باب تغليظ تحريم الدماء والاعراض والاموال
باب تغليظ تحريم الدماء والاعراض والاموال
3179- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الزَّمَان قَدْ اِسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْم خَلَقَ اللَّه السَّمَاوَات وَالْأَرْض: السَّنَة اثْنَيْ عَشَر شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَة حُرُمٌ، ثَلَاثَة مُتَوَالِيَات: ذُو الْقَعَدَة وَذُو الْحِجَّة وَالْمُحَرَّم وَرَجَب شَهْر مُضَر الَّذِي بَيْن جُمَادَى وَشَعْبَان» أَمَّا ذُو الْقَعْدَة: فَبِفَتْحِ الْقَاف، وَذُو الْحِجَّة بِكَسْرِ الْحَاء هَذِهِ اللُّغَة الْمَشْهُورَة، وَيَجُوز فِي لُغَة قَلِيلَة كَسْر الْقَاف وَفَتْح الْحَاء.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْأَشْهُر الْحُرُم الْأَرْبَعَة هِيَ هَذِهِ الْمَذْكُورَة فِي الْحَدِيث، وَلَكِنْ اِخْتَلَفُوا فِي الْأَدَب الْمُسْتَحَبّ فِي كَيْفِيَّة عَدّهَا، فَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْكُوفَة وَأَهْل الْأَدَب: يُقَال: الْمُحَرَّم وَرَجَب وَذُو الْقَعْدَة وَذُو الْحِجَّة لِيَكُونَ الْأَرْبَعَة مِنْ سَنَة وَاحِدَة، وَقَالَ عُلَمَاء الْمَدِينَة وَالْبَصْرَة وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء: هِيَ ذُو الْقَعْدَة وَذُو الْحِجَّة وَالْمُحَرَّم وَرَجَب، ثَلَاثَة سَرْد وَوَاحِد فَرْد، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، مِنْهَا هَذَا الْحَدِيث الَّذِي نَحْنُ فيه، وَعَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَال أَطْبَقَ النَّاس مِنْ الطَّوَائِف كُلّهَا.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَرَجَب مُضَرَ الَّذِي بَيْن جُمَادَى، وَشَعْبَان» وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ هَذَا التَّقْيِيد مُبَالَغَة فِي إِيضَاحه وَإِزَالَة لِلَّبْسِ عَنْهُ، قَالُوا: وَقَدْ كَانَ بَيْن بَنِي مُضَرَ وَبَيْن رَبِيعَة اِخْتِلَاف فِي رَجَب، فَكَانَتْ مُضَرَ تَجْعَل رَجَبًا هَذَا الشَّهْر الْمَعْرُوف الْآن، وَهُوَ الَّذِي بَيْن جُمَادَى وَشَعْبَان، وَكَانَتْ رَبِيعَة تَجْعَلهُ رَمَضَان، فَلِهَذَا أَضَافَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُضَرَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ أَكْثَر مِنْ غَيْرهمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَرَب كَانَتْ تُسَمِّي رَجَبًا وَشَعْبَان الرَّجَبَيْنِ، وَقِيلَ: كَانَتْ تُسَمِّي جُمَادَى وَرَجَبًا جَمَادَيْنِ، وَتُسَمِّي شَعْبَان رَجَبًا.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الزَّمَان قَدْ اِسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْم خَلَقَ اللَّه السَّمَاوَات وَالْأَرْض» فَقَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّة يَتَمَسَّكُونَ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْرِيم الْأَشْهُر الْحُرُم، وَكَانَ يَشُقّ عَلَيْهِمْ تَأْخِير الْقِتَال ثَلَاثَة أَشْهُر مُتَوَالِيَات، فَكَانُوا إِذَا اِحْتَاجُوا إِلَى قِتَال أَخَّرُوا تَحْرِيم الْمُحَرَّم إِلَى الشَّهْر الَّذِي بَعْده وَهُوَ صَفَر، ثُمَّ يُؤَخِّرُونَهُ فِي السَّنَة الْأُخْرَى إِلَى شَهْر آخَر، وَهَكَذَا يَفْعَلُونَ فِي سَنَة بَعْد سَنَة، حَتَّى اِخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ الْأَمْر، وَصَادَفَتْ حَجَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمهمْ، وَقَدْ تَطَابَقَ الشَّرْع، وَكَانُوا فِي تِلْكَ السَّنَة قَدْ حَرَّمُوا ذَا الْحِجَّة لِمُوَافَقَةِ الْحِسَاب الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَأَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الِاسْتِدَارَة صَادَفَتْ مَا حَكَمَ اللَّه تَعَالَى بِهِ يَوْم خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كَانُوا يَنْسَئُونَ، أَيْ: يُؤَخِّرُونَ وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّه تَعَالَى فيه: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَة فِي الْكُفْر} فَرُبَّمَا اِحْتَاجُوا إِلَى الْحَرْب فِي الْمُحَرَّم، فَيُؤَخِّرُونَ تَحْرِيمه إِلَى صَفَر، ثُمَّ يُؤَخِّرُونَ صَفَر فِي سَنَة أُخْرَى، فَصَادَفَ تِلْكَ السَّنَة رُجُوع الْمُحَرَّم إِلَى مَوْضِعه.
