة النَّاس فِي التَّلْبِيَة مِنْ الثَّنَاء وَالذِّكْر كَمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَزِيد: «لَبَّيْكَ ذَا النَّعْمَاء وَالْفَضْل الْحَسَن لَبَّيْكَ مَرْهُوبًا مِنْك وَمَرْغُوبًا إِلَيْك»، وَعَنْ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْر بِيَدَيْك وَالرَّغْبَاء إِلَيْك وَالْعَمَل»، وَعَنْ أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «لَبَّيْكَ حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا».
قَالَ الْقَاضِي: قَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاء: الْمُسْتَحَبّ الِاقْتِصَار عَلَى تَلْبِيَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «قَالَ جَابِر لَسْنَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجّ لَسْنَا نَعْرِف الْعُمْرَة» فيه دَلِيل لِمَنْ قَالَ بِتَرْجِيحِ الْإِفْرَاد، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة مُسْتَقْصَاة فِي أَوَّل الْبَاب السَّابِق.
قَوْله: «حَتَّى أَتَيْنَا الْبَيْت» فيه بَيَان أَنَّ السُّنَّة لِلْحَاجِّ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّة قَبْل الْوُقُوف بِعَرَفَاتٍ لِيَطُوفُوا لِلْقُدُومِ وَغَيْر ذَلِكَ.
قَوْله: «حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْت مَعَهُ اِسْتَلَمَ الرُّكْن فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا» فيه أَنَّ الْمُحْرِم إِذَا دَخَلَ مَكَّة قَبْل الْوُقُوف بِعَرَفَاتٍ يُسَنّ لَهُ طَوَاف الْقُدُوم، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ، وَفيه أَنَّ الطَّوَاف سَبْع طَوَافَات، وَفيه أَنَّ السُّنَّة أَيْضًا الرَّمَل فِي الثَّلَاث الْأُوَل، وَيَمْشِي عَلَى عَادَته فِي الْأَرْبَع الْأَخِيرَة.
قَالَ الْعُلَمَاء: الرَّمَل هُوَ أَسْرَع الْمَشْي مَعَ تَقَارُب الْخُطَى، وَهُوَ الْخَبَب، قَالَ أَصْحَابنَا: وَلَا يُسْتَحَبّ الرَّمَل إِلَّا فِي طَوَاف وَاحِد فِي حَجّ أَوْ عُمْرَة.
أَمَّا إِذَا طَافَ فِي غَيْر حَجّ أَوْ عُمْرَة فَلَا رَمَل بِلَا خِلَاف.
وَلَا يُسْرِع أَيْضًا فِي كُلّ طَوَاف حَجّ، وَإِنَّمَا يُسْرِع فِي وَاحِد مِنْهَا، وَفيه قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلشَّافِعِيِّ.
أَصَحّهمَا طَوَافٌ يَعْقُبهُ سَعْي، وَيُتَصَوَّر ذَلِكَ فِي طَوَاف الْقُدُوم، وَيُتَصَوَّر فِي طَوَاف الْإِفَاضَة، وَلَا يُتَصَوَّر فِي طَوَاف الْوَدَاع، وَالْقَوْل الثَّانِي أَنَّهُ لَا يُسْرِع إِلَّا فِي طَوَاف الْقُدُوم سَوَاء أَرَادَ السَّعْي بَعْده أَمْ لَا، وَيُسْرِع فِي طَوَاف الْعُمْرَة إِذْ لَيْسَ فيه إِلَّا طَوَاف وَاحِد.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ أَصْحَابنَا: وَالِاضْطِبَاع سُنَّة فِي الطَّوَاف، وَقَدْ صَحَّ فيه الْحَدِيث فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا، وَهُوَ أَنْ يَجْعَل وَسَط رِدَائِهِ تَحْت عَاتِقه الْأَيْمَن، وَيَجْعَل طَرَفيه عَلَى عَاتِقه الْأَيْسَر، وَيَكُون مَنْكِبه الْأَيْمَن مَكْشُوفًا.
قَالُوا: وَإِنَّمَا يُسَنّ الِاضْطِبَاع فِي طَوَاف يُسَنّ فيه الرَّمَل عَلَى مَا سَبَقَ تَفْصِيله وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله: «اِسْتَلَمَ الرُّكْن» فَمَعْنَاهُ مَسَحَهُ بِيَدِهِ، وَهُوَ سُنَّة فِي كُلّ طَوَاف، وَسَيَأْتِي شَرْحه وَاضِحًا حَيْثُ ذَكَرَهُ مُسْلِم بَعْد هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
قَوْله: «ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَام إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَقَرَأَ: {وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَام إِبْرَاهِيم مُصَلًّى} فَجَعَلَ الْمَقَام بَيْنه وَبَيْن الْبَيْت» هَذَا دَلِيل لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاء أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ طَائِف إِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافه أَنْ يُصَلِّي خَلْف الْمَقَام رَكْعَتَيْ الطَّوَاف، وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُمَا وَاجِبَتَانِ أَمْ سُنَّة؟ وَعِنْدنَا فيه خِلَاف حَاصِله ثَلَاثَة أَقْوَال أَصَحّهَا أَنَّهُمَا سُنَّة، وَالثَّانِي أَنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ، وَالثَّالِث إِنْ كَانَ طَوَافًا وَاجِبًا فَوَاجِبَتَانِ، وَإِلَّا فَسُنَّتَانِ.
