باب صلاة الكسوف وذكر عذاب القبر فيها وما عرض للنبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف عن الجنة والنار
باب صلاة الكسوف وذكر عذاب القبر فيها وما عرض للنب
يُقَال:
كَسَفَتْ الشَّمْس وَالْقَمَر بِفَتْحِ الْكَاف وَكُسِفَا بِضَمِّهَا وَانْكَسَفَا وَخَسَفَا وَخُسِفَا وَانْخَسَفَا بِمَعْنًى.
وَقِيلَ: كَسَفَ الشَّمْس بِالْكَافِ، وَخَسَفَ الْقَمَر بِالْخَاءِ.
وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض عَكْسه عَنْ بَعْض أَهْل اللُّغَة وَالْمُتَقَدِّمِينَ، وَهُوَ بَاطِل مَرْدُود بِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {وَخَسَفَ الْقَمَر} ثُمَّ جُمْهُور أَهْل الْعِلْم وَغَيْرهمْ عَلَى أَنَّ الْخُسُوف وَالْكُسُوف يَكُون لِذَهَابِ ضَوْئِهِمَا كُلّه، وَيَكُون لِذَهَابِ بَعْضه.
وَقَالَ جَمَاعَة مِنْهُمْ الْإِمَام اللَّيْث بْن سَعْد: الْخُسُوف فِي الْجَمِيع، وَالْكُسُوف فِي بَعْض.
وَقِيلَ: الْخُسُوف ذَهَاب لَوْنهمَا، وَالْكُسُوف تَغَيُّره.
وَاعْلَمْ أَنَّ صَلَاة الْكُسُوف رُوِيَتْ عَلَى أَوْجُه كَثِيرَة ذَكَرَ مُسْلِم مِنْهَا جُمْلَة وَأَبُو دَاوُدَ أُخْرَى، وَغَيْرهمَا أُخْرَى، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهَا سُنَّة، وَمَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَجُمْهُور الْعُلَمَاء أَنَّهُ يُسَنّ فِعْلهَا جَمَاعَة، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ فُرَادَى، وَحُجَّة الْجُمْهُور الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي مُسْلِم وَغَيْره، وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَتهَا فَالْمَشْهُور فِي مَذْهَب الشَّافِعِيّ أَنَّهَا رَكْعَتَانِ فِي كُلّ رَكْعَة قِيَامَانِ وَقِرَاءَتَانِ وَرُكُوعَانِ، وَأَمَّا السُّجُود فَسَجْدَتَانِ كَغَيْرِهِمَا وَسَوَاء تَمَادَى الْكُسُوف أَمْ لَا، وَبِهَذَا قَالَ مَالِك وَاللَّيْث وَأَحْمَد وَأَبُو ثَوْر وَجُمْهُور عُلَمَاء الْحِجَاز وَغَيْرهمْ.
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: هُمَا رَكْعَتَانِ كَسَائِرِ النَّوَافِل عَمَلًا بِظَاهِرِ حَدِيث جَابِر بْن سَمُرَة وَأَبِي بَكْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَحُجَّة الْجُمْهُور حَدِيث عَائِشَة مِنْ رِوَايَة عُرْوَة وَعَمْرَة وَحَدِيث جَابِر وَابْن عَبَّاس وَابْن عَمْرو بْن الْعَاصِ أَنَّهَا رَكْعَتَانِ فِي كُلّ رَكْعَة رُكُوعَانِ وَسَجْدَتَانِ.
قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: وَهَذَا أَصَحُّ مَا فِي هَذَا الْبَاب.
قَالَ: وَبَاقِي الرِّوَايَات الْمُخَالِفَة مُعَلَّلَة ضَعِيفَة، وَحَمَلُوا حَدِيث اِبْن سَمُرَة بِأَنَّهُ مُطْلَق وَهَذِهِ الْأَحَادِيث تُبَيِّن الْمُرَاد بِهِ، وَذَكَرَ مُسْلِم فِي رِوَايَة عَنْ عَائِشَة وَعَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَنْ جَابِر رَكْعَتَيْنِ فِي كُلّ رَكْعَة ثَلَاث رَكَعَات، وَمِنْ رِوَايَة اِبْن عَبَّاس وَعَلِيّ رَكْعَتَيْنِ فِي كُلّ رَكْعَة أَرْبَع رَكَعَات.
