باب صلاة المسافرين وقصرها
باب صلاة المسافرين وقصرها
1105- قَوْلهَا: «فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَر وَالسَّفَر، فَأُقِرَّتْ صَلَاة السَّفَر وَزِيدَ فِي صَلَاة الْحَضَر» اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْقَصْر فِي السَّفَر، فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك بْن أَنَس وَأَكْثَر الْعُلَمَاء: يَجُوز الْقَصْر وَالْإِتْمَام، وَالْقَصْر أَفْضَل.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَكَثِيرُونَ: الْقَصْر وَاجِب وَلَا يَجُوز الْإِتْمَام، وَيَحْتَجُّونَ بِهَذَا الْحَدِيث، وَبِأَنَّ أَكْثَر فِعْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه كَانَ الْقَصْر، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ بِالْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَة فِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره أَنَّ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْهُمْ الْقَاصِر وَمِنْهُمْ الْمُتِمّ وَمِنْهُمْ الصَّائِم وَمِنْهُمْ الْمُفْطِر، لَا يَعِيب بَعْضهمْ عَلَى بَعْض، وَبِأَنَّ عُثْمَان كَانَ يُتِمّ، وَكَذَلِكَ عَائِشَة وَغَيْرهَا، وَهُوَ ظَاهِر قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ} وَهَذَا يَقْتَضِي رَفْع الْجُنَاح وَالْإِبَاحَة.
وَأَمَّا حَدِيث: فُرِضَتْ الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ فَمَعْنَاهُ: فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا.
فَزِيدَ فِي صَلَاة الْحَضَر رَكْعَتَانِ عَلَى سَبِيل التَّحْتِيم، وَأُقِرَّتْ صَلَاة السَّفَر عَلَى جَوَاز الِاقْتِصَار وَثَبَتَتْ دَلَائِل جَوَاز الْإِتْمَام؛ فَوَجَبَ الْمَصِير إِلَيْهَا وَالْجَمْع بَيْن دَلَائِل الشَّرْع.
✯✯✯✯✯✯
1107- قَوْله: (فَقُلْت لِعُرْوَةَ: مَا بَالُ عَائِشَة تُتِمّ فِي السَّفَر؟ فَقَالَ: إِنَّهَا تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَان) اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيلهمَا.
فَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُمَا رَأَيَا الْقَصْر جَائِزًا وَالْإِتْمَام جَائِزًا فَأَخَذَا بِأَحَدِ الْجَائِزَيْنِ، وَهُوَ الْإِتْمَام.
وَقِيلَ: لِأَنَّ عُثْمَان إِمَام الْمُؤْمِنِينَ وَعَائِشَة أُمّهمْ فَكَأَنَّهُمَا فِي مَنَازِلهمَا، وَأَبْطَلَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وَقِيلَ: لِأَنَّ عُثْمَان تَأَهَّلَ بِمَكَّة.
وَأَبْطَلُوهُ بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَافَرَ بِأَزْوَاجِهِ وَقَصَرَ، وَقِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَجْل الْأَعْرَاب الَّذِينَ حَضَرُوا مَعَهُ لِئَلَّا يَظُنُّوا أَنَّ فَرْض الصَّلَاة رَكْعَتَانِ أَبَدًا حَضَرًا وَسَفَرًا، وَأَبْطَلُوهُ بِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ اِشْتَهَرَ أَمْر الصَّلَاة فِي زَمَن عُثْمَان أَكْثَر مِمَّا كَانَ.
وَقِيلَ: لِأَنَّ عُثْمَان نَوَى الْإِقَامَة بِمَكَّة بَعْد الْحَجّ.
وَأَبْطَلُوهُ بِأَنَّ الْإِقَامَة بِمَكَّة حَرَام عَلَى الْمُهَاجِر فَوْق ثَلَاث.
وَقِيلَ: كَانَ لِعُثْمَان أَرْض بِمِنًى، وَأَبْطَلُوهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْإِتْمَام وَالْإِقَامَة.
وَالصَّوَاب الْأَوَّل، ثُمَّ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد وَالْجُمْهُور: أَنَّهُ لَا يَجُوز الْقَصْر فِي كُلّ سَفَر مُبَاح.
