باب الولد للفراش وتوقي الشبهات باب الولد للفراش وتوقي الشبهات
باب الولد للفراش وتوقي الشبهات
2645- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَد لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَر» قَالَ الْعُلَمَاء: الْعَاهِر الزَّانِي وَعَهَرَ زَنَى وَعَهَرَتْ زَنَتْ وَالْعَهْر الزِّنَا، وَمَعْنَى الْحَجَر أَيْ لَهُ الْخَيْبَة وَلَا حَقّ لَهُ فِي الْوَلَد وَعَادَة الْعَرَب أَنَّ الْعَرَب تَقُول: لَهُ الْحَجَر وَبِفيه الْأَثْلَب، وَهُوَ التُّرَاب.
وَنَحْو ذَلِكَ يُرِيدُونَ لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْخَيْبَة وَقِيلَ: الْمُرَاد بِالْحَجَرِ هُنَا أَنْ يُرْجَم بِالْحِجَارَةِ وَهَذَا ضَعِيف لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلّ زَانٍ يُرْجَم وَإِنَّمَا يُرْجَم الْمُحْصَن خَاصَّة وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَم مِنْ رَجْمه نَفْي الْوَلَد عَنْهُ، وَالْحَدِيث إِنَّمَا وَرَدَ فِي نَفْي الْوَلَد عَنْهُ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَد لِلْفِرَاشِ»، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ زَوْجَة أَوْ مَمْلُوكَة صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ الْإِمْكَان مِنْهُ لَحِقَهُ الْوَلَد وَصَارَ وَلَدًا يَجْرِي بَيْنهمَا التَّوَارُث وَغَيْره مِنْ أَحْكَام الْوِلَادَة، سَوَاء كَانَ مُوَافِقًا لَهُ فِي الشَّبَه أَمْ مُخَالِفًا.
وَمُدَّة إِمْكَان كَوْنه مِنْهُ سِتَّة أَشْهُر مِنْ حِين اِجْتِمَاعهمَا.
أَمَّا مَا تَصِير بِهِ الْمَرْأَة فِرَاشًا، فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَة صَارَتْ فِرَاشًا بِمُجَرَّدِ عَقْد النِّكَاح وَنَقَلُوا فِي هَذَا الْإِجْمَاع وَشَرَطُوا إِمْكَان الْوَطْء بَعْد ثُبُوت الْفِرَاش.
فَإِنْ لَمْ يُمْكِن بِأَنْ يَنْكِح الْمَغْرِبِيّ مَشْرِقِيَّة وَلَمْ يُفَارِق وَاحِد مِنْهُمَا وَطَنه ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُر أَوْ أَكْثَر لَمْ يَلْحَقهُ لِعَدَمِ إِمْكَان كَوْنه مِنْهُ.
وَهَذَا قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا أَبَا حَنِيفَة فَلَمْ يَشْتَرِط الْإِمْكَان بَلْ اِكْتَفَى بِمُجَرَّدِ الْعَقْد.
قَالَ: حَتَّى لَوْ طَلَّقَ عَقِب الْعَقْد مِنْ غَيْر إِمْكَان وَطْء فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُر مِنْ الْعَقْد لَحِقَهُ الْوَلَد، وَهَذَا ضَعِيف ظَاهِر الْفَسَاد وَلَا حُجَّة لَهُ فِي إِطْلَاق الْحَدِيث، لِأَنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْغَالِب وَهُوَ حُصُول الْإِمْكَان عِنْد الْعَقْد، هَذَا حُكْم الزَّوْجَة.
وَأَمَّا الْأَمَة فَعِنْد الشَّافِعِيّ وَمَالِك تَصِير فِرَاشًا بِالْوَطْءِ، وَلَا تَصِير فِرَاشًا بِمُجَرَّدِ الْمِلْك حَتَّى لَوْ بَقِيَتْ فِي مِلْكه سِنِينَ وَأَتَتْ بِأَوْلَادٍ وَلَمْ يَطَأهَا وَلَمْ يُقِرّ بِوَطْئِهَا لَا يَلْحَقهُ أَحَد مِنْهُمْ، فَإِذَا وَطِئَهَا صَارَتْ فِرَاشًا، فَإِذَا أَتَتْ بَعْد الْوَطْء بِوَلَدٍ أَوْ أَوْلَادٍ لِمُدَّةِ الْإِمْكَان لَحِقُوهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا تَصِير فِرَاشًا إِلَّا إِذَا وَلَدَتْ وَلَدًا وَاسْتَلْحَقَهُ، فَمَا تَأْتِي بِهِ بَعْد ذَلِكَ يَلْحَقهُ إِلَّا أَنْ يَنْفيه، قَالَ لَوْ صَارَتْ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ لَصَارَتْ بِعَقْدِ الْمِلْك كَالزَّوْجَةِ.
