باب ما انفق العبد من مال مولاه
باب ما انفق العبد من مال مولاه
1702- وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَجْر بَيْنكُمَا نِصْفَانِ» فَمَعْنَاهُ: قِسْمَانِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدهمَا أَكْثَر كَمَا قَالَ الشَّاعِر:إِذَا مُتّ كَانَ النَّاسُ نِصْفَانِ بَيْنَنَاوَأَشَارَ الْقَاضِي إِلَى أَنَّهُ يَحْتَمِل أَيْضًا أَنْ يَكُون سَوَاء، لِأَنَّ الْأَجْر فَضْل مِنْ اللَّه تَعَالَى يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء وَلَا هُوَ يُدْرَكُ بِقِيَاسٍ وَلَا هُوَ بِحَسَبِ الْأَعْمَال، بَلْ ذَلِكَ فَضْل اللَّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء وَالْمُخْتَار الْأَوَّل.
قَوْله: (مَوْلَى آبِي اللَّحْم) هُوَ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ وَكَسْرِ الْبَاءِ، قِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُل اللَّحْم، وَقِيلَ: لَا يَأْكُل مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ، وَاسْم (آبِي اللَّحْم) عَبْد اللَّه، وَقِيلَ: خَلَف.
وَقِيلَ: الْحُوَيْرِث الْغِفَارِيُّ.
وَهُوَ صَحَابِيٌّ اُسْتُشْهِدَ يَوْم حُنَيْنٍ، رَوَى عُمَيْر مَوْلَاهُ.
قَوْله: «كُنْت مَمْلُوكًا فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَأَتَصَدَّقُ مِنْ مَال مَوَالِيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْأَجْر بَيْنَكُمَا نِصْفَانِ» هَذَا مَحْمُول عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّهُ اِسْتَأْذَنَ فِي الصَّدَقَة بِقَدْرٍ يَعْلَمُ رِضَا سَيِّدِهِ بِهِ.
✯✯✯✯✯✯
1703- وَقَوْله: «أَمَرَنِي مَوْلَايَ أَنْ أُقَدِّدَ لَحْمًا، فَجَاءَنِي مِسْكِينٌ فَأَطْعَمْته، فَعَلِمَ ذَلِكَ مَوْلَايَ فَضَرَبَنِي، فَأَتَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: لِمَ ضَرَبْته؟ فَقَالَ: يُعْطِي طَعَامِي بِغَيْرِ أَنْ آمُرَهُ، فَقَالَ: الْأَجْرُ بَيْنَكُمَا» هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ عُمَيْرًا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ يَظُنّ أَنَّ مَوْلَاهُ يَرْضَى بِهِ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ مَوْلَاهُ، فَلِعُمَيْرٍ أَجْرٌ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ شَيْئًا يَعْتَقِدُهُ طَاعَةً بِنِيَّةِ الطَّاعَة، وَلِمَوْلَاهُ أَجْر؛ لِأَنَّ مَاله تَلِفَ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى: «الْأَجْر بَيْنَكُمَا» أَيْ لِكُلٍّ مِنْكُمَا أَجْر، وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّ أَجْر نَفْس الْمَال يَتَقَاسَمَانِهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذَا قَرِيبًا، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته مِنْ تَأْوِيله هُوَ الْمُعْتَمَد، وَقَدْ وَقَعَ فِي كَلَام بَعْضهمْ مَا لَا يُرْتَضَى مِنْ تَفْسِيره.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَجْر بَيْنكُمَا» لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَجْر الَّذِي لِأَحَدِهِمَا يَزْدَحِمَانِ فيه، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَة وَالصَّدَقَة الَّتِي أَخْرَجَهَا الْخَازِن أَوْ الْمَرْأَة أَوْ الْمَمْلُوك وَنَحْوهمْ بِإِذْنِ الْمَالِك، يَتَرَتَّب عَلَى جُمْلَتهَا ثَوَابٌ عَلَى قَدْر الْمَال وَالْعَمَل، فَيَكُون ذَلِكَ مَقْسُومًا بَيْنهمَا، لِهَذَا نَصِيب بِمَالِهِ، وَلِهَذَا نَصِيب بِعَمَلِهِ، فَلَا يُزَاحِم صَاحِب الْمَال الْعَامِل فِي نَصِيب عَمَله، وَلَا يُزَاحِم الْعَامِل صَاحِب الْمَال فِي نَصِيب مَاله.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لابد لِلْعَامِلِ- وَهُوَ الْخَازِن- وَلِلزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوك مِنْ إِذْن الْمَالِك فِي ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِذْنٌ أَصْلًا فَلَا أَجْر لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة، بَلْ عَلَيْهِمْ وِزْر بِتَصَرُّفِهِمْ فِي مَال غَيْرهمْ بِغَيْرِ إِذْنه.