وَشَرَطَ بَعْض السَّلَف كَوْنه سَفَر خَوْف، وَبَعْضهمْ كَوْنه سَفَر حَجّ أَوْ عَمْرَة أَوْ غَزْو، وَبَعْضهمْ كَوْنه سَفَر طَاعَة.
قَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَحْمَد وَالْأَكْثَرُونَ: وَلَا يَجُوز فِي سَفَر الْمَعْصِيَة، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيُّ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَصْحَابهمَا وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيُّ وَفُقَهَاء أَصْحَاب الْحَدِيث وَغَيْرهمْ: وَلَا يَجُوز الْقَصْر إِلَّا فِي مَسِيرَة مَرْحَلَتَيْنِ قَاصِدَتَيْنِ وَهِيَ ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ مِيلًا هَاشِمِيَّة، وَالْمِيل: سِتّ آلَاف ذِرَاع، وَالذِّرَاع أَرْبَع وَعِشْرُونَ إِصْبَعًا مُعْتَرِضَة مُعْتَدِلَة، وَالْإِصْبَع: سِتّ شُعَيْرَات مُعْتَرِضَات مُعْتَدِلَات.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْكُوفِيُّونَ: لَا يُقْصِر فِي أَقَلّ مِنْ ثَلَاث مَرَاحِل.
وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَان وَابْن مَسْعُود وَحُذَيْفَة، وَقَالَ دَاوُدُ وَأَهْل الظَّاهِر: يَجُوز فِي السَّفَرِ الطَّوِيل وَالْقَصِير حَتَّى لَوْ كَانَ ثَلَاثَة أَمْيَال قَصَرَ.
✯✯✯✯✯✯
1108- قَوْله: (عَنْ عَبْد اللَّه بْن بَابَيْهِ) هُوَ بِبَاءِ مُوَحَّدَة ثُمَّ أَلِف ثُمَّ مُوَحَّدَة أُخْرَى مَفْتُوحَة ثُمَّ مُثَنَّاة تَحْت، وَيُقَال فيه: اِبْن بَابَاهُ، وَابْن بَابِي بِكَسْرِ الْبَاء الثَّانِيَة.
قَوْله: «عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: صَدَقَة تَصَدَّقَ اللَّه تَعَالَى بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَته» هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض الْأُصُول: «مَا عَجِبْت» وَفِي بَعْضهَا: «عَجِبْت مِمَّا عَجِبْت»، وَهُوَ الْمَشْهُور الْمَعْرُوف.
وَفيه: جَوَاز قَوْل تَصَدَّقَ اللَّه عَلَيْنَا، وَاَللَّهُمَّ تَصَدَّقْ عَلَيْنَا، وَقَدْ كَرِهَهُ بَعْض السَّلَف، وَهُوَ غَلَط ظَاهِر، وَقَدْ أَوْضَحْته فِي أَوَاخِر كِتَاب الْأَذْكَار، وَفيه: جَوَاز الْقَصْر فِي غَيْر الْخَوْف.
وَفيه: أَنَّ الْمَفْضُول إِذَا رَأَى الْفَاضِل يَعْمَل شَيْئًا يُشْكِل عَلَيْهِ يَسْأَلهُ عَنْهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
1109- قَوْله: «عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ: فَرَضَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الصَّلَاة عَلَى لِسَان نَبِيّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَر أَرْبَعًا وَفِي السَّفَر رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْف رَكْعَة» هَذَا الْحَدِيث قَدْ عَمِلَ بِظَاهِرِهِ طَائِفَة مِنْ السَّلَف، مِنْهُمْ الْحَسَن وَالضَّحَّاك وَإِسْحَاق بْن رَاهَوَيْهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَالْجُمْهُور: إِنَّ صَلَاة الْخَوْف كَصَلَاةِ الْأَمْن فِي عَدَد الرَّكَعَات، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَضَر وَجَبَ أَرْبَع رَكَعَات، وَإِنْ كَانَتْ فِي السَّفَر وَجَبَ رَكْعَتَانِ.
