📁 آخر الأخبار

باب غزوة خيبر

 

 باب غزوة خيبر

 باب غزوة خيبر


3360- قَوْله: «فَصَلَّيْنَا عِنْدهَا صَلَاة الْغَدَاة بِغَلَسٍ» فيه: اِسْتِحْبَاب التَّبْكِير بِالصَّلَاةِ أَوَّل الْوَقْت، وَأَنَّهُ لَا يُكْرَه تَسْمِيَة صَلَاة الصُّبْح غَدَاة، فَيَكُون رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابنَا: إِنَّهُ مَكْرُوه، وَقَدْ سَبَقَ شَرْح حَدِيث أَنَس هَذَا فِي كِتَاب الْمُسَاقَاة، وَذَكَرْنَا أَنَّ فيه: جَوَاز الْإِرْدَاف عَلَى الدَّابَّة إِذَا كَانَتْ مُطِيقَة، وَأَنَّ إِجْرَاء الْفَرَس وَالْإِغَارَة لَيْسَ بِنَقْصٍ وَلَا هَادِم لِلْمُرُوءَةِ، بَلْ هُوَ سُنَّة وَفَضِيلَة، وَهُوَ مِنْ مَقَاصِد الْقِتَال.

قَوْله: «وَانْحَسَرَ الْإِزَار عَنْ فَخِذ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي لَأَرَى بَيَاض فَخِذ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» هَذَا مِمَّا اِسْتَدَلَّ بِهِ أَصْحَاب مَالِك وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى أَنَّ الْفَخِذ لَيْسَتْ عَوْرَة مِنْ الرَّجُل، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب آخَرِينَ أَنَّهَا عَوْرَة، وَقَدْ جَاءَتْ بِكَوْنِهَا عَوْرَة أَحَادِيث كَثِيرَة مَشْهُورَة، وَتَأَوَّلَ أَصْحَابنَا حَدِيث أَنَس رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ اِنْحَسَرَ بِغَيْرِ اِخْتِيَاره لِضَرُورَةِ الْإِغَارَة وَالْإِجْرَاء، وَلَيْسَ فيه أَنَّهُ اِسْتَدَامَ كَشْف الْفَخِذ مَعَ إِمْكَان السَّتْر، وَأَمَّا قَوْل أَنَس: «فَإِنِّي لَأَرَى بَيَاض فَخِذه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَمَحْمُول عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ بَصَره عَلَيْهِ فَجْأَة، لَا أَنَّهُ تَعَمَّدَهُ، وَأَمَّا رِوَايَة الْبُخَارِيّ عَنْ أَنَس رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَرَ الْإِزَار، فَمَحْمُولَة عَلَى أَنَّهُ اِنْحَسَرَ كَمَا فِي رِوَايَة مُسْلِم، وَأَجَابَ بَعْض أَصْحَاب مَالِك عَنْ هَذَا فَقَالَ: هُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّه تَعَالَى مِنْ أَنْ يَبْتَلِيه بِانْكِشَافِ عَوْرَته، وَأَصْحَابنَا يُجِيبُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ اِخْتِيَار الْإِنْسَان فَلَا نَقْص عَلَيْهِ فيه، وَلَا يَمْتَنِع مِثْله.

قَوْله: «اللَّه أَكْبَر خَرِبَتْ خَيْبَر» فيه: اِسْتِحْبَاب التَّكْبِير عِنْد اللِّقَاء، قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: تَفَاءَلَ بِخَرَابِهَا بِمَا رَآهُ فِي أَيْدِيهمْ مِنْ آلَاتِ الْخَرَاب مِنْ الْفُؤُوس وَالْمَسَاحِيّ وَغَيْرهَا، وَقِيلَ: أَخَذَهُ مِنْ اِسْمهَا، وَالْأَصَحّ أَنَّهُ أَعْلَمَهُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ.