قَالَ الْحُفَّاظ: الرِّوَايَات الْأُوَل أَصَحّ، وَرُوَاتهَا أَحْفَظ وَأَضْبَط، وَفِي رِوَايَة لِأَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَة أُبَيّ بْن كَعْب رَكْعَتَيْنِ فِي كُلّ رَكْعَة خَمْس رَكَعَات، وَقَدْ قَالَ بِكُلِّ نَوْع بَعْض الصَّحَابَة، وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابنَا الْفُقَهَاء الْمُحَدِّثِينَ وَجَمَاعَة مِنْ غَيْرهمْ: هَذَا الِاخْتِلَاف فِي الرِّوَايَات بِحَسَبِ اِخْتِلَاف حَال الْكُسُوف، فَفِي بَعْض الْأَوْقَات تَأَخَّرَ اِنْجِلَاء الْكُسُوف فَزَادَ عَدَد الرَّكَعَات، وَفِي بَعْضهَا أَسْرَعَ الِانْجِلَاء فَاقْتَصَرَ، وَفِي بَعْضهَا تَوَسَّطَ بَيْن الْإِسْرَاع وَالتَّأَخُّر فَتَوَسَّطَ فِي عَدَده، وَاعْتَرَضَ الْأَوَّلُونَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ تَأَخُّر الِانْجِلَاء لَا يُعْلَم فِي أَوَّل الْحَال وَلَا فِي الرَّكْعَة الْأُولَى وَقَدْ اِتَّفَقَتْ الرِّوَايَات عَلَى أَنَّ عَدَد الرُّكُوع فِي الرَّكْعَتَيْنِ سَوَاء، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُود فِي نَفْسه، مَنْوِيّ مِنْ أَوَّل الْحَال.
وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء مِنْهُمْ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ وَابْن جَرِير وَابْن الْمُنْذِر: جَرَتْ صَلَاة الْكُسُوف فِي أَوْقَات، وَاخْتِلَاف صِفَاتهَا مَحْمُول عَلَى بَيَان جَوَاز جَمِيع ذَلِكَ، فَتَجُوز صَلَاتهَا عَلَى كُلّ وَاحِد مِنْ الْأَنْوَاع الثَّابِتَة، وَهَذَا قَوِيّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ يَقْرَأ الْفَاتِحَة فِي الْقِيَام الْأَوَّل مِنْ كُلّ رَكْعَة، وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِيَام الثَّانِي، فَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب مَالِك وَجُمْهُور أَصْحَابه أَنَّهُ لَا تَصِحّ الصَّلَاة إِلَّا بِقِرَاءَتِهَا فيه، وَقَالَ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ مِنْ الْمَالِكِيَّة: لَا يَقْرَأ الْفَاتِحَة فِي الْقِيَام الثَّانِي، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقِيَام الثَّانِي وَالرُّكُوع الثَّانِي مِنْ الرَّكْعَة الْأُولَى أَقْصَر مِنْ الْقِيَام الْأَوَّل وَالرُّكُوع، وَكَذَا الْقِيَام الثَّانِي وَالرُّكُوع الثَّانِي مِنْ الرَّكْعَة الثَّانِيَة أَقْصَر مِنْ الْأَوَّل مِنْهُمَا مِنْ الثَّانِيَة.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِيَام الْأَوَّل وَالرُّكُوع الْأَوَّل مِنْ الثَّانِيَة هَلْ هُمَا أَقْصَر مِنْ الْقِيَام الثَّانِي وَالرُّكُوع الثَّانِي مِنْ الرَّكْعَة الْأُولَى؟ وَيَكُون هَذَا مَعْنَى قَوْله فِي الْحَدِيث: «وَهُوَ دُون الْقِيَام الْأَوَّل وَدُون الرُّكُوع الْأَوَّل» أَمْ يَكُونَانِ سَوَاء وَيَكُون قَوْله: «دُون الْقِيَام وَالرُّكُوع الْأَوَّل» أَيْ أَوَّل قِيَام وَأَوَّل رُكُوع.
وَاتَّفَقُوا عَلَى اِسْتِحْبَاب إِطَالَة الْقِرَاءَة وَالرُّكُوع فيهمَا كَمَا جَاءَتْ الْأَحَادِيث.
وَلَوْ اِقْتَصَرَ عَلَى الْفَاتِحَة فِي كُلّ قِيَام وَأَدَّى طُمَأْنِينَته فِي كُلّ رُكُوع صَحَّتْ صَلَاته وَفَاته الْفَضِيلَة.