قَالَ أَصْحَابنَا: الْفَرْق أَنَّ الزَّوْجَة تُرَاد لِلْوَطْءِ خَاصَّة فَجَعَلَ الشَّرْع الْعَقْد عَلَيْهَا كَالْوَطْءِ لَمَّا كَانَ هُوَ الْمَقْصُود، وَأَمَّا الْأَمَة تُرَاد لِمِلْكِ الرَّقَبَة وَأَنْوَاع مِنْ الْمَنَافِع غَيْر الْوَطْء وَلِهَذَا يَجُوز أَنْ يَمْلِك أُخْتَيْنِ وَأُمًّا وَبِنْتهَا وَلَا يَجُوز جَمْعهمَا بِعَقْدِ النِّكَاح فَلَمْ تَصِرْ بِنَفْسِ الْعَقْد فِرَاشًا فَإِذَا حَصَلَ الْوَطْء صَارَتْ كَالْحُرَّةِ وَصَارَتْ فِرَاشًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَدِيث عَبْد بْن زَمْعَة الْمَذْكُور هُنَا مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ مَصِير أَمَة أَبِيهِ زَمْعَة فِرَاشًا لِزَمْعَةَ فَلِهَذَا أَلْحَقَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ الْوَلَد.
وَثُبُوت فِرَاشه إِمَّا بِبَيِّنَةٍ عَلَى إِقْرَاره بِذَلِكَ فِي حَيَاته وَإِمَّا بِعِلْمِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ.
وَفِي هَذَا دَلَالَة لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِك عَلَى أَبِي حَنِيفَة فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِزَمْعَةَ وَلَد آخَر مِنْ هَذِهِ الْأَمَة قَبْل هَذَا وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ خِلَاف مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَة.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلَالَة لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ عَلَى مَالِك وَمُوَافِقِيهِ فِي اِسْتِلْحَاق النَّسَب لِأَنَّ الشَّافِعِيّ يَقُول: بِجَوَازِ أَنْ يُسْتَحْلَق الْوَارِث نَسَبًا لِمُوَرِّثِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُون حَائِزًا لِلْإِرْثِ أَوْ يَسْتَلْحِقهُ كُلّ الْوَرَثَة، وَبِشَرْطِ أَنْ يُمْكِن كَوْن الْمُسْتَلْحَق وَلَدًا لِلْمَيِّتِ، وَبِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُون مَعْرُوف النَّسَب مِنْ غَيْره، وَبِشَرْطِ أَنْ يُصَدِّقهُ الْمُسْتَلْحَق إِنْ كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا.
وَهَذِهِ الشُّرُوط كُلّهَا مَوْجُودَة فِي هَذَا الْوَلَد الَّذِي أَلْحَقَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَمْعَةَ حِين اِسْتَلْحَقَهُ عَبْد بْن زَمْعَة.
وَيَتَأَوَّل أَصْحَابنَا هَذَا تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّ سَوْدَة بِنْت زَمْعَة عَبْد اِسْتَلْحَقَتْهُ مَعَهُ وَوَافَقَتْهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى تَكُون كُلّ الْوَرَثَة مُسْتَلْحَقِينَ، وَالتَّأْوِيل الثَّانِي أَنَّ زَمْعَة مَاتَ كَافِرًا فَلَمْ تَرِثهُ سَوْدَة لِكَوْنِهَا مُسْلِمَة وَوَرِثَهُ عَبْد بْن زَمْعَة.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَة» فَأَمَرَهَا بِهِ نَدْبًا وَاحْتِيَاطًا، لِأَنَّهُ فِي ظَاهِر الشَّرْع أَخُوهَا لِأَنَّهُ أُلْحِقَ بِأَبِيهَا، لَكِنْ لَمَّا رَأَى الشَّبَه الْبَيِّن بِعُتْبَةَ بْن أَبِي وَقَّاص خَشِيَ أَنْ يَكُون مِنْ مَائِهِ فَيَكُون أَجْنَبِيًّا، مِنْهَا فَأَمَرَهَا، بِالِاحْتِجَابِ مِنْهُ اِحْتِيَاطًا.