وَلَا يَجُوز الِاقْتِصَار عَلَى رَكْعَة وَاحِدَة فِي حَال مِنْ الْأَحْوَال، وَتَأَوَّلُوا حَدِيث اِبْن عَبَّاس هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَاد رَكْعَة مَعَ الْإِمَام وَرَكْعَة أُخْرَى يَأْتِي بِهَا مُنْفَرِدًا كَمَا جَاءَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي صَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه فِي الْخَوْف.
وَهَذَا التَّأْوِيل لابد مِنْهُ لِلْجَمْعِ بَيْن الْأَدِلَّة.
وَاللَّهُ أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
1110- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَيُّوب بْن عَائِذ) هُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ.
✯✯✯✯✯✯
1112- قَوْله فِي حَدِيث حَفْص بْن عَاصِم عَنْ اِبْن عُمَر: (ثُمَّ صَحِبْت عُثْمَان فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّه) وَذَكَرَ مُسْلِم بَعْد هَذَا فِي حَدِيث اِبْن عُمَر قَالَ: (وَمَعَ عُثْمَان صَدْرًا مِنْ خِلَافَته ثُمَّ أَتَمَّهَا)، وَفِي رِوَايَة (ثَمَان سِنِينَ أَوْ سِتّ سِنِينَ)، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور أَنَّ عُثْمَان أَتَمَّ بَعْد سِتّ سِنِينَ مِنْ خِلَافَته.
وَتَأَوَّلَ الْعُلَمَاء هَذِهِ الرِّوَايَة عَلَى أَنَّ الْمُرَاد أَنَّ عُثْمَان لَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّه فِي غَيْر مِنًى، وَالرِّوَايَات الْمَشْهُورَة بِإِتْمَامِ عُثْمَان بَعْد صَدْر مِنْ خِلَافَته مَحْمُولَة عَلَى الْإِتْمَام بِمِنًى خَاصَّة.
وَقَدْ فَسَّرَ عِمْرَان بْن الْحُصَيْن فِي رِوَايَته أَنَّ إِتْمَام عُثْمَان إِنَّمَا كَانَ بِمِنًى، وَكَذَا ظَاهِر الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم بَعْد هَذَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَصْر مَشْرُوع بِعَرَفَاتٍ وَمُزْدَلِفَة وَمِنًى لِلْحَاجِّ مِنْ غَيْر أَهْل مَكَّة وَمَا قَرُبَ مِنْهَا، وَلَا يَجُوز لِأَهْلِ مَكَّة وَمَنْ كَانَ دُون مَسَافَة الْقَصْر.
هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَالْأَكْثَرِينَ.
وَقَالَ مَالِك: يُقْصِر أَهْل مَكَّة وَمِنًى وَمُزْدَلِفَة وَعَرَفَات، فَعِلَّة الْقَصْر عِنْده فِي تِلْكَ الْمَوَاضِع النُّسُك، وَعِنْد الْجُمْهُور عِلَّته السَّفَر.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «حَتَّى جَاءَ رَحْله» أَيْ مَنْزِله.
قَوْله: «فَحَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ» أَيْ حَضَرَتْ وَحَصَلَتْ.
قَوْله: «لَوْ كُنْت مُسَبِّحًا أَتْمَمْت صَلَاتِي» الْمُسَبِّح هُنَا الْمُتَنَفِّل بِالصَّلَاةِ، وَالسُّبْحَة هُنَا صَلَاة النَّفْل.
✯✯✯✯✯✯
1113- وَقَوْله: «وَلَوْ كُنْت مُسَبِّحًا لَأَتْمَمْت» مَعْنَاهُ: لَوْ اِخْتَرْت التَّنَفُّل لَكَانَ إِتْمَام فَرِيضَتِي أَرْبَعًا أَحَبّ إِلَيَّ، وَلَكِنِّي لَا أَرَى وَاحِدًا مِنْهُمَا، بَلْ السُّنَّة الْقَصْر وَتَرْك التَّنَفُّل، وَمُرَاده النَّافِلَة الرَّاتِبَة مَعَ الْفَرَائِض كَسُنَّةِ الظُّهْر وَالْعَصْر وَغَيْرهَا مِنْ الْمَكْتُوبَات.