وَاخْتَلَفُوا فِي اِسْتِحْبَاب إِطَالَة السُّجُود فَقَالَ جُمْهُور أَصْحَابنَا: لَا يُطَوِّلُهُ بَلْ يَقْتَصِر عَلَى قَدْره فِي سَائِر الصَّلَوَات.
وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ: يُسْتَحَبّ إِطَالَته نَحْو الرُّكُوع الَّذِي قَبْله، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوص لِلشَّافِعِيِّ فِي الْبُوَيْطِيِّ، وَهُوَ الصَّحِيح لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة فِي ذَلِكَ.
وَيَقُول فِي كُلّ رَفْع مِنْ رُكُوع: سَمِعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ يَقُول عَقِبه: رَبّنَا لَك الْحَمْد إِلَى آخِره.
وَالْأَصَحّ اِسْتِحْبَاب التَّعَوُّذ فِي اِبْتِدَاء الْفَاتِحَة فِي كُلّ قِيَام، وَقِيلَ: يَقْتَصِر عَلَيْهِ فِي الْقِيَام الْأَوَّل.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْخُطْبَة لِصَلَاةِ الْكُسُوف فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَابْن جَرِير وَفُقَهَاء أَصْحَاب الْحَدِيث: يُسْتَحَبّ بَعْدهَا خُطْبَتَانِ، وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة: لَا يُسْتَحَبّ ذَلِكَ.
وَدَلِيل الشَّافِعِيّ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ بَعْد صَلَاة الْكُسُوف.
✯✯✯✯✯✯
1499- قَوْله: «فَأَطَالَ الْقِيَام جِدًّا، وَأَطَالَ الرُّكُوع جِدًّا، ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَام» هَذَا مِمَّا يَحْتَجّ بِهِ مَنْ يَقُول لَا يُطَوِّل السُّجُود، وَحُجَّة الْآخَرِينَ الْأَحَادِيث الْمُصَرِّحَة بِتَطْوِيلِهِ، وَيُحْمَل هَذَا الْمُطْلَق عَلَيْهَا.
وَقَوْله: (جِدًّا) بِكَسْرِ الْجِيم وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى الْمَصْدَر أَيْ جِدًّا جِدًّا.
قَوْله بَعْد أَنْ وَصَفَ الصَّلَاة: «ثُمَّ اِنْصَرَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْس فَخَطَبَ النَّاس» فيه دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ فِي اِسْتِحْبَاب الْخُطْبَة بَعْد صَلَاة الْكُسُوف كَمَا سَبَقَ بَيَانه، وَفيه أَنَّ الْخُطْبَة لَا تَفُوت بِالِانْجِلَاءِ بِخِلَافِ الصَّلَاة.
قَوْله: «فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ» دَلِيل عَلَى أَنَّ الْخُطْبَة يَكُون أَوَّلهَا الْحَمْد لِلَّهِ وَالثَّنَاء عَلَيْهِ.
وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ أَنَّ لَفْظَة الْحَمْد لِلَّهِ مُتَعَيِّنَة فَلَوْ قَالَ مَعْنَاهَا لَمْ تَصِحّ خُطْبَته.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحَادِيث الْبَاب: «إِنَّ الشَّمْس وَالْقَمَر آيَتَانِ مِنْ آيَات اللَّه لَا يُخْسَفَانِ لِمَوْتِ أَحَد وَلَا لِحَيَاتِهِ» وَفِي رِوَايَة أَنَّهُمْ قَالُوا: كَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيم فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْكَلَام رَدًّا عَلَيْهِمْ.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْحِكْمَة فِي هَذَا الْكَلَام أَنَّ بَعْض الْجَاهِلِيَّة الضُّلَّال كَانُوا يُعَظِّمُونَ الشَّمْس وَالْقَمَر فَبَيَّنَ أَنَّهُمَا آيَتَانِ مَخْلُوقَتَانِ لِلَّهِ تَعَالَى لَا صُنْع لَهُمَا، بَلْ هُمَا كَسَائِرِ الْمَخْلُوقَات يَطْرَأ عَلَيْهِمَا النَّقْص وَالتَّغَيُّر كَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ بَعْض الضُّلَّال مِنْ الْمُنَجِّمِينَ وَغَيْرهمْ يَقُول: لَا يَنْكَسِفَانِ إِلَّا لِمَوْتِ عَظِيم أَوْ نَحْو ذَلِكَ، فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا بَاطِل لَا يُغْتَرّ بِأَقْوَالِهِمْ لاسيما وَقَدْ صَادَفَ مَوْت إِبْرَاهِيم رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَكَبِّرُوا وَادْعُوا اللَّه وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا» فيه الْحَثّ عَلَى هَذِهِ الطَّاعَات وَهُوَ أَمْر اِسْتِحْبَاب.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أُمَّة مُحَمَّد إِنْ مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّه تَعَالَى» هُوَ بِكَسْرِ هَمْزَة (إِنَّ) وَإِسْكَان النُّون أَيْ مَا مِنْ أَحَد أَغْيَر مِنْ اللَّه.