قَالَ الْمَازِرِيّ: وَزَعَمَ بَعْض الْحَنَفِيَّة أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة: «اِحْتَجِبِي مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِأَخٍ لَك» وَقَوْله: «لَيْسَ بِأَخٍ لَك» لَا يُعْرَف فِي هَذَا الْحَدِيث بَلْ هِيَ زِيَادَة بَاطِلَة مَرْدُودَة وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: كَانَتْ عَادَة الْجَاهِلِيَّة إِلْحَاق النَّسَب بِالزِّنَا وَكَانُوا يَسْتَأْجِرْنَ الْإِمَاء لِلزِّنَا فَمَنْ اِعْتَرَفَتْ الْأُمّ بِأَنَّهُ لَهُ أَلْحَقُوهُ بِهِ فَجَاءَ الْإِسْلَام بِإِبْطَالِ ذَلِكَ وَبِإِلْحَاقِ الْوَلَد بِالْفِرَاشِ الشَّرْعِيّ، فَلَمَّا تَخَاصَمَ عَبْد بْن زَمْعَة وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَقَامَ سَعْد بِمَا عَهِدَ إِلَيْهِ أَخُوهُ عُتْبَة مِنْ سِيرَة الْجَاهِلِيَّة وَلَمْ يَعْلَم سَعْد بُطْلَان ذَلِكَ فِي الْإِسْلَام وَلَمْ يَكُنْ حَصَلَ إِلْحَاقه فِي الْجَاهِلِيَّة، إِمَّا لِعَدَمِ الدَّعْوَى، وَإِمَّا لِكَوْنِ الْأُمّ لَمْ تَعْتَرِف بِهِ لِعُتْبَة، وَاحْتَجَّ عَبْد بْن زَمْعَة بِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاش أَبِيهِ فَحَكَمَ لَهُ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْله: «رَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلَد لِلْفِرَاشِ» دَلِيل عَلَى أَنَّ الشَّبَه وَحُكْم الْقَافَة إِنَّمَا يُعْتَمَد إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَقْوَى مِنْهُ كَالْفِرَاشِ كَمَا لَمْ يَحْكُم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّبَهِ فِي قِصَّة الْمُتَلَاعِنَيْنِ مَعَ أَنَّهُ جَاءَ عَلَى الشَّبَه الْمَكْرُوه.
وَاحْتَجَّ بَعْض الْحَنَفِيَّة وَمُوَافِقِيهِمْ بِهَذَا الْحَدِيث، عَلَى أَنَّ الْوَطْء بِالزِّنَا لَهُ حُكْم الْوَطْء بِالنِّكَاحِ فِي حُرْمَة الْمُصَاهَرَة، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْرِيّ وَأَحْمَد وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَغَيْرهمْ لَا أَثَر لِوَطْءِ الزِّنَا، بَلْ لِلزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّج أُمّ الْمَزْنِيّ بِهَا وَبِنْتهَا، بَلْ زَادَ الشَّافِعِيّ: فَجَوَّزَ نِكَاح الْبِنْت الْمُتَوَلِّدَة مِنْ مَائِهِ بِالزِّنَا.
قَالُوا وَوَجْه الِاحْتِجَاج بِهِ أَنَّ سَوْدَة أُمِرَتْ بِالِاحْتِجَابِ وَهَذَا اِحْتِجَاج بَاطِل وَالْعَجَب مِمَّنْ ذَكَرَهُ، لِأَنَّ هَذَا عَلَى تَقْدِير كَوْنه مِنْ الزِّنَا وَهُوَ أَجْنَبِيّ مِنْ سَوْدَة لَا يَحِلّ لَهَا الظُّهُور لَهُ سَوَاء أُلْحِقَ بِالزَّانِي أَمْ لَا، فَلَا تَعَلُّق لَهُ بِالْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَة.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ حُكْم الْحَاكِم لَا يُحِيل الْأَمْر فِي الْبَاطِن، فَإِذَا حُكِمَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ زُور أَوْ نَحْو ذَلِكَ، لَمْ يَحِلّ الْمَحْكُوم بِهِ لِلْمَحْكُومِ لَهُ.
وَمَوْضِع الدَّلَالَة أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِهِ لِعَبْدِ بْن زَمْعَة وَأَنَّهُ أَخ لَهُ وَلِسَوْدَةَ، وَاحْتُمِلَ بِسَبَبِ الشَّبَه أَنْ يَكُون مِنْ عُتْبَة فَلَوْ كَانَ الْحُكْم يُحِيل الْبَاطِن لَمَا أَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ وَاَللَّه أَعْلَم.
باب الولد للفراش وتوقي الشبهات
باب الولد للفراش وتوقي الشبهات