وَذَكَرَ الْقَاضِي وُجُوهًا أُخَر فِي بَيَان مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث لَيْسَتْ بِوَاضِحَةٍ وَيُنْكَر بَعْضهَا.
قَوْله: «ثُمَّ قَالَ: أَيّ شَهْر هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اِسْمه، قَالَ: أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّة؟ قُلْنَا.
بَلَى، قَالَ: فَأَيّ بَلَد هَذَا؟ قُلْنَا.
اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم إِلَى آخِره» هَذَا السُّؤَال وَالسُّكُوت وَالتَّفْسِير أَرَادَ بِهِ التَّفْخِيم وَالتَّقْرِير وَالتَّنْبِيه عَلَى عِظَم مَرْتَبَة هَذَا الشَّهْر وَالْبَلَد وَالْيَوْم، وَقَوْلهمْ: «اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم».
هَذَا مِنْ حُسْن أَدَبهمْ، وَأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ الْجَوَاب فَعَرَفُوا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَاد مُطْلَق الْإِخْبَار بِمَا يَعْرِفُونَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ حَرَام عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمكُمْ هَذَا فِي بَلَدكُمْ هَذَا فِي شَهْركُمْ هَذَا» الْمُرَاد بِهَذَا كُلّه: بَيَان تَوْكِيد غِلَظ تَحْرِيم الْأَمْوَال وَالدِّمَاء وَالْأَعْرَاض وَالتَّحْذِير مِنْ ذَلِكَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي ضُلَّالًا يَضْرِب بَعْضكُمْ رِقَاب بَعْض» هَذَا الْحَدِيث سَبَقَ شَرْحه فِي كِتَاب الْإِيمَان فِي أَوَّل الْكِتَاب، وَذِكْر بَيَان إِعْرَابه، وَأَنَّهُ لَا حُجَّة فيه لِمَنْ يَقُول بِالتَّكْفِيرِ بِالْمَعَاصِي، بَلْ الْمُرَاد بِهِ كُفْرَان النِّعَم، أَوْ هُوَ مَحْمُول عَلَى مَنْ اِسْتَحَلَّ قِتَال الْمُسْلِمِينَ بِلَا شُبْهَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِيُبَلِّغ الشَّاهِد الْغَائِب» فيه: وُجُوب تَبْلِيغ الْعِلْم، وَهُوَ فَرْض كِفَايَة، فَيَجِبُ تَبْلِيغه بِحَيْثُ يَنْتَشِر.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَعَلَّ بَعْض مَنْ يَبْلُغهُ يَكُون أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْض مَنْ سَمِعَهُ» اِحْتَجَّ بِهِ الْعُلَمَاء لِجَوَازِ رِوَايَة الْفُضَلَاء وَغَيْرهمْ مِنْ الشُّيُوخ الَّذِينَ لَا عِلْم لَهُمْ عِنْدهمْ وَلَا فِقْه، إِذَا ضَبَطَ مَا يُحَدِّث بِهِ.
✯✯✯✯✯✯
3180- قَوْله: «قَعَدَ عَلَى بَعِيره وَأَخَذَ إِنْسَان بِخِطَامِهِ» إِنَّمَا أَخَذَ بِخِطَامِهِ لِيَصُونَ الْبَعِير مِنْ الِاضْطِرَاب عَلَى صَاحِبه، وَالتَّهْوِيش عَلَى رَاكِبه، وَفيه: دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب الْخُطْبَة عَلَى مَوْضِع عَالٍ مِنْ مِنْبَر وَغَيْره، سَوَاء خُطْبَة الْجُمُعَة وَالْعِيد وَغَيْرهمَا، وَحِكْمَته أَنَّهُ كُلَّمَا اِرْتَفَعَ كَانَ أَبْلَغ فِي إِسْمَاعه النَّاس وَرُؤْيَتهمْ إِيَّاهُ، وَوُقُوع كَلَامه فِي نُفُوسهمْ.