وَأَمَّا النَّوَافِل الْمُطْلَقَة فَقَدْ كَانَ اِبْن عُمَر يَفْعَلهَا فِي السَّفَر، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلهَا، كَمَا ثَبَتَ فِي مَوَاضِع مِنْ الصَّحِيح عَنْهُ.
وَقَدْ اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى اِسْتِحْبَاب النَّوَافِل الْمُطْلَقَة فِي السَّفَر، وَاخْتَلَفُوا فِي اِسْتِحْبَاب النَّوَافِل الرَّاتِبَة فَكَرِهَهَا اِبْن عُمَر وَآخَرُونَ، وَاسْتَحَبَّهَا الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَالْجُمْهُور، وَدَلِيله الْأَحَادِيث الْمُطْلَقَة فِي نَدْب الرَّوَاتِب، وَحَدِيث صَلَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضُّحَى يَوْم الْفَتْح بِمَكَّة، وَرَكْعَتَيْ الصُّبْح حِين نَامُوا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْس، وَأَحَادِيث أُخَر صَحِيحَة ذَكَرَهَا أَصْحَاب السُّنَن، وَالْقِيَاس عَلَى النَّوَافِل الْمُطْلَقَة، وَلَعَلَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الرَّوَاتِب فِي رَحْله، وَلَا يَرَاهُ اِبْن عُمَر؛ فَإِنَّ النَّافِلَة فِي الْبَيْت أَفْضَل، أَوْ لَعَلَّهُ تَرَكَهَا فِي بَعْض الْأَوْقَات تَنْبِيهًا عَلَى جَوَاز تَرْكهَا.
وَأَمَّا مَا يَحْتَجّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِتَرْكِهَا مِنْ أَنَّهَا لَوْ شُرِعَتْ لَكَانَ إِتْمَام الْفَرِيضَة أَوْلَى، فَجَوَابه أَنَّ الْفَرِيضَة مُتَحَتِّمَة فَلَوْ شُرِعَتْ تَامَّة لَتَحَتَّمَ إِتْمَامهَا.
وَأَمَّا النَّافِلَة فَهِيَ إِلَى خِيَرَة الْمُكَلَّف فَالرِّفْق أَنْ تَكُون مَشْرُوعَة، وَيَتَخَيَّر إِنْ شَاءَ فَعَلَهَا وَحَصَلَ ثَوَابهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا وَلَا شَيْء عَلَيْهِ.
✯✯✯✯✯✯
1115- قَوْله: «صَلَّى الظُّهْر بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَبِذِي الْحُلَيْفَة رَكْعَتَيْنِ» وَبَيْن الْمَدِينَة وَذِي الْحُلَيْفَة سِتَّة أَمْيَال،، وَيُقَال: سَبْعَة.
هَذَا مِمَّا اِحْتَجَّ بِهِ أَهْل الظَّاهِر فِي جَوَاز الْقَصْر فِي طَوِيل السَّفَر وَقَصِيره.
وَقَالَ الْجُمْهُور: لَا يَحُوز الْقَصْر إِلَّا فِي سَفَر يَبْلُغ مَرْحَلَتَيْنِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَطَائِفَة: شَرْطه ثَلَاث مَرَاحِل، وَاعْتَمَدُوا فِي ذَلِكَ آثَارًا عَنْ الصَّحَابَة.
وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيث فَلَا دَلَالَة فيه لِأَهْلِ الظَّاهِر؛ لِأَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُ حِين سَافَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّة فِي حَجَّة الْوَدَاع صَلَّى الظُّهْر بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا ثُمَّ سَافَرَ فَأَدْرَكْته الْعَصْر وَهُوَ مُسَافِر بِذِي الْحُلَيْفَة، فَصَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ.
وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّ ذَا الْحُلَيْفَة كَانَ غَايَة سَفَره فَلَا دَلَالَة فيه قَطْعًا.