قَالُوا: مَعْنَاهُ لَيْسَ أَحَد مَنَعَ مِنْ الْمَعَاصِي مِنْ اللَّه تَعَالَى، وَلَا أَشَدّ كَرَاهَة لَهَا مِنْهُ سُبْحَانه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أُمَّة مُحَمَّد وَاَللَّه لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَم لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا» مَعْنَاهُ لَوْ تَعْلَمُونَ مِنْ عِظَم اِنْتِقَام اللَّه تَعَالَى مِنْ أَهْل الْجَرَائِم وَشِدَّة عِقَابه وَأَهْوَال الْقِيَامَة وَمَا بَعْدهَا كَمَا عَلِمْت، وَتَرَوْنَ النَّار كَمَا رَأَيْت فِي مَقَامِي هَذَا لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَقَلَّ ضَحِككُمْ لِفِكْرِكُمْ فِيمَا عَلِمْتُمُوهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا هَلْ بَلَّغْت» مَعْنَاهُ مَا أُمْرِتُ بِهِ مِنْ التَّحْذِير وَالْإِنْذَار وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا أُرْسِلَ بِهِ، وَالْمُرَاد تَحْرِيضهمْ عَلَى تَحَفُّظه وَاعْتِنَائِهِمْ بِهِ لِأَنَّهُ مَأْمُور بِإِنْذَارِهِمْ.
✯✯✯✯✯✯
1500- قَوْله: «فَخَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِد فَقَامَ فَكَبَّرَ وَصَفَّ النَّاس وَرَاءَهُ» فيه إِثْبَات صَلَاة الْكُسُوف، وَفيه اِسْتِحْبَاب فِعْلهَا فِي الْمَسْجِد الَّذِي تُصَلَّى فيه الْجُمُعَة.
قَالَ أَصْحَابنَا: وَإِنَّمَا لَمْ يَخْرُج إِلَى الْمُصَلَّى لِخَوْفِ فَوَاتهَا بِالِانْجِلَاءِ فَالسُّنَّة الْمُبَادَرَة بِهَا.
وَفيه اِسْتِحْبَابهَا جَمَاعَة، وَتَجُوز فُرَادَى، وَتُشْرَع لِلْمَرْأَةِ وَالْعَبْد وَالْمُسَافِر وَسَائِر مَنْ تَصِحّ صَلَاته.
قَوْلهَا: «ثُمَّ رَفَعَ رَأْسه فَقَالَ: سَمِعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ رَبّنَا وَلَك الْحَمْد وَقَالَ فِي الرَّفْع مِنْ الرُّكُوع الثَّانِي مِثْله» فيه دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب الْجَمْع بَيْن هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فِي صِفَة سَائِر الصَّلَاة، وَهُوَ مُسْتَحَبّ عِنْدنَا لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُوم وَالْمُنْفَرِد يُسْتَحَبّ لِكُلِّ أَحَد الْجَمْع بَيْنهمَا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب الْجَمْع بَيْنهمَا فِي كُلّ رَفْع مِنْ الرُّكُوع فِي الْكُسُوف سَوَاء الرُّكُوع الْأَوَّل وَالثَّانِي.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَافْزَعُوا لِلصَّلَاةِ» وَفِي رِوَايَة: «فَصَلُّوا حَتَّى يُفَرِّج اللَّه عَنْكُمْ» مَعْنَاهُ: بَادِرُوا بِالصَّلَاةِ وَأَسْرِعُوا إِلَيْهَا حَتَّى يَزُول عَنْكُمْ هَذَا الْعَارِض الَّذِي يُخَاف كَوْنه مُقَدِّمَة عَذَاب.