قَوْله: «اِنْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا وَإِلَى جُزَيْعَة مِنْ الْغَنَم فَقَسَمَهَا بَيْننَا» اِنْكَفَأَ بِهَمْزِ آخِره، أَيْ: اِنْقَلَبَ، وَالْأَمْلَح: هُوَ الَّذِي فيه بَيَاض وَسَوَاد وَالْبَيَاض أَكْثَر، وَقَوْله: (جُزَيْعَة) بِضَمِّ الْجِيم وَفَتْح الزَّاي، وَرَوَاهُ بَعْضهمْ (جَزِيعَة) بِفَتْحِ الْجِيم وَكَسْر الزَّاي وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَالْأَوَّل هُوَ الْمَشْهُور فِي رِوَايَة الْمُحَدِّثِينَ، وَهُوَ الَّذِي ضَبَطَهُ الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره مِنْ أَهْل اللُّغَة، وَهِيَ الْقِطْعَة مِنْ الْغَنَم تَصْغِير جِزْعَة بِكَسْرِ الْجِيم، وَهِيَ الْقَلِيل مِنْ الشَّيْء، يُقَال جَزَعَ لَهُ مِنْ مَاله أَيْ: قَطَعَ، وَبِالثَّانِي ضَبَطَهُ اِبْن فَارِس فِي الْمُجْمَل، قَالَ: وَهِيَ الْقِطْعَة مِنْ الْغَنَم، كَأَنَّهَا فَعِيلَة بِمَعْنَى مَفْعُولَة كَضَفِيرَةٍ بِمَعْنَى مَضْفُورَة، قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: قَوْله: (ثُمَّ اِنْكَفَأَ) إِلَى آخِر الْحَدِيث، وَهْم مِنْ اِبْن عَوْن فِيمَا قِيلَ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ اِبْن سِيرِينَ عَنْ أَنَس فَأَدْرَجَهُ اِبْن عَوْن هُنَا فِي هَذَا الْحَدِيث، فَرَوَاهُ عَنْ اِبْن سِيرِينَ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْرَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيّ هَذَا الْحَدِيث عَنْ اِبْن عَوْن، فَلَمْ يَذْكُر فيه هَذَا الْكَلَام فَلَعَلَّهُ تَرَكَهُ عَمْدًا، وَقَدْ رَوَاهُ أَيُّوب وَقُرَّة عَنْ اِبْن سِيرِينَ فِي كِتَاب مُسْلِم فِي هَذَا الْبَاب، وَلَمْ يَذْكُرُوا فيه هَذِهِ الزِّيَادَة، قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَشْبَه أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَة إِنَّمَا هِيَ فِي حَدِيث آخَر فِي خُطْبَة عِيد الْأَضْحَى، فَوَهَمَ فيها الرَّاوِي، فَذَكَرَهَا مَضْمُومَة إِلَى خُطْبَة الْحَجَّة، أَوْ هُمَا حَدِيثَانِ ضُمَّ أَحَدهمَا إِلَى الْآخَر، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم هَذَا بَعْد هَذَا فِي كِتَاب الضَّحَايَا مِنْ حَدِيث أَيُّوب وَهِشَام عَنْ اِبْن سِيرِينَ عَنْ أَنَس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، فَأَمَرَ مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْل الصَّلَاة أَنْ يُعِيد، ثُمَّ قَالَ فِي آخِر الْحَدِيث: «فَانْكَفَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا فَقَامَ النَّاس إِلَى غُنَيْمَة فَتَوَزَّعُوهَا» فَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَهُوَ دَافِعٌ لِلْإِشْكَالِصِحَّةِ الإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ وَتَمْكِينِ وَلِيِّ الْقَتِيلِ مِنَ الْقِصَاصِ وَاسْتِحْبَابِ طَلَبِ الْعَفْوِ مِنْهُ:3181- قَوْله: «جَاءَ رَجُل يَقُود آخَر بِنِسْعَةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه هَذَا قَتَلَ أَخِي، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقَتَلْته؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِف أَقَمْت عَلَيْهِ الْبَيِّنَة، قَالَ: نَعَمْ قَتَلْته، قَالَ: كَيْف قَتَلْته؟ قَالَ: كُنْت أَنَا وَهُوَ نَخْتَبِط مِنْ شَجَرَة فَسَبَّنِي فَأَغْضَبَنِي فَضَرَبْته بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنه فَقَتَلْته».
