باب سفر المراة مع محرم الى حج وغيره
باب سفر المراة مع محرم الى حج وغيره
2381- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُسَافِر الْمَرْأَة ثَلَاثًا إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَم» وَفِي رِوَايَة: «فَوْق ثَلَاث» وَفِي رِوَايَة: «ثَلَاثَة» وَفِي رِوَايَة: «لَا يَحِلّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر تُسَافِر مَسِيرَة ثَلَاث لَيَالٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَم» وَفِي رِوَايَة: «لَا تُسَافِر الْمَرْأَة يَوْمَيْنِ مِنْ الدَّهْر إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَم مِنْهَا أَوْ زَوْجهَا» وَفِي رِوَايَة: «نَهَى أَنْ تُسَافِر الْمَرْأَة مَسِيرَة يَوْمَيْنِ» وَفِي رِوَايَة: «لَا يَحِلّ لِامْرَأَةِ مُسْلِمَة تُسَافِر مَسِيرَة لَيْلَة إِلَّا وَمَعَهَا ذُو حُرْمَة مِنْهَا» وَفِي رِوَايَة: «لَا يَحِلّ لِامْرَأَةِ تُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر تُسَافِر مَسِيرَة يَوْم إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَم» وَفِي رِوَايَة: «مَسِيرَة يَوْم وَلَيْلَة» وَفِي رِوَايَة: «لَا تُسَافِر اِمْرَأَة إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَم».
هَذِهِ رِوَايَات مُسْلِم وَفِي رِوَايَة لِأَبِي دَاوُدَ: «وَلَا تُسَافِر بَرِيدًا» وَالْبَرِيد مَسِيرَة نِصْف يَوْم، قَالَ الْعُلَمَاء: اِخْتِلَاف هَذِهِ الْأَلْفَاظ لِاخْتِلَافِ السَّائِلِينَ، وَاخْتِلَاف الْمَوَاطِن، وَلَيْسَ فِي النَّهْي عَنْ الثَّلَاثَة تَصْرِيح بِإِبَاحَةٍ وَاللَّيْلَة أَوْ الْبَرِيد، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كَأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَة تُسَافِر ثَلَاثًا بِغَيْرِ مَحْرَم، فَقَالَ: لَا، وَسُئِلَ عَنْ سَفَرهَا يَوْمَيْنِ بِغَيْرِ مَحْرَم: فَقَالَ: لَا، وَسُئِلَ عَنْ سَفَرهَا يَوْمًا فَقَالَ: لَا.
وَكَذَلِكَ الْبَرِيد، فَأَدَّى كُلّ مِنْهُمْ مَا سَمِعَهُ، وَمَا جَاءَ مِنْهَا مُخْتَلِفًا عَنْ رِوَايَة وَاحِد فَسَمِعَهُ فِي مَوَاطِن، فَرَوَى تَارَة هَذَا، وَتَارَة هَذَا، وَكُلّه صَحِيح، وَلَيْسَ فِي هَذَا كُلّه تَحْدِيد لِأَقَلّ مَا يَقَع عَلَيْهِ اِسْم السَّفَر، وَلَمْ يُرِدْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْدِيد أَقَلّ مَا يُسَمَّى سَفَرًا، فَالْحَاصِل أَنَّ كُلّ مَا يُسَمَّى سَفَرًا تُنْهَى عَنْهُ الْمَرْأَة بِغَيْرِ زَوْج أَوْ مَحْرَم، سَوَاء كَانَ ثَلَاثَة أَيَّام أَوْ يَوْمَيْنِ أَوَيَوْمًا أَوْ بَرِيدًا أَوْ غَيْر ذَلِكَ؛ لِرِوَايَةِ اِبْن عَبَّاس الْمُطْلَقَة، وَهِيَ آخِر رِوَايَات مُسْلِم السَّابِقَة: «لَا تُسَافِر اِمْرَأَة إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَم» وَهَذَا يَتَنَاوَل جَمِيع مَا يُسَمَّى سَفَرًا.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الْمَرْأَة يَلْزَمهَا حَجَّة الْإِسْلَام إِذَا اِسْتَطَاعَتْ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاس حَجّ الْبَيْت}.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ الْإِسْلَام عَلَى خَمْس» الْحَدِيث.