وَأَمَّا اِبْتِدَاء الْقَصْر فَيَجُوز مِنْ حِين يُفَارِق بُنْيَان بَلَده أَوْ خِيَام قَوْمه إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْخِيَام، هَذَا جُمْلَة الْقَوْل فيه، وَتَفْصِيله مَشْهُور فِي كُتُب الْفِقْه.
هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة، إِلَّا رِوَايَة ضَعِيفَة عَنْ مَالِك أَنَّهُ لَا يَقْصُر حَتَّى يُجَاوِز ثَلَاثَة أَمْيَال.
وَحُكِيَ عَنْ عَطَاء وَجَمَاعَة مِنْ أَصْحَاب اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ السَّفَر قَصَرَ قَبْل خُرُوجه، وَعَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ لَا يَقْصُر فِي يَوْم خُرُوجه حَتَّى يَدْخُل اللَّيْل، وَهَذِهِ الرِّوَايَات كُلّهَا مُنَابِذَة لِلسُّنَّةِ وَإِجْمَاع السَّلَف وَالْخَلَف.
✯✯✯✯✯✯
1116- قَوْله: (يَحْيَى بْن يَزِيد الْهُنَائِيّ) هُوَ بِضَمِّ الْهَاء وَبَعْدهَا نُون مُخَفَّفَة وَبِالْمَدِّ الْمَنْسُوب إِلَى هَنَاء بْن مَالِك بْن فَهْم، قَالَهُ السَّمْعَانِيّ.
قَوْله: «إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَة أَمْيَال أَوْ ثَلَاثَة فَرَاسِخ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» هَذَا لَيْسَ عَلَى سَبِيل الِاشْتِرَاط، وَإِنَّمَا وَقَعَ بِحَسَبِ الْحَاجَة، لِأَنَّ الظَّاهِر مِنْ أَسْفَاره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَا كَانَ يُسَافِر سَفَرًا طَوِيلًا، فَيَخْرُج عِنْد حُضُور فَرِيضَة مَقْصُورَة وَيَتْرُك قَصْرهَا بِقُرْبِ الْمَدِينَة وَيُتِمّهَا، وَإِنَّمَا كَانَ يُسَافِر بَعِيدًا مِنْ وَقْت الْمَقْصُورَة فَتُدْرِكهُ عَلَى ثَلَاثَة أَمْيَال أَوْ أَكْثَر أَوْ نَحْو ذَلِكَ فَيُصَلِّيهَا حِينَئِذٍ.
وَالْأَحَادِيث الْمُطْلَقَة مَعَ ظَاهِر الْقُرْآن مُتَعَاضِدَات عَلَى جَوَاز الْقَصْر مِنْ حِين يَخْرُج مِنْ الْبَلَد، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُسَمَّى مُسَافِرًا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
✯✯✯✯✯✯
1117- قَوْله: (وَحَدَّثَنَا شُعْبَة عَنْ يَزِيد بْن خُمَيْر عَنْ حَبِيب بْن عُبَيْد عَنْ جُبَيْر بْن نُفَيْر قَالَ: خَرَجْت مَعَ شُرَحْبِيل بْن السِّمْط إِلَى قَرْيَة عَلَى رَأْس سَبْعَة عَشَر أَوْ ثَمَانِيَة عَشَر مِيلًا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقُلْت لَهُ فَقَالَ: رَأَيْت عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَة رَكْعَتَيْنِ، فَقُلْت لَهُ فَقَالَ: إِنَّمَا أَفْعَل كَمَا رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَل) هَذَا الْحَدِيث فيه أَرْبَعَة تَابِعِيِّينَ يَرْوِي بَعْضهمْ عَنْ بَعْض يَزِيد بْن خُمَيْر فَمَنْ بَعْده، وَتَقَدَّمَتْ لِهَذَا نَظَائِر كَثِيرَة، وَسَيَأْتِي بَيَان بَاقِيهَا فِي مَوَاضِعهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
و(يَزِيد بْن خُمَيْر) بِضَمِّ الْخَاء الْمُعْجَمَة.
و(نُفَيْر) بِضَمِّ النُّون وَفَتْح الْفَاء.
و(السِّمْط) بِكَسْرِ السِّين وَإِسْكَان الْمِيم، وَيُقَال: السَّمِط بِفَتْحِ السِّين وَكَسْر الْمِيم.