وَسَوَاء قُلْنَا: وَاجِبَتَانِ أَوْ سُنَّتَانِ لَوْ تَرَكَهُمَا لَمْ يَبْطُل طَوَافه، وَالسُّنَّة أَنْ يُصَلِّيهِمَا خَلْف الْمَقَام، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل فَفِي الْحِجْر، وَإِلَّا فَفِي الْمَسْجِد وَإِلَّا فَفِي مَكَّة وَسَائِر الْحَرَم، وَلَوْ صَلَّاهُمَا فِي وَطَنه وَغَيْره مِنْ أَقَاصِي الْأَرْض جَازَ وَفَاتَتْهُ الْفَضِيلَة، وَلَا تَفُوت هَذِهِ الصَّلَاة مَا دَامَ حَيًّا، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَطُوف أَطْوِفَة اُسْتُحِبَّ أَنْ يُصَلِّي عَقِب كُلّ طَوَاف رَكْعَتَيْهِ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَطُوف أَطْوِفَة بِلَا صَلَاة ثُمَّ يُصَلِّي بَعْد الْأَطْوِفَة لِكُلِّ طَوَاف رَكْعَتَيْهِ قَالَ أَصْحَابنَا: يَجُوز ذَلِكَ.
وَهُوَ خِلَاف الْأَوْلَى، وَلَا يُقَال: مَكْرُوه وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْمِسْوَر بْن مَخْرَمَة وَعَائِشَة وَطَاوُسٌ وَعَطَاء وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو يُوسُف، وَكَرِهَهُ اِبْن عُمَر وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالزُّهْرِيّ وَمَالِك وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَبُو ثَوْر وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن وَابْن الْمُنْذِر وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جُمْهُور الْفُقَهَاء.
قَوْله: (فَكَانَ أَبِي يَقُول: وَلَا أَعْلَمهُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأ فِي الرَّكْعَتَيْنِ {قُلْ هُوَ اللَّه أَحَد} وَ{قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ}) مَعْنَى هَذَا الْكَلَام أَنَّ جَعْفَر بْن مُحَمَّد رَوَى هَذَا الْحَدِيث عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِر قَالَ: كَانَ أَبِي يَعْنِي مُحَمَّدًا يَقُول: إِنَّهُ قَرَأَ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ.
قَالَ جَعْفَر: وَلَا أَعْلَم أَبِي ذَكَرَ تِلْكَ الْقِرَاءَة عَنْ قِرَاءَة جَابِر فِي صَلَاة جَابِر، بَلْ عَنْ جَابِر عَنْ قِرَاءَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاة هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ.
قَوْله: ({قُلْ هُوَ اللَّه أَحَد} و{قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ}) مَعْنَاهُ قَرَأَ فِي الرَّكْعَة الْأُولَى بَعْد الْفَاتِحَة: {قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ} وَفِي الثَّانِيَة بَعْد الْفَاتِحَة: {قُلْ هُوَ اللَّه أَحَد}.
وَأَمَّا قَوْله: (لَا أَعْلَم ذَكَرَهُ إِلَّا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لَيْسَ هُوَ شَكًّا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَة (الْعِلْم) تُنَافِي الشَّكّ، بَلْ جَزَمَ بِرَفْعِهِ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيح عَلَى شَرْط مُسْلِم عَنْ جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ بِالْبَيْتِ فَرَمَلَ مِنْ الْحَجَر الْأَسْوَد ثَلَاثًا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَرَأَ فيهمَا: {قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ} وَ{قُلْ هُوَ اللَّه أَحَد}.
قَوْله: «ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْن فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْبَاب إِلَى الصَّفَا» فيه دَلَالَة لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيّ وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِلطَّائِفِ طَوَاف الْقُدُوم إِذَا فَرَغَ مِنْ الطَّوَاف وَصَلَاته خَلْف الْمَقَام أَنْ يَعُود إِلَى الْحَجَر الْأَسْوَد فَيَسْتَلِمهُ، ثُمَّ يَخْرُج بَاب الصَّفَا لِيَسْعَى.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِلَام لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَإِنَّمَا هُوَ سُنَّة لَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَلْزَمهُ دَم.