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْم فَسَاءَ صَبَاح الْمُنْذَرِينَ» (السَّاحَة): الْفِنَاء، وَأَصْلهَا: الْفَضَاء بَيْن الْمَنَازِل، فَفيه: جَوَاز الِاسْتِشْهَاد فِي مِثْل هَذَا السِّيَاق بِالْقُرْآنِ فِي الْأُمُور الْمُحَقَّقَة، وَقَدْ جَاءَ لِهَذَا نَظَائِر كَثِيرَة، كَمَا سَبَقَ قَرِيبًا فِي فَتْح مَكَّة أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَل يَطْعُن فِي الْأَصْنَام وَيَقُول: «جَاءَ الْحَقّ وَمَا يُبْدِئ الْبَاطِل وَمَا يُعِيد، جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِل».

قَالَ الْعُلَمَاء: يُكْرَه مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَى ضَرْب الْأَمْثَال فِي الْمُحَاوَرَات وَالْمَزْح وَلَغْو الْحَدِيث، فَيُكْرَه فِي كُلّ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِكِتَابِ اللَّه تَعَالَى.

قَوْله: (مُحَمَّد) (وَالْخَمِيس) هُوَ الْجَيْش، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ قَالُوا: سُمِّيَ خَمِيسًا لِأَنَّهُ خَمْسَة أَقْسَام: مَيْمَنَة وَمَيْسَرَة وَمُقَدِّمَة وَمُؤَخِّرَة وَقَلْب، قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَيْنَاهُ بِرَفْعِ (الْخَمِيس) عَطْفًا عَلَى قَوْله (مُحَمَّد) وَبِنَصَبِهَا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول مَعَهُ.

قَوْله: (أَصَبْنَاهَا عَنْوَة) هِيَ بِفَتْحِ الْعَيْن، أَيْ: قَهْرًا لَا صُلْحًا، قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الْمَازِرِيُّ: ظَاهِر هَذَا أَنَّهَا كُلّهَا فُتِحَتْ عَنْوَة، وَقَدْ رَوَى مَالِك عَنْ اِبْن شِهَاب أَنَّ بَعْضهَا فُتِحَ عَنْوَة، وَبَعْضهَا صُلْحًا، قَالَ: وَقَدْ يُشْكِل مَا رُوِيَ فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ قَسَمَهَا نِصْفَيْنِ، نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ وَحَاجَته، وَنِصْفًا لِلْمُسْلِمِينَ.

قَالَ: وَجَوَابه مَا قَالَ بَعْضهمْ أَنَّهُ كَانَ حَوْلهَا ضِيَاع وَقُرَى أَجْلَى عَنْهَا أَهْلهَا، فَكَانَتْ خَالِصَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا سِوَاهَا لِلْغَانِمِينَ، فَكَانَ قَدْر الَّذِي خَلَوْا عَنْهُ النِّصْف، فَلِهَذَا قُسِمَ نِصْفَيْنِ، قَالَ الْقَاضِي: فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْإِغَارَة عَلَى الْعَدُوّ يُسْتَحَبّ كَوْنهَا أَوَّل النَّهَار عِنْد الصُّبْح، لِأَنَّهُ وَقْت غِرَّتهمْ وَغَفْلَة أَكْثَرهمْ، ثُمَّ يُضِيء لَهُمْ النَّهَار لِمَا يُحْتَاج إِلَيْهِ، بِخِلَافِ مُلَاقَاة الْجُيُوش وَمُصَافَفَتِهِمْ وَمُنَاصَبَة الْحُصُون؛ فَإِنَّ هَذَا يُسْتَحَبّ كَوْنه بَعْد الزَّوَال، لِيَدُومَ النَّشَاط بِبَرْدِ الْوَقْت بِخِلَافِ ضِدّه.