أَمَّا النِّسْعَة: فَبِنُونٍ مَكْسُورَة ثُمَّ سِين سَاكِنَة ثُمَّ عَيْن مُهْمَلَة وَهِيَ حَبْل مِنْ جُلُود مَضْفُورَة.
وَقَرْنه: جَانِب رَأْسه.
وَقَوْله: «يَخْتَبِط» أَيْ يَجْمَع الْخَبْط، وَهُوَ وَرِق الثَّمَر بِأَنْ يَضْرِب الشَّجَر بِالْعَصَا فَيَسْقُط وَرَقه فَيَجْمَعهُ عَلَفًا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: الْإِغْلَاظ عَلَى الْجُنَاة وَرَبْطهمْ وَإِحْضَارهمْ إِلَى وَلِيّ الْأَمْر.
وَفيه: سُؤَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ جَوَاب الدَّعْوَى، فَلَعَلَّهُ يُقِرّ فَيَسْتَغْنِي الْمُدَّعِي وَالْقَاضِي عَنْ التَّعَب فِي إِحْضَار الشُّهُود وَتَعْدِيلهمْ، وَلِأَنَّ الْحُكْم بِالْإِقْرَارِ حُكْم بِيَقِينٍ، وَبِالْبَيِّنَةِ حُكْم بِالظَّنِّ.
وَفيه: سُؤَال الْحَاكِم وَغَيْره الْوَلِيّ عَنْ الْعَفْو عَنْ الْجَانِي.
وَفيه جَوَاز الْعَفْو بَعْد بُلُوغ الْأَمْر إِلَى الْحَاكِم.
وَفيه: جَوَاز أَخْذ الدِّيَة فِي قَتْل الْعَمْد؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَمَام الْحَدِيث: «هَلْ لَك مِنْ شَيْء تُؤَدِّيه عَنْ نَفْسك؟» وَفيه: قَبُول الْإِقْرَار بِقَتْلِ الْعَمْد.
قَوْله: «فَانْطَلَقَ بِهِ الرَّجُل، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْله، فَرَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه بَلَغَنِي إِنَّك قُلْت: إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْله، وَأَخَذْته بِأَمْرِك، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا تُرِيد أَنْ يَبُوء بِإِثْمِك وَإِثْم صَاحِبك؟ قَالَ: يَا نَبِيّ اللَّه لَعَلَّهُ قَالَ بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ ذَاكَ كَذَاك قَالَ: فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ وَخَلَّى سَبِيله».
وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «إِنَّهُ اِنْطَلَقَ بِهِ فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقَاتِل وَالْمَقْتُول فِي النَّار».
أَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْله» فَالصَّحِيح فِي تَأْوِيله أَنَّهُ مِثْله فِي أَنَّهُ لَا فَضْل وَلَا مِنَّة لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَر؛ لِأَنَّهُ اِسْتَوْفَى حَقّه مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَفَى عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ الْفَضْل وَالْمِنَّة وَجَزِيل ثَوَاب الْآخِرَة، وَجَمِيل الثَّنَاء فِي الدُّنْيَا.
وَقِيلَ: فَهُوَ مِثْله فِي أَنَّهُ قَاتَلَ، وَإِنْ اِخْتَلَفَا فِي التَّحْرِيم وَالْإِبَاحَة، لَكِنَّهُمَا اِسْتَوَيَا فِي إِطَاعَتهمَا الْغَضَب وَمُتَابَعَة الْهَوَى، لاسيما وَقَدْ طَلَبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ الْعَفْو، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ بِهَذَا اللَّفْظ الَّذِي هُوَ صَادِق فيه لِإِيهَامِ لِمَقْصُودٍ صَحِيح، وَهُوَ أَنَّ الْوَلِيّ رُبَّمَا خَافَ فَعَفَا، وَالْعَفْو مَصْلَحَة لِلْوَلِيِّ وَالْمَقْتُول فِي دِيَتهمَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَبُوء بِإِثْمِك وَإِثْم صَاحِبك».