وَاسْتِطَاعَتهَا كَاسْتِطَاعَةِ الرَّجُل، لَكِنْ اِخْتَلَفُوا فِي اِشْتِرَاط الْمَحْرَم لَهَا، فَأَبُو حَنِيفَة يَشْتَرِطهُ لِوُجُوبِ الْحَجّ عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ يَكُون بَيْنهَا وَبَيْن مَكَّة دُون ثَلَاث مَرَاحِل، وَوَافَقَهُ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَاب الْحَدِيث وَأَصْحَاب الرَّأْي، وَحُكِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَالَ عَطَاء وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَابْن سِيرِينَ وَمَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيّ فِي الْمَشْهُور عَنْهُ: لَا يُشْتَرَط الْمَحْرَم، بَلْ يُشْتَرَط الْأَمْن عَلَى نَفْسهَا، قَالَ أَصْحَابنَا: يَحْصُل الْأَمْن بِزَوْجِ أَوْ مَحْرَم أَوْ نِسْوَة ثِقَات، وَلَا يَلْزَمهَا الْحَجّ عِنْدنَا إِلَّا بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاء، فَلَوْ وُجِدَتْ اِمْرَأَة وَاحِدَة ثِقَة لَمْ يَلْزَمهَا، لَكِنْ يَجُوز لَهَا الْحَجّ مَعَهَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: يَلْزَمهَا بِوُجُودِ نِسْوَة أَوْ اِمْرَأَة وَاحِدَة، وَقَدْ يَكْثُر الْأَمْن وَلَا تَحْتَاج إِلَى أَحَد، بَلْ تَسِير وَحْدهَا فِي جُمْلَة الْقَافِلَة وَتَكُون آمِنَة، وَالْمَشْهُور مِنْ نُصُوص الشَّافِعِيّ وَجَمَاهِير أَصْحَابه هُوَ الْأَوَّل، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا فِي خُرُوجهَا لِحَجِّ التَّطَوُّع وَسَفَر الزِّيَارَة وَالتِّجَارَة وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْأَسْفَار الَّتِي لَيْسَتْ وَاجِبَة، فَقَالَ بَعْضهمْ: يَجُوز لَهَا الْخُرُوج فيها مَعَ نِسْوَة ثِقَات كَحَجَّةِ الْإِسْلَام، وَقَالَ الْجُمْهُور: لَا يَجُوز إِلَّا مَعَ زَوْج أَوْ مَحْرَم، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح؛ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة.
وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي: وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُج فِي غَيْر الْحَجّ وَالْعُمْرَة إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَم إِلَّا الْهِجْرَة مِنْ دَار الْحَرْب، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تُهَاجِر مِنْهَا إِلَى دَار الْإِسْلَام وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَحْرَم، وَالْفَرْق بَيْنهمَا أَنَّ إِقَامَتهَا فِي دَار الْكُفْر حَرَام إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ إِظْهَار الدِّين، وَتَخْشَى عَلَى دِينهَا وَنَفْسهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّأَخُّر عَنْ الْحَجّ، فَإِنَّهُمْ اِخْتَلَفُوا فِي الْحَجّ هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْر أَمْ عَلَى التَّرَاخِي؟ قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَالَ الْبَاجِيّ: هَذَا عِنْدِي فِي الشَّابَّة، وَأَمَّا الْكَبِيرَة غَيْر الْمُشْتَهَاة فَتُسَافِر كَيْف شَاءَتْ فِي كُلّ الْأَسْفَار بِلَا زَوْج وَلَا مَحْرَم، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْبَاجِيّ لَا يُوَافَق عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَة مَظِنَّة الطَّمَع فيها، وَمَظِنَّة الشَّهْوَة وَلَوْ كَانَتْ كَبِيرَة، وَقَدْ قَالُوا: لِكُلِّ سَاقِطَة لَاقِطَة.