✯✯✯✯✯✯

‏3361- قَوْله: (وَخَرَجُوا بِفُؤُوسِهِمْ وَمَكَاتِلهمْ وَمُرُورهمْ) (الْفُؤُوس): بِالْهَمْزَةِ، جَمْع فَأْس بِالْهَمْزَةِ، كَرَأْسٍ وَرُءُوس، و(الْمَكَاتِل): جَمْع مِكْتَل بِكَسْرِ الْمِيم، وَهُوَ: الْقُفَّة، يُقَال لَهُ: مِكْتَل، وَقُفَّة وَزَبِيل وَزَنْبِل زِنْبِيل وَعِرْق وَسَفِيفَة بِالسِّينِ الْمُهْمَلَة وَبِفَاءَيْنِ، و(الْمُرُور): جَمْع مَرّ بِفَتْحِ الْمِيم وَهِيَ الْمَسَاحِيّ، قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: هِيَ حِبَالهمْ الَّتِي يَصْعَدُونَ بِهَا إِلَى النَّخْل، وَاحِدهَا: مَرّ وَمُرّ، وَقِيلَ: مَسَاحِيّهمْ وَاحِدهَا: مَرّ، لَا غَيْر.

✯✯✯✯✯✯

‏3363- قَوْله: (أَلَا تُسْمِعنَا مِنْ هُنَيَّاتك) وَفِي بَعْض النُّسَخ (مِنْ هُنَيْهَاتك) أَيْ: أَرَاجِيزك، وَالْهَنَة يَقَع عَلَى كُلّ شَيْء، وَفيه: جَوَاز إِنْشَاء الْأَرَاجِيز وَغَيْرهَا مِنْ الشِّعْر وَسَمَاعهَا مَا لَمْ يَكُنْ فيه كَلَام مَذْمُوم، وَالشِّعْر كَلَام حَسَنه حَسَن، وَقَبِيحه قَبِيح.

قَوْله: (فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ) فيه: اِسْتِحْبَاب الْحُدَا فِي الْأَسْفَار، لِتَنْشِيطِ النُّفُوس وَالدَّوَابّ عَلَى قَطْع الطَّرِيق وَاشْتِغَالهَا بِسَمَاعِهِ عَنْ الْإِحْسَاس بِأَلَمِ السَّيْر.

قَوْله: «اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اِهْتَدَيْنَا» كَذَا الرِّوَايَة قَالُوا وَصَوَابه فِي الْوَزْن (لَا هُمَّ أَوْ وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْتَ) كَمَا فِي الْحَدِيث الْآخَر: «فَوَاَللَّهِ لَوْلَا اللَّه».