وَفيه: مَصْلَحَة لِلْجَانِي وَهُوَ إِنْقَاذه مِنْ الْقَتْل، فَلَمَّا كَانَ الْعَفْو مَصْلَحَة تَوَصَّلَ إِلَيْهِ بِالتَّعْرِيضِ، وَقَدْ قَالَ الضَّمْرِيّ وَغَيْره مِنْ عُلَمَاء أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ: يُسْتَحَبّ لِلْمُفْتِي إِذَا رَأَى مَصْلَحَة فِي التَّعْرِيض لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يُعَرِّض تَعْرِيضًا يَحْصُل بِهِ الْمَقْصُود، مَعَ أَنَّهُ صَادِق فيه، قَالُوا: وَمِثَاله أَنْ يَسْأَلهُ إِنْسَان عَنْ الْقَاتِل، هَلْ لَهُ تَوْبَة؟ وَيَظْهَر لِلْمُفْتِي بِقَرِينَةٍ أَنَّهُ إِنْ أَفْتَى بِأَنَّ لَهُ تَوْبَة تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَفْسَدَة، وَهِيَ أَنَّ السَّائِل يَسْتَهْوِنُ الْقَتْل لِكَوْنِهِ يَجِد بَعْد ذَلِكَ مِنْهُ مَخْرَجًا، فَيَقُول الْمُفْتِي الْحَالَة هَذِهِ: صَحَّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ: لَا تَوْبَة لِقَاتِلٍ، فَهُوَ صَادِق فِي أَنَّهُ صَحَّ عَنْ اِبْن عَبَّاس، وَإِنْ كَانَ الْمُفْتِي لَا يَعْتَقِد ذَلِكَ، وَلَا يُوَافِق اِبْن عَبَّاس فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة، لَكِنَّ السَّائِل إِنَّمَا يُفْهَم مِنْهُ مُوَافَقَته اِبْن عَبَّاس فَيَكُون سَبَبًا لِزَجْرِهِ، فَهَكَذَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَمَنْ يَسْأَل عَنْ الْغِيبَة فِي الصَّوْم، وَهَلْ يُفْطِر بِهَا؟ فَيَقُول: جَاءَ فِي الْحَدِيث: «الْغِيبَة تُفْطِر الصَّائِم» وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا تُرِيد أَنْ يَبُوء بِإِثْمِك وَإِثْم صَاحِبك» فَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَتَحَمَّل إِثْم الْمَقْتُول بِإِتْلَافِهِ مُهْجَته، وَإِثْم الْوَلِيّ لِكَوْنِهِ فَجَعَهُ فِي أَخِيهِ، وَيَكُون قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فِي هَذَا الرَّجُل خَاصَّة، وَيَحْتَمِل أَنَّ مَعْنَاهُ يَكُون عَفْوُكَ عَنْهُ سَبَبًا لِسُقُوطِ إِثْمك وَإِثْم أَخِيك الْمَقْتُول، وَالْمُرَاد إِثْمهمَا السَّابِق بِمَعَاصٍ لَهُمَا مُتَقَدِّمَة لَا تَعَلُّق لَهَا بِهَذَا الْقَاتِل، فَيَكُون مَعْنَى يَبُوء: يَسْقُط، وَأُطْلِقَ هَذَا اللَّفْظ عَلَيْهِ مَجَازًا قَالَ الْقَاضِي: وَفِي الْحَدِيث: أَنَّ قَتْل الْقِصَاص لَا يُكَفِّر ذَنْب الْقَاتِل بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ كَفَّرَهَا بَيْنه وَبَيْن اللَّه تَعَالَى كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر: «فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ» وَيَبْقَى حَقّ الْمَقْتُول.
وَاللَّهُ أَعْلَم.
✯✯✯✯✯✯
3182- «قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقَاتِل وَالْمَقْتُول فِي النَّار» فَلَيْسَ الْمُرَاد بِهِ فِي هَذَيْنِ، فَكَيْف تَصِحّ إِرَادَتهمَا مَعَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَهُ لِيَقْتُلهُ بِأَمْرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ الْمُرَاد غَيْرهمَا، وَهُوَ إِذَا اِلْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفيهمَا فِي الْمُقَاتَلَة الْمُحَرَّمَة كَالْقِتَالِ عَصَبِيَّة وَنَحْو ذَلِكَ، فَالْقَاتِل وَالْمَقْتُول فِي النَّار، وَالْمُرَاد بِهِ التَّعْرِيض كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَسَبَب قَوْله مَا قَدَّمْنَاهُ لِكَوْنِ الْوَلِيّ يَفْهَم مِنْهُ دُخُوله فِي مَعْنَاهُ، وَلِهَذَا تَرَكَ قَتْله فَحَصَلَ الْمَقْصُود.
وَاللَّهُ أَعْلَم.
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات ﴿ 9 ﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