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حِين رَأَيْتُمُونِي جَعَلْت أُقَدِّم» ضَبَطْنَاهُ بِضَمِّ الْهَمْزَة وَفَتْح الْقَاف وَكَسْر الدَّال الْمُشَدَّدَة وَمَعْنَاهُ أُقَدِّم نَفْسِي أَوْ رِجْلِي، وَكَذَا صَرَّحَ الْقَاضِي عِيَاض بِضَبْطِهِ، وَضَبَطَهُ جَمَاعَة أَقْدُم بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَإِسْكَان الْقَاف وَضَمِّ الدَّال وَهُوَ مِنْ الْإِقْدَام وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَقَدْ رَأَيْت جَهَنَّم» فيه أَنَّهَا مَخْلُوقَة مَوْجُودَة، وَهُوَ مَذْهَب أَهْل السُّنَّة وَمَعْنَى: «يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا» لِشِدَّةِ تَلْهِيبهَا وَاضْطِرَابهَا كَأَمْوَاجِ الْبَحْر الَّتِي يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَرَأَيْت فيها عَمْرو بْن لُحَيّ» هُوَ بِضَمِّ اللَّام وَفَتْح الْحَاء وَتَشْدِيد الْيَاء وَفيه دَلِيل عَلَى أَنَّ بَعْض النَّاس مُعَذَّب فِي نَفْس جَهَنَّم الْيَوْم عَافَانَا اللَّه وَسَائِر الْمُسْلِمِينَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حِين رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْت» فيه التَّأَخُّر عَنْ مَوَاضِع الْعَذَاب وَالْهَلَاك.
✯✯✯✯✯✯
1501- قَوْله: «فَبَعَثَ مُنَادِيًا بِالصَّلَاةِ جَامِعَة» لَفْظَة: «جَامِعَة» مَنْصُوبَة عَلَى الْحَال وَفيه دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبّ أَنْ يُنَادَى لِصَلَاةِ الْكُسُوف الصَّلَاة جَامِعَة، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يُؤَذَّن لَهَا وَلَا يُقَام.
✯✯✯✯✯✯
1502- قَوْله: «جَهَرَ فِي صَلَاة الْخُسُوف» هَذَا عِنْد أَصْحَابنَا وَالْجُمْهُور مَحْمُول عَلَى كُسُوف الْقَمَر؛ لِأَنَّ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَاللَّيْث بْن سَعْد وَجُمْهُور الْفُقَهَاء أَنَّهُ يُسِرّ فِي كُسُوف الشَّمْس وَيَجْهَر فِي خُسُوف الْقَمَر.
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَغَيْرهمْ: يَجْهَر فيهمَا، وَتَمَسَّكُوا بِهَذَا الْحَدِيث.
وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّ الصَّحَابَة حَزَرُوا الْقِرَاءَة بِقَدْرِ الْبَقَرَة وَغَيْرهَا، وَلَوْ كَانَ جَهْرًا لَعُلِمَ قَدْرهَا بِلَا حَزْر، وَقَالَ اِبْن جَرِير الطَّبَرِيُّ: الْجَهْر وَالْإِسْرَار سَوَاء.
✯✯✯✯✯✯
1504- قَوْله: (حَدَّثَنِي مَنْ أُصَدِّق حَسِبْته يُرِيد عَائِشَة) هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخ بِلَادنَا، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ الْجُمْهُور وَعَنْ بَعْض رُوَاتهمْ (مَنْ أُصَدِّق حَدِيثه) يُرِيد عَائِشَة.
وَمَعْنَى اللَّفْظَيْنِ مُتَغَايِر فَعَلَى رِوَايَة الْجُمْهُور لَهُ حُكْم الْمُرْسَل إِنْ قُلْنَا بِمَذْهَبِ الْجُمْهُور إِنَّ قَوْله أَخْبَرَنِي الثِّقَة لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
قَوْله: «رَكْعَتَيْنِ فِي ثَلَاث رَكَعَات» أَيْ فِي كُلّ رَكْعَة ثَلَاثَة مَرَّات.
✯✯✯✯✯✯
1505- قَوْله: «سِتّ رَكَعَات وَأَرْبَع سَجَدَات» أَيْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي كُلّ رَكْعَتَيْنِ رُكُوع ثَلَاث مَرَّات وَسَجْدَتَانِ.
باب صلاة الكسوف وذكر عذاب القبر فيها وما عرض للنبباب صلاة الكسوف وذكر عذاب القبر فيها وما عرض للنبباب صلاة الكسوف وذكر عذاب القبر فيها وما عرض للنب