قَوْله: «فَاغْفِرْ فِدَاء لَك مَا اِقْتَفَيْنَا» قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذِهِ اللَّفْظَة مُشْكِلَة، فَإِنَّهُ لَا يُقَال: فَدَى الْبَارِي سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَلَا يُقَال لَهُ سُبْحَانه: فَدَيْتُك؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُسْتَعْمَل فِي مَكْرُوه يُتَوَقَّع حُلُوله بِالشَّخْصِ فَيَخْتَار شَخْص آخَر أَنْ يَحِلّ ذَلِكَ بِهِ وَيَفْدِيه مِنْهُ، قَالَ: وَلَعَلَّ هَذَا مِنْ غَيْر قَصْد إِلَى حَقِيقَة مَعْنَاهُ، كَمَا يُقَال: قَاتَلَهُ اللَّه، وَلَا يُرَاد بِذَلِكَ حَقِيقَة الدُّعَاء عَلَيْهِ، وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَرِبَتْ يَدَاك وَتَرِبَتْ يَمِينك وَوَيْل أُمّه» وَفيه كُلّه ضَرْب مِنْ الِاسْتِعَارَة؛ لِأَنَّ الْفَادِي مُبَالِغ فِي طَلَب رِضَى الْمُفَدَى حِين بَذَلَ نَفْسه عَنْ نَفْسه لِلْمَكْرُوهِ، فَكَانَ مُرَاد الشَّاعِر أَنِّي أَبْذُل نَفْسِي فِي رِضَاك، وَعَلَى كُلّ حَال، فَإِنَّ الْمَعْنَى وَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفه إِلَى جِهَة صَحِيحَة، فَإِطْلَاق اللَّفْظ وَاسْتِعَارَته وَالتَّجَوُّز بِهِ يَفْتَقِر إِلَى وُرُود الشَّرْع بِالْإِذْنِ فيه، قَالَ: وَقَدْ يَكُون الْمُرَاد بِقَوْلِهِ: فِدَاء لَك رَجُلًا يُخَاطِبهُ، وَفَصَلَ بَيْن الْكَلَام، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَاغْفِرْ ثُمَّ دَعَا إِلَى رَجُل يُنَبِّههُ، فَقَالَ: فِدَاء لَك ثُمَّ عَادَ إِلَى تَمَام الْكَلَام الْأَوَّل فَقَالَ: مَا اِقْتَفَيْنَا، قَالَ: وَهَذَا تَأْوِيل يَصِحّ مَعَهُ اللَّفْظ، وَالْمَعْنَى لَوْلَا أَنَّ فيه تَعَسُّفًا اِضْطَرَّنَا إِلَيْهِ تَصْحِيح الْكَلَام، وَقَدْ يَقَع فِي كَلَام الْعَرَب مِنْ الْفَصْل بَيْن الْجُمَل الْمُعَلَّق بَعْضهَا بِبَعْضٍ مَا يُسَهِّل هَذَا التَّأْوِيل.

قَوْله: «إِذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا» هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخ بِلَادنَا (أَتَيْنَا) بِالْمُثَنَّاةِ فِي أَوَّله، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ رُوِيَ بِالْمُثَنَّاةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ، فَمَعْنَى الْمُثَنَّاة: إِذَا صِيحَ بِنَا لِلْقِتَالِ وَنَحْوه مِنْ الْمَكَارِم أَتَيْنَا، وَمَعْنَى الْمُوَحَّدَة: أَبَيْنَا الْفِرَار وَالِامْتِنَاع، قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: قَوْله: (فِدَاء لَك) بِالْمَدِّ وَالْقَصْر وَالْفَاء مَكْسُورَة، حَكَاهُ الْأَصْمَعِيّ وَغَيْره، فَأَمَّا فِي الْمَصْدَر فَالْمَدّ لَا غَيْر، قَالَ: وَحَكَى الْفَرَّاء (فَدًى لَك) مَفْتُوح مَقْصُور، قَالَ: وَرَوَيْنَاهُ هُنَا (فِدَاء لَك) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأ وَخَبَره، أَيْ لَك نَفْسِي فِدَاء، أَوْ نَفْسِي فِدَاء لَك، وَالنَّصْب عَلَى الْمَصْدَر.

 وَمَعْنَى: «اِقْتَفَيْنَا»: اِكْتَسَبْنَا، وَأَصْله الِاتِّبَاع.

قَوْله: «وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا» اِسْتَغَاثُوا بِنَا، وَاسْتَفْزَعُونَا لِلْقِتَالِ، قِيلَ: هِيَ مِنْ التَّعْوِيل عَلَى الشَّيْء وَهُوَ الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ، قِيلَ: مِنْ الْعَوِيل وَهُوَ الصَّوْت.

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ هَذَا السَّائِق؟ قَالُوا: عَامِر، قَالَ: يَرْحَمهُ اللَّه، قَالَ رَجُل مِنْ الْقَوْم: وَجَبَتْ يَا رَسُول اللَّه لَوْلَا أَمْتَعْتنَا بِهِ» مَعْنَى (وَجَبَتْ) أَيْ: ثَبَتَتْ لَهُ الشَّهَادَة، وَسَيَقَعُ قَرِيبًا، وَكَانَ هَذَا مَعْلُومًا عِنْدهمْ أَنَّ مَنْ دَعَا لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الدُّعَاء فِي هَذَا الْمَوْطِن اُسْتُشْهِدَ، فَقَالُوا: (هَلَّا أَمْتَعْتنَا بِهِ) أَيْ: وَدِدْنَا أَنَّك لَوْ أَخَّرْت الدُّعَاء لَهُ بِهَذَا إِلَى وَقْت آخَر؛ لِنَتَمَتَّع بِمُصَاحَبَتِهِ وَرُؤْيَته مُدَّة.