وَيَجْتَمِع فِي الْأَسْفَار مِنْ سُفَهَاء النَّاس وَسَقَطهمْ مَنْ لَا يَرْتَفِع عَنْ الْفَاحِشَة بِالْعَجُوزِ وَغَيْرهَا لِغَلَبَةِ شَهْوَته وَقِلَّة دِينه وَمُرُوءَته وَخِيَانَته وَنَحْو ذَلِكَ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاسْتَدَلَّ أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة بِرِوَايَةِ ثَلَاثَة أَيَّام لِمَذْهَبِهِمْ أَنَّ قَصْر الصَّلَاة فِي السَّفَر لَا يَجُوز إِلَّا فِي سَفَر يَبْلُغ ثَلَاثَة أَيَّام، وَهَذَا اِسْتِدْلَال فَاسِد، وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيث بِرِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَة كَمَا سَبَقَ، وَبَيَّنَّا مَقْصُودهَا، وَأَنَّ السَّفَر يُطْلَق عَلَى يَوْم وَعَلَى بَرِيد وَعَلَى دُون ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْضَحْت الْجَوَاب عَنْ شُبْهَتهمْ إِيضَاحًا بَلِيغًا فِي بَاب صَلَاة الْمُسَافِر مِنْ شَرْح الْمُهَذَّب.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَم» فيه دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور أَنَّ جَمِيع الْمَحَارِم سَوَاء فِي ذَلِكَ، فَيَجُوز لَهَا الْمُسَافَرَة مَعَ مَحْرَمهَا بِالنَّسَبِ كَابْنِهَا وَأَخِيهَا وَابْن أَخِيهَا وَابْن أُخْتهَا وَخَالهَا وَعَمّهَا، وَمَعَ مَحْرَمهَا بِالرَّضَاعِ كَأَخِيهَا مِنْ الرَّضَاع وَابْن أَخِيهَا وَابْن أُخْتهَا مِنْهُ وَنَحْوهمْ، وَمَعَ مَحْرَمهَا مِنْ الْمُصَاهَرَة كَأَبِي زَوْجهَا وَابْن زَوْجهَا، وَلَا كَرَاهَة فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَا يَجُوز لِكُلِّ هَؤُلَاءِ الْخَلْوَة بِهَا وَالنَّظَر إِلَيْهَا مِنْ غَيْر حَاجَة، وَلَكِنْ لَا يَحِلّ النَّظَر بِشَهْوَةِ لِأَحَدِ مِنْهُمْ، هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور، وَوَافَقَ مَالِك عَلَى ذَلِكَ كُلّه إِلَّا اِبْن زَوْجهَا، فَكَرِهَ سَفَرهَا مَعَهُ لِفَسَادِ النَّاس بَعْد الْعَصْر الْأَوَّل، وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاس لَا يَنْفِرُونَ مِنْ زَوْجَة الْأَب نَفْرَتهمْ مِنْ مَحَارِم النَّسَب، قَالَ: وَالْمَرْأَة فِتْنَة إِلَّا فِيمَا جَبَلَ اللَّه تَعَالَى النُّفُوس عَلَيْهِ مِنْ النَّفْرَة عَنْ مَحَارِم النَّسَب، وَعُمُوم هَذَا الْحَدِيث يَرُدّ عَلَى مَالِك، وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَة الْمَحْرَم مِنْ النِّسَاء الَّتِي يَجُوز النَّظَر إِلَيْهَا وَالْخَلْوَة بِهَا وَالْمُسَافَرَة بِهَا كُلّ مَنْ حَرُمَ نِكَاحهَا عَلَى التَّأْبِيد بِسَبَبٍ مُبَاح لِحُرْمَتِهَا، فَقَوْلنَا: (عَلَى التَّأْبِيد) اِحْتِرَاز مِنْ أُخْت الْمَرْأَة وَعَمَّتهَا وَخَالَتهَا وَنَحْوهنَّ، وَقَوْلنَا: (بِسَبَبٍ مُبَاح) اِحْتِرَاز مِنْ أُمّ الْمَوْطُوءَة بِشُبْهَةٍ وَبِنْتهَا، فَإِنَّهُمَا تَحْرُمَانِ عَلَى التَّأْبِيد وَلَيْسَتَا مَحْرَمَيْنِ لِأَنَّ وَطْء الشُّبْهَة لَا يُوصَف بِالْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفِعْلِ مُكَلَّف، وَقَوْلنَا: (لِحُرْمَتِهَا) اِحْتِرَاز مِنْ الْمُلَاعَنَة فَإِنَّهَا مُحَرَّمَة عَلَى التَّأْبِيد بِسَبَبٍ مُبَاح، وَلَيْسَتْ مَحْرَمًا، لِأَنَّ تَحْرِيمهَا لَيْسَ لِحُرْمَتِهَا بَلْ عُقُوبَة وَتَغْلِيظًا.
