باب جواز دخول مكة بغير احرام
باب جواز دخول مكة بغير احرام
2417- قَوْله: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّة عَام الْفَتْح وَعَلَى رَأْسه مِغْفَر»، وَفِي رِوَايَة: «وَعَلَيْهِ عِمَامَة سَوْدَاء بِغَيْرِ إِحْرَام» وَفِي رِوَايَة: «خَطَبَ النَّاس وَعَلَيْهِ عِمَامَة سَوْدَاء» قَالَ الْقَاضِي: وَجْه الْجَمْع بَيْنهمَا أَنَّ أَوَّل دُخُوله كَانَ عَلَى رَأْسه الْمِغْفَر، ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ كَانَ عَلَى رَأْسه الْعِمَامَة بَعْد إِزَالَة الْمِغْفَر، بِدَلِيلِ قَوْله: «خَطَبَ النَّاس وَعَلَيْهِ عِمَامَة سَوْدَاء»؛ لِأَنَّ الْخُطْبَة إِنَّمَا كَانَتْ عِنْد بَاب الْكَعْبَة بَعْد تَمَام فَتْح مَكَّة، وَقَوْله: «دَخَلَ مَكَّة بِغَيْرِ إِحْرَام» هَذَا دَلِيل لِمَنْ يَقُول بِجَوَازِ دُخُول مَكَّة بِغَيْرِ إِحْرَام لِمَنْ لَمْ يُرِدْ نُسُكًا، سَوَاء كَانَ دُخُوله لِحَاجَةِ تُكَرَّر كَالْحَطَّابِ وَالْحَشَّاش وَالسَّقَّاء وَالصَّيَّاد وَغَيْرهمْ، أَمْ لَمْ تَتَكَرَّر كَالتَّاجِرِ وَالزَّائِر وَغَيْرهمَا، سَوَاء كَانَ آمِنًا أَوْ خَائِفًا، وَهَذَا أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ، وَبِهِ يُفْتِي أَصْحَابه، وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا يَجُوز دُخُولهَا بِغَيْرِ إِحْرَام إِنْ كَانَتْ حَاجَته لَا تُكَرَّر إِلَّا أَنْ يَكُون مُقَاتِلًا أَوْ خَائِفًا مِنْ قِتَال، أَوْ خَائِفًا مِنْ ظَالِم لَوْ ظَهَرَ، وَنَقَلَ الْقَاضِي نَحْو هَذَا عَنْ أَكْثَر الْعُلَمَاء.
قَوْله: «جَاءَهُ رَجُل فَقَالَ: اِبْن خَطَل مُتَعَلِّق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة فَقَالَ: اُقْتُلُوهُ» قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا قَتَلَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ اِرْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَام وَقَتَلَ مُسْلِمًا كَانَ يَخْدُمهُ، وَكَانَ يَهْجُو النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسُبّهُ، وَكَانَتْ لَهُ قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ قِيلَ: فَفِي الْحَدِيث الْآخَر مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِد فَهُوَ آمِن، فَكَيْف قَتَلَهُ وَهُوَ مُتَعَلِّق بِالْأَسْتَارِ؟ فَالْجَوَاب أَنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي الْأَمَان، بَلْ اِسْتَثْنَاهُ هُوَ وَابْن أَبِي سَرَح وَالْقَيْنَتَيْنِ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَإِنْ وُجِدَ مُتَعَلِّقًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة، كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي أَحَادِيث أُخَر، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَفِ بِالشَّرْطِ، بَلْ قَاتَلَ بَعْد ذَلِكَ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث حُجَّة لِمَالِك وَالشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِمَا فِي جَوَاز إِقَامَة الْحُدُود وَالْقِصَاص فِي حَرَم مَكَّة، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا يَجُوز، وَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ فِي السَّاعَة الَّتِي أُبِيحَتْ لَهُ، وَأَجَابَ أَصْحَابنَا بِأَنَّهَا إِنَّمَا أُبِيحَتْ سَاعَة الدُّخُول حَتَّى اِسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَأَذْعَنَ لَهُ أَهْلهَا، وَإِنَّمَا قَتَلَ اِبْن خَطَل بَعْد ذَلِكَ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاسْم اِبْن خَطَل: (عَبْد الْعُزَّى)، وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق: اِسْمه: (عَبْد اللَّه) وَقَالَ الْكَلْبِيّ: اِسْمه: (غَالِب بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد مَنَافِ بْن أَسْعَد بْن جَابِر بْن كَثِير بْن تَيْم بْن غَالِب) وَخَطَل: بِخَاءِ مُعْجَمَة وَطَاء مُهْمَلَة مَفْتُوحَتَيْنِ، قَالَ أَهْل السِّيَر: وَقِيلَ: سَعْد بْن حُرَيْث.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (قَرَأَتْ عَلَى مَالِك بْن أَنَس)، وَفِي رِوَايَة: «قُلْت لِمَالِكٍ: حَدَّثَك اِبْن شِهَاب عَنْ أَنَس» ثُمَّ قَالَ فِي آخِر الْحَدِيث: (فَقَالَ: نَعَمْ)، يَعْنِي فَقَالَ مَالِك، وَمَعْنَاهُ: أَحَدَّثَك اِبْن شِهَاب عَنْ أَنَس بِكَذَا؟ فَقَالَ مَالِك: نَعَمْ حَدَّثَنِي بِهِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي مَوَاضِع كَثِيرَة مِثْل هَذِهِ الْعِبَارَة، وَلَا يَقُول فِي آخِره (قَالَ: نَعَمْ) وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي اِشْتِرَاط.