قَوْله: (أَصَابَتْنَا مَخْمَصَة شَدِيدَة) أَيْ جُوع شَدِيد.

قَوْله: (لَحْم حُمُر الْإِنْسِيَّة) هَكَذَا هُو: (حُمُر الْإِنْسِيَّة) بِإِضَافَةِ حُمُر، وَهُوَ مِنْ إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى صِفَته، وَسَبَقَ بَيَانه مَرَّات، فَعَلَى هَذَا قَوْل الْكُوفِيِّينَ هُوَ عَلَى ظَاهِره، وَعِنْد الْبَصْرِيِّينَ تَقْدِيره حُمُر الْحَيَوَانَات الْإِنْسِيَّة، وَأَمَّا (الْإِنْسِيَّة): فَفيها لُغَتَانِ وَرِوَايَتَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي عِيَاض وَآخَرُونَ، أَشْهَرهمَا: كَسْر الْهَمْزَة وَإِسْكَان النُّون.

قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ رِوَايَة أَكْثَر الشُّيُوخ، وَالثَّانِيَة: فَتْحهمَا جَمِيعًا، وَهُمَا جَمِيعًا نِسْبَة إِلَى الْإِنْس، وَهُمْ النَّاس، لِاخْتِلَاطِهَا بِالنَّاسِ بِخِلَافِ حُمُر الْوَحْش.

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا» هَذَا يَدُلّ عَلَى نَجَاسَة لُحُوم الْحُمُر الْأَهْلِيَّة، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذَا الْحَدِيث وَشَرْحه مَعَ بَيَان هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي كِتَاب النِّكَاح، وَمُخْتَصَر الْأَمْر بِإِرَاقَتِهِ: أَنَّ السَّبَب الصَّحِيح فيه أَنَّهُ أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا لِأَنَّهَا نَجِسَة مُحَرَّمَة.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَهَى لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَالثَّالِث: لِأَنَّهَا أَخَذُوهَا قَبْل الْقِسْمَة، وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ هُمَا لِأَصْحَابِ مَالِك الْقَائِلِينَ بِإِبَاحَةِ لُحُومهَا، وَالصَّوَاب مَا قَدَّمْنَاهُ.

وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِكْسِرُوهَا فَقَالَ رَجُل: أَوْ يُهْرِيقُوهَا وَيَغْسِلُوهَا، قَالَ: أَوَ ذَاكَ» فَهَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِجْتَهَدَ فِي ذَلِكَ، فَرَأَى كَسْرهَا ثُمَّ تَغَيَّرَ اِجْتِهَاده أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِغَسْلِهَا.

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لَهُ لَأَجْرَانِ» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ: «لَأَجْرَانِ» بِالْأَلِفِ وَفِي بَعْضهَا: «لَأَجْرَيْنِ» بِالْيَاءِ، وَهُمَا صَحِيحَانِ، لَكِنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْأَشْهَر الْأَفْصَح وَالْأَوَّل لُغَة أَرْبَع قَبَائِل مِنْ الْعَرَب، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} وَقَدْ سَبَقَ بَيَانهَا مَرَّات، وَيَحْتَمِل أَنَّ الْأَجْرَيْنِ ثَبَتَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ جَاهَدَ مُجَاهِد كَمَا سَنُوَضِّحُهُ فِي شَرْحه، فَلَهُ أَجْر بِكَوْنِهِ جَاهِدًا أَيْ مُجْتَهِدًا فِي طَاعَة اللَّه تَعَالَى، شَدِيد الِاعْتِنَاء بِهَا، وَلَهُ أَجْر آخَر بِكَوْنِهِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيل اللَّه، فَلَمَّا قَامَ بِوَصْفَيْنِ كَانَ لَهُ أَجْرَانِ.