وَاَللَّه أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
2382- سبق شرحه بالباب.
✯✯✯✯✯✯
2383- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَشُدُّوا الرِّحَال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد: مَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى» فيه بَيَان عَظِيم فَضِيلَة هَذِهِ الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة وَمَزِيَّتهَا عَلَى غَيْرهَا لِكَوْنِهَا مَسَاجِد الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ، وَلِفَضْلِ الصَّلَاة فيها، وَلَوْ نَذَرَ الذَّهَاب إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام لَزِمَهُ قَصْده لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَة، وَلَوْ نَذَرَهُ إِلَى الْمَسْجِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَقَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ: أَصَحّهمَا عِنْد أَصْحَابه يُسْتَحَبّ قَصْدهمَا، وَلَا يَجِب، وَالثَّانِي: يَجِب، وَبِهِ قَالَ كَثِيرُونَ مِنْ الْعُلَمَاء.
وَأَمَّا بَاقِي الْمَسَاجِد سِوَى الثَّلَاثَة فَلَا يَجِب قَصْدهَا بِالنَّذْرِ، وَلَا يَنْعَقِد نَذْر قَصْدِهَا، هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة الْمَالِكِيّ فَقَالَ: إِذَا نَذَرَ قَصْد مَسْجِد قُبَاء لَزِمَهُ قَصْده؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِيه كُلّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، وَقَالَ اللَّيْث بْن سَعْد: يَلْزَمهُ قَصْد ذَلِكَ الْمَسْجِد أَيّ مَسْجِد كَانَ وَعَلَى مَذْهَب الْجَمَاهِير لَا يَنْعَقِد نَذْره، وَلَا يَلْزَمهُ شَيْء، وَقَالَ أَحْمَد: يَلْزَمهُ كَفَّارَة يَمِين، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي شَدّ الرِّحَال وَإِعْمَال الْمَطِيّ إِلَى غَيْر الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة كَالذَّهَابِ إِلَى قُبُور الصَّالِحِينَ، وَإِلَى الْمَوَاضِع الْفَاضِلَة وَنَحْو ذَلِكَ، فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ مِنْ أَصْحَابنَا: هُوَ حَرَام، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ الْقَاضِي عِيَاض إِلَى اِخْتِيَاره، وَالصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا وَهُوَ الَّذِي اِخْتَارَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ لَا يَحْرُم وَلَا يُكْرَه قَالُوا: وَالْمُرَاد أَنَّ الْفَضِيلَة التَّامَّة إِنَّمَا هِيَ فِي شَدّ الرِّحَال إِلَى هَذِهِ الثَّلَاثَة خَاصَّة.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (فَأَعْجَبْنَنِي وآنَقْنَنِي) قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَى (آنَقْنَنِي) أَعْجَبْنَنِي، وَإِنَّمَا كَرَّرَ الْمَعْنَى لِاخْتِلَافِ اللَّفْظ، وَالْعَرَب تَفْعَل ذَلِكَ كَثِيرًا لِلْبَيَانِ وَالتَّوْكِيد، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَات مِنْ رَبّهمْ وَرَحْمَة} وَالصَّلَاة مِنْ اللَّه الرَّحْمَة، وَقَالَ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} وَالطَّيِّب هُوَ الْحَلَال.
وَمِنْهُ قَوْل الْحُطَيْئَة.
أَلَا حَبَّذَا هِنْد وَأَرْض بِهَا هِنْد وَهِنْد أَتَى مِنْ دُونهَا النَّأْي وَالْبُعْد وَالنَّأْي هُوَ الْبُعْد.
