باب صوم يوم عاشوراء
باب صوم يوم عاشوراء
اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ صَوْم يَوْم عَاشُورَاء الْيَوْم سُنَّة لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمه فِي أَوَّل الْإِسْلَام حِين شُرِعَ صَوْمه قَبْل صَوْم رَمَضَان، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: كَانَ وَاجِبًا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ فيه عَلَى وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ: أَشْهَرُهُمَا عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ سُنَّةً مِنْ حِين شُرِعَ، وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا قَطُّ فِي هَذِهِ الْأُمَّة، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُتَأَكِّدَ الِاسْتِحْبَاب، فَلَمَّا نَزَلَ صَوْم رَمَضَان صَارَ مُسْتَحَبًّا دُون ذَلِكَ الِاسْتِحْبَاب.
وَالثَّانِي: كَانَ وَاجِبًا، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَة، وَتَظْهَر فَائِدَة الْخِلَاف فِي اِشْتِرَاط نِيَّة الصَّوْم الْوَاجِب مِنْ اللَّيْل، فَأَبُو حَنِيفَة لَا يَشْتَرِطهَا، وَيَقُول: كَانَ النَّاس مُفْطِرِينَ أَوَّل يَوْم عَاشُورَاء ثُمَّ أُمِرُوا بِصِيَامِهِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَار، وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِقَضَائِهِ بَعْد صَوْمه.
وَأَصْحَاب الشَّافِعِيّ يَقُولُونَ: كَانَ مُسْتَحَبًّا فَصَحَّ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَار، وَيَتَمَسَّك أَبُو حَنِيفَة بِقَوْلِهِ: «أَمَرَ بِصِيَامِهِ» وَالْأَمْر لِلْوُجُوبِ، وَبِقَوْلِهِ: «فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَان قَالَ: مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ».
وَيَحْتَجُّ الشَّافِعِيَّةُ بِقَوْلِهِ: «هَذَا يَوْم عَاشُورَاء، وَلَمْ يَكْتُب اللَّه عَلَيْكُمْ صِيَامه».
وَالْمَشْهُور فِي اللُّغَة: أَنَّ عَاشُورَاء وَتَاسُوعَاء مَمْدُودَانِ، وَحُكِيَ قَصْرُهُمَا.
✯✯✯✯✯✯
1897- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَيْسَ مُتَحَتِّمًا، فَأَبُو حَنِيفَة يُقَدِّرُهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَالشَّافِعِيَّة يُقَدِّرُونَهُ لَيْسَ مُتَأَكِّدًا أَكْمَلَ التَّأْكِيد، وَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ فَهُوَ سُنَّة مُسْتَحَبَّة الْآن مِنْ حِين قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْكَلَام، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَكَانَ بَعْض السَّلَف يَقُول: كَانَ صَوْم عَاشُورَاء فَرْضًا، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ لَمْ يُنْسَخْ، قَالَ: وَانْقَرَضَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا، وَحَصَلَ الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر كَرَاهَة قَصْد صَوْمه وَتَعْيِينِهِ بِالصَّوْمِ.
وَالْعُلَمَاء مُجْمِعُونَ عَلَى اِسْتِحْبَابِهِ وَتَعْيِينِهِ؛ لِلْأَحَادِيثِ.
وَأَمَّا قَوْل اِبْن مَسْعُود: كُنَّا نَصُومُهُ، ثُمَّ تُرِكَ، فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ كَمَا كَانَ مِنْ الْوُجُوب، وَتَأَكَّدَ النَّدْب.
✯✯✯✯✯✯
1900- قَوْله فِي حَدِيث قُتَيْبَة بْن سَعِيد وَمُحَمَّد بْن رُمْح: (إِنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَصُوم عَاشُورَاء فِي الْجَاهِلِيَّة، ثُمَّ أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيَامِهِ حَتَّى فُرِضَ رَمَضَان) ضَبَطُوا (أَمَرَ) هُنَا بِوَجْهَيْنِ أَظْهَرُهُمَا: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ، وَالثَّانِي بِضَمِّ الْهَمْزَة وَكَسْر الْمِيم، وَلَمْ يَذْكُر الْقَاضِي عِيَاضٌ غَيْرَهُ.
✯✯✯✯✯✯
1909- قَوْله: (أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ) إِلَى آخِره.
فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يُوجِبُهُ أَوْ يُحَرِّمُهُ أَوْ يَكْرَهُهُ فَأَرَادَ إِعْلَامه، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُحَرَّمٍ وَلَا مَكْرُوهٍ، وَخَطَبَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْجَمْع الْعَظِيم وَلَمْ يُنْكَر عَلَيْهِ.