وَالْإِذْن ضَرْبَانِ: أَحَدهمَا: الْإِذْن الصَّرِيح فِي النَّفَقَة وَالصَّدَقَة، وَالثَّانِي: الْإِذْن الْمَفْهُوم مِنْ اِطِّرَاد الْعُرْف وَالْعَادَة كَإِعْطَاءِ السَّائِل كِسْرَة وَنَحْوهَا مِمَّا جَرَتْ الْعَادَة بِهِ وَاطَّرَدَ الْعُرْف فيه، وَعُلِمَ بِالْعُرْفِ رِضَاء الزَّوْج وَالْمَالِك بِهِ، فَإِذْنه فِي ذَلِكَ حَاصِل وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّم، وَهَذَا إِذَا عَلِمَ رِضَاهُ لِاطِّرَادِ الْعُرْف وَعَلِمَ أَنَّ نَفْسه كَنُفُوسِ غَالِب النَّاس فِي السَّمَاحَة بِذَلِكَ وَالرِّضَا بِهِ، فَإِنْ اِضْطَرَبَ الْعُرْف وَشَكَّ فِي رِضَاهُ أَوْ كَانَ شَخْصًا يَشُحّ بِذَلِكَ وَعَلِمَ مِنْ حَاله ذَلِكَ أَوْ شَكَّ فيه لَمْ يَجُزْ لِلْمَرْأَةِ وَغَيْرهَا التَّصَدُّق مِنْ مَاله إِلَّا بِصَرِيحِ إِذْنه.
✯✯✯✯✯✯
1704- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَصُمْ الْمَرْأَة وَبَعْلهَا شَاهِد إِلَّا بِإِذْنِهِ» هَذَا مَحْمُول عَلَى صَوْم التَّطَوُّع وَالْمَنْدُوب الَّذِي لَيْسَ لَهُ زَمَن مُعَيَّن، وَهَذَا النَّهْي لِلتَّحْرِيمِ صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابنَا، وَسَبَبه أَنَّ الزَّوْج لَهُ حَقّ الِاسْتِمْتَاع بِهَا فِي كُلّ الْأَيَّام، وَحَقّه فيه وَاجِب عَلَى الْفَوْر فَلَا يَفُوتهُ بِتَطَوُّعٍ وَلَا بِوَاجِبٍ عَلَى التَّرَاخِي، فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوز لَهَا الصَّوْم بِغَيْرِ إِذْنه، فَإِنْ أَرَادَ الِاسْتِمْتَاع بِهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَيُفْسِد صَوْمهَا، فَالْجَوَاب: أَنَّ صَوْمهَا يَمْنَعهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاع فِي الْعَادَة؛ لِأَنَّهُ يَهَاب اِنْتَهَاك الصَّوْم بِالْإِفْسَادِ، وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَزَوْجهَا شَاهِد» أَيْ مُقِيم فِي الْبَلَد، أَمَّا إِذَا كَانَ مُسَافِرًا فَلَهَا الصَّوْم؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الِاسْتِمْتَاع إِذَا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تَأْذَن فِي بَيْته وَهُوَ شَاهِد إِلَّا بِإِذْنِهِ» فيه إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ لَا يُفْتَات عَلَى الزَّوْج وَغَيْره مِنْ مَالِكِي الْبُيُوت وَغَيْرهَا بِالْإِذْنِ فِي أَمْلَاكهمْ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ، وَهَذَا مَحْمُول عَلَى مَا لَا يُعْلَم رِضَا الزَّوْج وَنَحْوه بِهِ، فَإِنْ عَلِمَتْ الْمَرْأَة وَنَحْوهَا رِضَاهُ بِهِ جَازَ كَمَا سَبَقَ فِي النَّفَقَة.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبه مِنْ غَيْر أَمْره فَإِنَّ نِصْف أَجْره لَهُ» فَمَعْنَاهُ: مِنْ غَيْر أَمْره الصَّرِيح فِي ذَلِكَ الْقَدْر الْمُعَيَّن، وَيَكُون مَعَهَا إِذْن عَامٌّ سَابِقٌ مُتَنَاوِلٌ لِهَذَا الْقَدْر وَغَيْره، وَذَلِكَ الْإِذْن الَّذِي قَدْ أَوَّلْنَاهُ سَابِقًا إِمَّا بِالصَّرِيحِ وَإِمَّا بِالْعُرْفِ، ولابد مِنْ هَذَا التَّأْوِيل، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْأَجْر مُنَاصَفَة، وَفِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ: «فَلَهَا نِصْف أَجْره»، وَمَعْلُوم أَنَّهَا إِذَا أَنْفَقَتْ مِنْ غَيْر إِذْن صَرِيح وَلَا مَعْرُوف مِنْ الْعُرْف فَلَا أَجْر لَهَا، بَلْ عَلَيْهَا وِزْر، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيله.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا كُلّه مَفْرُوض فِي قَدْرٍ يَسِيرٍ يُعْلَم رِضَا الْمَالِك بِهِ فِي الْعَادَة، فَإِنْ زَادَ عَلَى الْمُتَعَارَف لَمْ يَجُزْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَة مِنْ طَعَام بَيْتهَا غَيْر مُفْسِدَة» فَأَشَارَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنَّهُ قَدْر يُعْلَم رِضَا الزَّوْج بِهِ فِي الْعَادَة، وَنَبَّهَ بِالطَّعَامِ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُسْمَح بِهِ فِي الْعَادَة بِخِلَافِ الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير فِي حَقّ أَكْثَر النَّاس، وَفِي كَثِير مِنْ الْأَحْوَال.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَاد بِنَفَقَةِ الْمَرْأَة وَالْعَبْد وَالْخَازِن النَّفَقَة عَلَى عِيَال صَاحِب الْمَال وَغِلْمَانه وَمَصَالِحه وَقَاصِدِيهِ مِنْ ضَيْف وَابْن سَبِيل وَنَحْوهمَا، وَكَذَلِكَ صَدَقَتهمْ الْمَأْذُون فيها بِالصَّرِيحِ أَوْ الْعُرْف.
وَاَللَّه أَعْلَم.
باب ما انفق العبد من مال مولاه
باب ما انفق العبد من مال مولاه