✯✯✯✯✯✯
2388- قَوْله: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن يَحْيَى قَالَ: قَرَأْت عَلَى مَالِك عَنْ سَعِيد بْن أَبِي سَعِيد الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر تُسَافِر مَسِيرَة يَوْم وَلَيْلَة إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَم مِنْهَا»، هَكَذَا وَقَعَ هَذَا الْحَدِيث فِي نُسَخ بِلَادنَا عَنْ سَعِيد عَنْ أَبِيهِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَكَذَا وَقَعَ فِي النُّسَخ عَنْ الْجُلُودِيّ وَأَبِي الْعَلَاء وَالْكِسَائِيّ، وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِم فِي الْإِسْنَاد السَّابِق قَبْل هَذَا عَنْ قُتَيْبَة عَنْ اللَّيْث عَنْ سَعِيد عَنْ أَبِيهِ، وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم مِنْ رِوَايَة اِبْن أَبِي ذِئْب عَنْ سَعِيد عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَاسْتَدْرَكَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَيْهِمْ إِخْرَاجهمَا هَذَا عَنْ اِبْن أَبِي ذِئْب، وَعَلَى مُسْلِم إِخْرَاجه إِيَّاهُ عَنْ اللَّيْث عَنْ سَعِيد عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ: الصَّوَاب عَنْ سَعِيد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، مِنْ غَيْر ذِكْر (أَبِيهِ)، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ مَالِكًا وَيَحْيَى بْن أَبِي كَثِير وَسُهَيْلًا قَالُوا: عَنْ سَعِيد الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَلَمْ يَذْكُرُوا (عَنْ أَبِيهِ) قَالَ: وَالصَّحِيح عَنْ مُسْلِم فِي حَدِيثه هَذَا عَنْ يَحْيَى بْن يَحْيَى عَنْ مَالِك عَنْ سَعِيد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مِنْ غَيْر ذِكْر (أَبِيهِ) وَكَذَا ذَكَره أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِيّ، وَكَذَا رَوَاهُ مُعْظَم رُوَاة الْمُوَطَّأ عَنْ مَالِك، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَرَوَاهُ الزَّهْرَانِيّ وَالْقَرَوِيّ عَنْ مَالِك فَقَالَا: عَنْ سَعِيد عَنْ أَبِيهِ، هَذَا كَلَام الْقَاضِي.
قُلْت: وَذَكَرَ خَلَف الْوَاسِطِيُّ فِي الْأَطْرَاف أَنَّ مُسْلِمًا رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْن يَحْيَى عَنْ مَالِك عَنْ سَعِيد عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَاب الْحَجّ مِنْ سُنَنه وَالتِّرْمِذِيّ فِي النِّكَاح عَنْ الْحَسَن بْن عَلِيّ عَنْ بِشْر بْن عُمَر عَنْ مَالِك عَنْ سَعِيد عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حَسَن صَحِيح، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْحَجّ أَيْضًا عَنْ الْقَعْنَبِيّ وَالْعَلَاء عَنْ مَالِك عَنْ يُوسُف بْن مُوسَى عَنْ جَرِير كِلَاهُمَا عَنْ سُهَيْل عَنْ سَعِيد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، فَحَصَلَ اِخْتِلَاف ظَاهِر بَيْن الْحُفَّاظ فِي ذِكْر أَبِيهِ، فَلَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَة نَفْسه، فَرَوَاهُ تَارَة كَذَا وَتَارَة كَذَا، وَسَمَاعه مِنْ أَبِي هُرَيْرَة صَحِيح مَعْرُوف.