قَوْله: (نَعَمْ) فِي آخِر مِثْل هَذِهِ الصُّورَة، وَهِيَ إِذَا قَرَأَ عَلَى الشَّيْخ قَائِلًا: أَخْبَرَك فُلَان أَوْ نَحْوه، وَالشَّيْخ مُصْغٍ لَهُ فَاهِم لِمَا يَقْرَأ غَيْر مُنْكِر، فَقَالَ بَعْض الشَّافِعِيِّينَ وَبَعْض أَهْل الظَّاهِر: لَا يَصِحّ السَّمَاع إِلَّا بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَنْطِق بِهَا لَمْ يَصِحّ السَّمَاع، وَقَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاء وَأَصْحَاب الْأُصُول: يُسْتَحَبّ قَوْله: (نَعَمْ)، وَلَا يُشْتَرَط نُطْقه بِشَيْءٍ، بَلْ يَصِحّ السَّمَاع مَعَ سُكُوته، وَالْحَالَة هَذِهِ اِكْتِفَاء بِظَاهِرِ الْحَال، فَإِنَّهُ لَا يَجُوز لِمُكَلَّفٍ أَنْ يُقِرّ عَلَى الْخَطَأ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَالَة، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة وَمَنْ قَالَ مِنْ السَّلَف: (نَعَمْ) إِنَّمَا قَالَهُ تَوْكِيدًا وَاحْتِيَاطًا لَا اِشْتِرَاطًا.
✯✯✯✯✯✯
2418- قَوْله: (مُعَاوِيَة بْن عَمَّار الدُّهْنِيّ) هُوَ بِضَمِّ الدَّال الْمُهْمَلَة وَإِسْكَان الْهَاء وَبِالنُّونِ مَنْسُوب إِلَى دُهْن، وَهُمْ بَطْن مِنْ بَجِيلَة، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنه بِإِسْكَانِ الْهَاء هُوَ الْمَشْهُور، وَيُقَال بِفَتْحِهَا، وَمِمَّنْ حَكَى الْفَتْح أَبُو سَعِيد السَّمْعَانِيّ فِي الْأَنْسَاب، وَالْحَافِظ عَبْد الْغَنِيّ الْمَقْدِسِيُّ.
قَوْله: «وَعَلَيْهِ عِمَامَة سَوْدَاء» فيه جَوَاز لِبَاس الثِّيَاب السُّود، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «خَطَبَ النَّاس وَعَلَيْهِ عِمَامَة سَوْدَاء» فيه جَوَاز لِبَاس الْأَسْوَد فِي الْخُطْبَة، وَإِنْ كَانَ الْأَبْيَض أَفْضَل مِنْهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح: «خَيْر ثِيَابكُمْ الْبَيَاض» وَأَمَّا لِبَاس الْخُطَبَاء السَّوَاد فِي حَال الْخُطْبَة فَجَائِز، وَلَكِنَّ الْأَفْضَل الْبَيَاض كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا لَبِسَ الْعِمَامَة السَّوْدَاء فِي هَذَا الْحَدِيث بَيَانًا لِلْجَوَازِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
2421- قَوْله: «كَأَنِّي أَنْظُر إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ عِمَامَة سَوْدَاء قَدْ أَرْخَى طَرَفيها بَيْن كَتِفيه» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا وَغَيْرهَا (طَرَفيها) بِالتَّثْنِيَةِ، وَكَذَا هُوَ فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ لِلْحُمَيْدِيّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاض أَنَّ الصَّوَاب الْمَعْرُوف (طَرَفهَا) بِالْإِفْرَادِ، وَأَنَّ بَعْضهمْ رَوَاهُ (طَرَفيها) بِالتَّثْنِيَةِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَسَيَأْتِي بَسْط حُكْم إِرْخَاء الْعِمَامَة فِي كِتَاب اللِّبَاس إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
باب جواز دخول مكة بغير احرام