قَوْله عَنْ مُعَاوِيَة: «سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول لِهَذَا الْيَوْم: هَذَا يَوْم عَاشُورَاء وَلَمْ يَكْتُب اللَّه عَلَيْكُمْ صِيَامه، وَأَنَا صَائِم فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَصُوم فَلْيَصُمْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُفْطِر فَلْيُفْطِرْ» هَذَا كُلّه مِنْ كَلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَكَذَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ.
✯✯✯✯✯✯
1910- قَوْله: «فَوَجَدَ الْيَهُود يَصُومُونَ يَوْم عَاشُورَاء فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ»، وَفِي رِوَايَة: «فَسَأَلَهُمْ».
الْمُرَاد بِالرِّوَايَتَيْنِ: أَمْر مَنْ سَأَلَهُمْ، وَالْحَاصِل مِنْ مَجْمُوع الْأَحَادِيث أَنَّ يَوْم عَاشُورَاء كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة مِنْ كُفَّار قُرَيْش وَغَيْرهمْ وَالْيَهُود يَصُومُونَهُ، وَجَاءَ الْإِسْلَام بِصِيَامِهِ مُتَأَكِّدًا، ثُمَّ بَقي صَوْمه أَخَفَّ مِنْ ذَلِكَ التَّأَكُّد.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
✯✯✯✯✯✯
1911- قَوْله: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُود يَصُومُونَ عَاشُورَاء، وَقَالُوا: إِنَّ مُوسَى صَامَهُ وَإِنَّهُ الْيَوْم الَّذِي نَجَوْا فيه مِنْ فِرْعَوْن وَغَرِقَ فِرْعَوْن، فَصَامَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، وَقَالَ: نَحْنُ أَحَقّ بِمُوسَى مِنْهُمْ» قَالَ الْمَازِرِيّ: خَبَر اليهُود غَيْر مَقْبُول، فَيَحْتَمِل أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصِدْقِهِمْ فِيمَا قَالُوهُ، أَوْ تَوَاتَرَ عِنْدَهُ النَّقْل بِذَلِكَ حَتَّى حَصَلَ لَهُ الْعِلْم بِهِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَدًّا عَلَى الْمَازِرِيّ: قَدْ رَوَى مُسْلِم أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَصُومهُ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة صَامَهُ، فَلَمْ يَحْدُث لَهُ بِقَوْلِ الْيَهُود حُكْمٌ يَحْتَاج إِلَى الْكَلَام عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هِيَ صِفَة حَال وَجَوَاب سُؤَال، فَقَوْله: (صَامَهُ) لَيْسَ فيه أَنَّهُ اِبْتَدَأَ صَوْمه حِينَئِذٍ بِقَوْلِهِمْ، وَلَوْ كَانَ هَذَا لَحَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ كَابْنِ سَلَام وَغَيْره، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ قَالَ بَعْضهمْ: يَحْتَمِل أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومهُ بِمَكَّة، ثُمَّ تَرَكَ صِيَامه حَتَّى عَلِمَ مَا عِنْد أَهْل الْكِتَاب فيه فَصَامَهُ، قَالَ الْقَاضِي: وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى بِلَفْظِ الْحَدِيث، قُلْت: الْمُخْتَار قَوْل الْمَازِرِيّ، وَمُخْتَصَر ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومهُ كَمَا تَصُومهُ قُرَيْش فِي مَكَّة، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَة فَوَجَدَ الْيَهُود يَصُومُونَهُ فَصَامَهُ أَيْضًا بِوَحْيٍ أَوْ تَوَاتُرٍ أَوْ اِجْتِهَادٍ، لَا بِمُجَرَّدِ أَخْبَارِ آحَادِهِمْ.
وَاَللَّهُ أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
1913- قَوْله: (وَيُلْبِسُونَ نِسَاءَهُمْ فيه حُلِيَّهُمْ وَشَارَتَهُمْ) (الشَّارَة) بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة بِلَا هَمْزٍ وَهِيَ الْهَيْئَة الْحَسَنَة وَالْجَمَال، أَيْ يُلْبِسُونَهُنَّ لِبَاسَهُمْ الْحَسَنَ الْجَمِيلَ، وَيُقَال لَهَا: الشَّارَة وَالشُّورَة بِضَمِّ الشِّين، وَأَمَّا (الْحَلْي) فَقَالَ أَهْل اللُّغَة: هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء وَإِسْكَان اللَّام مُفْرَد وَجَمْعه (حُلِيّ) بِضَمِّ الْحَاء وَكَسْرهَا، وَالضَّمّ أَشْهَر وَأَكْثَر، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْع، وَأَكْثَرهمْ عَلَى الضَّمّ، وَاللَّام مَكْسُورَة وَالْيَاء مُشَدَّدَة فيهمَا.
باب صوم يوم عاشوراء باب صوم يوم عاشوراءباب صوم يوم عاشوراء باب صوم يوم عاشوراءباب صوم يوم عاشوراء باب صوم يوم عاشوراء