وَاَللَّه أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
2391- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُل بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَم» هَذَا اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع؛ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ مَعَهَا مَحْرَم لَمْ تَبْقَ خَلْوَة، فَتَقْدِير الْحَدِيث: لَا يَقْعُدَنَّ رَجُل مَعَ اِمْرَأَة إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَم.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَعَهَا ذُو مَحْرَم» يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد مَحْرَمًا لَهَا، وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد مَحْرَمًا لَهَا أَوْ لَهُ، وَهَذَا الِاحْتِمَال الثَّانِي هُوَ الْجَارِي عَلَى قَوَاعِد الْفُقَهَاء، فَإِنَّهُ لَا فَرْق بَيْن أَنْ يَكُون مَعَهَا مَحْرَم لَهَا كَابْنِهَا وَأَخِيهَا وَأُمّهَا وَأُخْتهَا، أَوْ يَكُون مَحْرَمًا لَهُ كَأُخْتِهِ وَبِنْته وَعَمَّته وَخَالَته، فَيَجُوز الْقُعُود مَعَهَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَال، ثُمَّ إِنَّ الْحَدِيث مَخْصُوص أَيْضًا بِالزَّوْجِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهَا زَوْجهَا كَانَ كَالْمَحْرَمِ وَأَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَأَمَّا إِذَا خَلَا الْأَجْنَبِيّ بِالْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْر ثَالِث مَعَهُمَا فَهُوَ حَرَام بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاء، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَهُمَا مَنْ لَا يُسْتَحَى مِنْهُ لِصِغَرِهِ كَابْنِ سَنَتَيْنِ وَثَلَاث وَنَحْو ذَلِكَ، فَإِنَّ وُجُوده كَالْعَدَمِ، وَكَذَا لَوْ اِجْتَمَعَ رِجَال بِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّة فَهُوَ حَرَام، بِخِلَافِ مَا لَوْ اِجْتَمَعَ رَجُل بِنِسْوَةٍ أَجَانِب، فَإِنَّ الصَّحِيح جَوَازه، وَقَدْ أَوْضَحْت الْمَسْأَلَة فِي شَرْح الْمُهَذَّب فِي بَاب صِفَة الْأَئِمَّة فِي أَوَائِل كِتَاب الْحَجّ، وَالْمُخْتَار أَنَّ الْخَلْوَة بِالْأَمْرَدِ الْأَجْنَبِيّ الْحَسَن كَالْمَرْأَةِ، فَتَحْرُم الْخَلْوَة بِهِ، حَيْثُ حَرُمَتْ بِالْمَرْأَةِ، إِلَّا إِذَا كَانَ فِي جَمْع مِنْ الرِّجَال الْمَصُونِينَ، قَالَ أَصْحَابنَا: وَلَا فَرْق فِي تَحْرِيم الْخَلْوَة حَيْثُ حَرَّمْنَاهَا بَيْن الْخَلْوَة فِي صَلَاة أَوْ غَيْرهَا، وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا كُلّه مَوَاضِع الضَّرُورَة، بِأَنْ يَجِد اِمْرَأَة أَجْنَبِيَّة مُنْقَطِعَة فِي الطَّرِيق أَوْ نَحْو ذَلِكَ، فَيُبَاح لَهُ اِسْتِصْحَابهَا، بَلْ يَلْزَمهُ ذَلِكَ إِذَا خَافَ عَلَيْهَا لَوْ تَرَكَهَا، وَهَذَا لَا اِخْتِلَاف فيه، وَيَدُلّ عَلَيْهِ حَدِيث عَائِشَة فِي قِصَّة الْإِفْك.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «فَقَالَ رَجُل يَا رَسُول اللَّه إِنَّ اِمْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّة وَإِنِّي اُكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَة كَذَا وَكَذَا، قَالَ: اِنْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ اِمْرَأَتك» فيه تَقْدِيم الْأَهَمّ مِنْ الْأُمُور الْمُتَعَارِضَة؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ سَفَره فِي الْغَزْو وَفِي الْحَجّ مَعَهَا رَجَحَ الْحَجّ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْغَزْو يَقُوم غَيْره فِي مَقَامه عَنْهُ بِخِلَافِ الْحَجّ مَعَهَا.
قَوْله: وَحَدَّثَنَا اِبْن أَبِي عُمَر حَدَّثَنَا هِشَام يَعْنِي اِبْن سُلَيْمَان الْمَخْزُومِيّ عَنْ اِبْن جُرَيْجٍ بِهَذَا الْإِسْنَاد نَحْوه وَلَمْ يَذْكُر: «وَلَا يَخْلُوَنَّ رَجُل بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَم» هَذَا آخِر الْفَوَات الَّذِي لَمْ يَسْمَعهُ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْن سُفْيَان مِنْ مُسْلِم، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان أَوَّله عِنْد أَحَادِيث: رَحِم اللَّه الْمُحَلِّقِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ، وَمِنْ هُنَا قَالَ أَبُو إِسْحَاق: حَدَّثَنَا مُسْلِم بْن الْحَجَّاج، قَالَ وَحَدَّثَنِي هَارُون بْن عَبْد اللَّه قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاج بْن مُحَمَّد، قَالَ: قَالَ: اِبْن جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر الْحَدِيث.
وَهُوَ أَوَّل الْبَاب الَّذِي ذَكَرَهُ مُتَّصِلًا بِهَذَا.
وَاَللَّه أَعْلَم.
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب الحج ﴿ 72 ﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