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِد» هَكَذَا رَوَاهُ الْجُمْهُور مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ (لَجَاهِدٌ) بِكَسْرِ الْهَاء وَتَنْوِينَ الدَّال (مُجَاهِد) بِضَمِّ الْمِيم وَتَنْوِينَ الدَّال أَيْضًا، وَفَسَّرُوا لَجَاهِدٌ بِالْجَادِّ فِي عِلْمه وَعَمَله، أَيْ: لَجَادّ فِي طَاعَة اللَّه، وَالْمُجَاهِد فِي سَبِيل اللَّه، وَهُوَ الْغَازِي، وَقَالَ الْقَاضِي: فيه وَجْه آخَر جَمَعَ اللَّفْظَيْنِ تَوْكِيدًا، قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ: الْعَرَب إِذَا بَالَغَتْ فِي تَعْظِيم شَيْء اِشْتَقَّتْ لَهُ مِنْ لَفْظه لَفْظًا آخَر عَلَى غَيْر بِنَائِهِ زِيَادَة فِي التَّوْكِيد، وَأَعْرَبُوهُ بِإِعْرَابِهِ فَيَقُولُونَ: جَادّ مُجِدّ، وَلَيْل لَائِل وَشِعْر شَاعِر، وَنَحْو ذَلِكَ، قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَاهُ بَعْض رُوَاة الْبُخَارِيّ وَبَعْض رُوَاة مُسْلِم: (لَجَاهَدَ) بِفَتْحِ الْهَاء وَالدَّال عَلَى أَنَّهُ فِعْل مَاض (مَجَاهِد) بِفَتْحِ الْمِيم وَنَصْب الدَّال بِلَا تَنْوِينٍ، قَالَ: وَالْأَوَّل هُوَ الصَّوَاب.

 وَاَللَّه أَعْلَم.

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَلَّ عَرَبِيّ مَشَى بِهَا مِثْله» ضَبَطْنَا هَذِهِ اللَّفْظَة هُنَا فِي مُسْلِم بِوَجْهَيْنِ، وَذَكَرَهُمَا الْقَاضِي أَيْضًا، الصَّحِيح الْمَشْهُور الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير رُوَاة الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم: «مَشَى بِهَا» بِفَتْحِ الْمِيم وَبَعْد الشِّين يَاء، وَهُوَ فِعْل مَاضٍ مِنْ الْمَشْي، و«بِهَا» جَارّ وَمَجْرُور، وَمَعْنَاهُ: مَشَى بِالْأَرْضِ أَوْ فِي الْحَرْب، وَالثَّانِي: «مُشَابِهًا» بِضَمِّ الْمِيم وَتَنْوِين الْهَاء مِنْ الْمُشَابَهَة، أَيْ: مُشَابِهًا لِصِفَاتِ الْكَمَال فِي الْقِتَال أَوْ غَيْره مِثْله، وَيَكُون (مُشَابِهًا) مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوف أَيْ: رَأَيْته مُشَابِهًا، وَمَعْنَاهُ: قَلَّ عَرَبِيّ يُشْبِههُ فِي جَمِيع صِفَات الْكَمَال، وَضَبَطَهُ بَعْض رُوَاة الْبُخَارِيّ: «نَشَأَ بِهَا» بِالنُّونِ وَالْهَمْز أَيْ: شَبَّ وَكَبِرَ، وَالْهَاء عَائِدَة إِلَى الْحَرْب، أَوْ الْأَرْض، أَوْ بِلَاد الْعَرَب، قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ أَوْجُه الرِّوَايَات.