وَهَذَا الْحَدِيث مِمَّا قَدْ يُتَوَهَّم أَنَّهُ دَلِيل لِأَهْلِ الظَّاهِر، وَلَا دَلَالَة فيه بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الَّذِي فيه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ الْقَصْر بِذِي الْحُلَيْفَة وَلَيْسَ فيه أَنَّهَا غَايَة السَّفَر.
وَأَمَّا قَوْله: (قَصَرَ شُرَحْبِيل عَلَى رَأْس سَبْعَة عَشَر مِيلًا أَوْ ثَمَانِيَة عَشَر مِيلًا) فَلَا حُجَّة فيه؛ لِأَنَّهُ تَابِعِيّ فَعَلَ شَيْئًا يُخَالِف الْجُمْهُور، أَوْ يُتَأَوَّل عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي أَثْنَاء سَفَره، لَا أَنَّهَا غَايَته.
وَهَذَا التَّأْوِيل ظَاهِر وَبِهِ يَصِحّ اِحْتِجَاجه بِفِعْلِ عُمَر، وَنَقْله ذَلِكَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (أَتَى أَرْضًا يُقَال لَهَا: دُومَيْنِ مِنْ حِمْص عَلَى رَأْس ثَمَانِيَة عَشَر مِيلًا) هِيَ بِضَمِّ الدَّال وَفَتْحهَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ وَالْوَاو سَاكِنَة وَالْمِيم مَكْسُورَة، وَحِمْص لَا يَنْصَرِف وَإِنْ كَانَتْ اِسْمًا ثُلَاثِيًّا سَاكِن الْأَوْسَط؛ لِأَنَّهَا عَجَمِيَّة اِجْتَمَعَ فيها الْعُجْمَة وَالْعَلَمِيَّة وَالتَّأْنِيث، كَمَاه وَجَوْر وَنَظَائِرهمَا.
✯✯✯✯✯✯
1118- قَوْله: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ، قُلْت: كَمْ أَقَامَ بِمَكَّة؟ قَالَ: عَشْرًا» هَذَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَقَامَ فِي مَكَّة وَمَا حَوَالَيْهَا لَا فِي نَفْس مَكَّة فَقَطْ.
وَالْمُرَاد فِي سَفَره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّة الْوَدَاع، فَقَدِمَ مَكَّة فِي الْيَوْم الرَّابِع فَأَقَامَ بِهَا الْخَامِس وَالسَّادِس وَالسَّابِع، وَخَرَجَ مِنْهَا فِي الثَّامِن إِلَى مِنًى وَذَهَبَ إِلَى عَرَفَات فِي التَّاسِع، وَعَادَ إِلَى مِنًى فِي الْعَاشِر، فَأَقَامَ بِهَا الْحَادِي عَشَر وَالثَّانِي عَشَر وَنَفَرَ فِي الثَّالِث عَشَر إِلَى مَكَّة، وَخَرَجَ مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَة فِي الرَّابِع عَشَر، فَمُدَّة إِقَامَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّة وَحَوَالَيْهَا عَشْرَة أَيَّام، وَكَانَ يَقْصُر الصَّلَاة فيها كُلّهَا.
فَفيه دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُسَافِر إِذَا نَوَى إِقَامَة دُون أَرْبَعَة أَيَّام سِوَى يَوْمَيْ الدُّخُول وَالْخُرُوج يَقْصُر، وَأَنَّ الثَّلَاثَة لَيْسَتْ إِقَامَة؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ هُوَ وَالْمُهَاجِرُونَ ثَلَاثًا بِمَكَّة، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَة لَيْسَتْ إِقَامَة شَرْعِيَّة وَأَنَّ يَوْمَيْ الدُّخُول وَالْخُرُوج لَا يُحْسَبَانِ مِنْهَا، وَبِهَذِهِ الْجُمْلَة قَالَ الشَّافِعِيّ وَجُمْهُور الْعُلَمَاء، وَفيها خِلَافٌ مُنْتَشِرٌ لِلسَّلَفِ.
باب صلاة المسافرين وقصرها
باب صلاة المسافرين وقصرها