قَوْله: «ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْبَاب إِلَى الصَّفَا فَلَمَّا دَنَا مِنْ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَة مِنْ شَعَائِر اللَّه} أَبْدَأ بِمَا بَدَأَ اللَّه بِهِ فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْت فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَة فَوَحَّدَ اللَّه وَكَبَّرَ وَقَالَ: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده أَنْجَزَ وَعْده وَنَصَرَ عَبْده وَهَزَمَ الْأَحْزَاب وَحْده ثُمَّ دَعَا بَيْن ذَلِكَ قَالَ مِثْل هَذَا ثَلَاث مَرَّات ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَة».
فِي هَذَا اللَّفْظ أَنْوَاع مِنْ الْمَنَاسِك مِنْهَا أَنَّ السَّعْي يُشْتَرَط فيه أَنْ يُبْدَأ مِنْ الصَّفَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَالْجُمْهُور، وَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيث بِإِسْنَادٍ صَحِيح أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اِبْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّه بِهِ» هَكَذَا بِصِيغَةِ الْجَمْع.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْقَى عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَة، وَفِي هَذَا الرُّقِيّ خِلَاف قَالَ جُمْهُور أَصْحَابنَا: هُوَ سُنَّة لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَا وَاجِب، فَلَوْ تَرَكَهُ صَحَّ سَعْيه لَكِنْ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَة.
وَقَالَ أَبُو حَفْص بْن الْوَكِيل مِنْ أَصْحَابنَا: لَا يَصِحّ سَعْيه حَتَّى يَصْعَد عَلَى شَيْء مِنْ الصَّفَا وَالصَّوَاب الْأَوَّل.
قَالَ أَصْحَابنَا: لَكِنْ يُشْتَرَط أَلَّا يَتْرُك شَيْئًا مِنْ الْمَسَافَة بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة فَلْيُلْصِقْ عَقِبَيْهِ بِدَرَجِ الصَّفَا، إِذَا وَصَلَ الْمَرْوَة أَلْصَقَ أَصَابِع رِجْلَيْهِ بِدَرَجِهَا، وَهَكَذَا فِي الْمَرَّات السَّبْع يُشْتَرَط فِي كُلّ مَرَّة أَنْ يُلْصِق عَقِبَيْهِ بِمَا يَبْدَأ مِنْهُ، وَأَصَابِعه بِمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ.
قَالَ أَصْحَابنَا: يُسْتَحَبّ أَنْ يَرْقَى عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَة حَتَّى يَرَى الْبَيْت إِنْ أَمْكَنَهُ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُسَنّ أَنْ يَقِف عَلَى الصَّفَا مُسْتَقْبِل الْكَعْبَة وَيَذْكُر اللَّه تَعَالَى بِهَذَا الذِّكْر الْمَذْكُور، وَيَدْعُو وَيُكَرِّر الذِّكْر وَالدُّعَاء ثَلَاث مَرَّات.
هَذَا هُوَ الْمَشْهُور عِنْد أَصْحَابنَا.
وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابنَا: يُكَرِّر الذِّكْر ثَلَاثًا، وَالدُّعَاء مَرَّتَيْنِ فَقَطْ.
وَالصَّوَاب الْأَوَّل.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَهَزَمَ الْأَحْزَاب وَحْده» مَعْنَاهُ هَزَمَهُمْ بِغَيْرِ قِتَال مِنْ الْآدَمِيِّينَ، وَلَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتهمْ، وَالْمُرَاد بِالْأَحْزَابِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم الْخَنْدَق، وَكَانَ الْخَنْدَق فِي شَوَّال سَنَة أَرْبَع مِنْ الْهِجْرَة، وَقِيلَ سَنَة خَمْس.
قَوْله: «ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَة حَتَّى اِنْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْن الْوَادِي حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَة» هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ جَمِيع النُّسَخ.
قَالَ: وَفيه إِسْقَاط لَفْظَة لابد مِنْهَا وَهِيَ: «حَتَّى اِنْصَبَّتْ قَدَمَاهُ رَمَلَ فِي بَطْن الْوَادِي»، ولابد مِنْهَا، وَقَدْ ثَبَتَتْ هَذِهِ اللَّفْظَة فِي غَيْر رِوَايَة مُسْلِم، وَكَذَا ذَكَرَهَا الْحُمَيْدِيّ فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ وَفِي الْمُوَطَّإِ: «حَتَّى إِذَا اِنْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْن الْوَادِي سَعَى حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ»، وَهُوَ بِمَعْنَى رَمَلَ.
هَذَا كَلَام الْقَاضِي.
وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْض نُسَخ صَحِيح مُسْلِم: «حَتَّى إِذَا اِنْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْن الْوَادِي سَعَى» كَمَا وَقَعَ فِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْره وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث اِسْتِحْبَ