✯✯✯✯✯✯

‏3364- قَوْله: (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب أَخْبَرَنِي يُونُس عَنْ اِبْن شِهَاب، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْد الرَّحْمَن، وَنَسَبَهُ غَيْر اِبْن وَهْب فَقَالَ: اِبْن عَبْد اللَّه بْن كَعْب بْن مَالِك أَنَّ سَلَمَة بْن الْأَكْوَع قَالَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ صَحِيح مُسْلِم، وَهُوَ صَحِيح، وَهَذَا مِنْ فَضَائِل مُسْلِم وَدَقِيق نَظَره، وَحُسْن خِبْرَته، وَعَظِيم إِتْقَانه، وَسَبَب هَذَا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ وَالنَّسَائِيَّ وَغَيْرهمَا مِنْ الْأَئِمَّة رَوَوْا هَذَا الْحَدِيث بِهَذَا الْإِسْنَاد عَنْ اِبْن شِهَاب، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْد الرَّحْمَن وَعَبْد اللَّه بْن كَعْب بْن مَالِك عَنْ سَلَمَة قَالَ دَاوُدُ قَالَ أَحْمَد بْن صَالِح: الصَّوَاب عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد اللَّه بْن كَعْب، وَأَحْمَد بْن صَالِح هَذَا هُوَ شَيْخ أَبِي دَاوُدَ فِي هَذَا الْحَدِيث وَغَيْره وَهُوَ رِوَايَة عَنْ اِبْن وَهْب، قَالَ الْحُفَّاظ: وَالْوَهْم فِي هَذَا مِنْ اِبْن وَهْب، فَجَعَلَ عَبْد اللَّه بْن كَعْب رَاوِيًا عَنْ سَلَمَة، وَجَعَلَ عَبْد الرَّحْمَن رَاوِيًا عَنْ عَبْد اللَّه، وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ، بَلْ عَبْد الرَّحْمَن يَرْوِيه عَنْ سَلَمَة، وَإِنَّمَا عَبْد اللَّه وَالِده، فَذُكِرَ فِي نَسَبه؛ لِأَنَّ لَهُ رِوَايَة فِي هَذَا الْحَدِيث، فَاحْتَاطَ مُسْلِم رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ فَلَمْ يَذْكُر فِي رِوَايَته عَبْد الرَّحْمَن، وَعَبْد اللَّه كَمَا رَوَاهُ اِبْن وَهْب، بَلْ اِقْتَصَرَ عَلَى عَبْد الرَّحْمَن وَلَمْ يَنْسُبْهُ؛ لِأَنَّ اِبْن وَهْب لَمْ يَنْسُبْهُ، وَأَرَادَ مُسْلِم تَعْرِيفه فَقَالَ: قَالَ غَيْر اِبْن وَهْب: هُوَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد اللَّه بْن كَعْب، فَحَصَلَ تَعْرِيفه مِنْ غَيْر إِضَافَة لِلتَّعْرِيفِ، إِلَى اِبْن وَهْب، وَحَذَفَ مُسْلِم ذِكْر عَبْد اللَّه مِنْ رِوَايَة اِبْن وَهْب، وَهَذَا جَائِز، فَقَدْ اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْحَدِيث عَنْ رَجُلَيْنِ كَانَ لَهُ حَذْف أَحَدهمَا وَالِاقْتِصَار عَلَى الْآخَر، فَأَجَازُوا هَذَا الْكَلَام إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْر، فَإِذَا كَانَ عُذْر بِأَنْ كَانَ ذِكْر ذَلِكَ الْمَحْذُوف غَلَطًا كَمَا فِي هَذِهِ الصُّورَة كَانَ الْجَوَاز أَوْلَى.


 باب غزوة خيبر


۞۞۞۞۞۞۞۞

كتاب الجهاد والسير ﴿ 39 ﴾ 

۞۞۞۞۞۞۞۞



تعليقات