📁 آخر الأخبار

التقديم والتأخير في بلاغة العرب I بسطتهالك bassthalk

 التقديم والتأخير في بلاغة العرب

التقديم والتأخير في بلاغة العرب


1- تقديم لابد منه :

لقد شرف الله اللغة العربية و خصها بالعديد من الميزات و لعل أهمها كونها اللغة التي نزل بها خاتمة كتبه السماوية .. وهي إلى ذلك تمتاز بتنظيم تركيبي عجيب ، جعل نظامها اللغوي فريدا من نوعه لدرجة أنك إذا أردت أن تعوض الكلمة الواحدة في التركيب بكلمة غيرها ، يستحيل أن تجد مثلها في ذلك الجمال و اللطف الذي تميزت به تلك الكلمة في ذلك التعبير ، سواء من حيث لفظها أو أداؤها المعنى المراد والمقصود بعينه.

و قد تعددت مباحث اللغة العربية ، و تناولها علماؤنا بالكثير من التفصيل ، لدرجة يمكن أن نقول معها إن بعض المباحث و الأبواب قد قتلت بحثا ، و لكن الذي يختلف في هذه البحوث ، أو هذه المعالجات هو اختلاف درجة تناول المبحث أو الموضوع المتناول ، فقد يتناوله النحوي و البلاغي و الفيلسوف و المنطقي و غيرهم ، كل من زاوية رؤيته ، و حسب الأهداف التي سطرها ، و التي يريد تحقيقها من تناوله لذلك الموضوع .

و التقديم و التأخير من الموضوعات التي نالت حظا وافرا من الحديث سواء من قبل النحويين أو من قبل البلاغيين الذين أولوها اهتماما زائدا لشرف اللغة التي يدرسون نظمها و تركيبها .

و سندرس هذا الموضوع في إطار تناولنا للمسند والمسند إليه المعتبران ركنين أساسين في الجملة العربية.

2- تعريف التقديم و التأخير

عندما نسمع `التقديم و التأخير` نعرف أننا بصدد الحديث في ترتيب عناصر الجملة العربية .و الجملة العربية إما فعلية و إما اسمية ، فإذا كانت فعلية فترتيب عناصرها واضح ، و الفعل هو المقدم في الترتيب على الأصل . أما إذا كانت اسمية و استوى طرفا التركيب و كانا معرفين معا ، فقد اختلف في أيهما يمكن أن تصدر به الجملة ، وأيهما تجعله خبرا ، فأما النحويون فلم يتعرضوا للتحديد ، بل تركوا للمتكلم الخيار ، و أجازوا أن يكون كل منهما هو المبتدأ والثاني هو الخبر ، و يعربون المقدم مبتدأ و المؤخر خبرا ، ” لكن البلاغيين بحثوا الأمر بحثا فكريا منطقيا دقيقا ، ناظرين إلى حال المخاطب ، و ما هو الأعرف لديه من ركني الإسناد اللذين هما من المعارف “ .

و من هنا يأتي التعريف الذي يُعرًّف به التقديم و التأخير و هو :”مخالفة عناصر التركيب ترتيبها الأصلي في السياق ، فيتقدم ما الأصل فيه أن يتأخر ويتأخر ما الأصل فيه أن يتقدم . و الحاكم للترتيب الأصلي بين عنصرين يختلف إذا كان الترتيب لازما أو غير لازم ، فهو في الترتيب اللازم ( الرتبة المحفوظة) حاكم صناعي نحوي ، أما في غير اللازم ( الرتبة غير المحفوظة) ، فيكاد يكون شيئا غير محدد، و لكن هناك أسبابٌ عامة قد تفسر ذلك الترتيب ” .

3- فائدة التقديم و التأخير

للتقديم و التأخير فوائد جمة تعبر عن مدى سعي العربية إلى تحصيل جمال التعبير و الصياغة قبل كل شيء ، و لو كان ذلك على حساب الترتيب الذي وضعه الأولون لتراكيبهم.


يقول عبد القاهر الجرجاني رحمه الله متحدثا عن فائدته: ” هذا باب كثير الفوائد ، جم المحاسن ، واسع التصرف ، بعيد الغاية ، لا يزال يفتر لك عن بديعة ، و يفضي بك إلى لطيفة ، و لا تزال ترى شعرا يروقك مسمعه ، ويلطف لديك موقعه، ثم تنظر فتجد سبب أن راقك و لطُف عندك ، أن قدم فيه شيء و حول اللفظ من مكان إلى مكان ” .

و قد تحدث غيره عن قيمة هذه الظاهرة في اللغة العربية بل وصفها بأنها” مظهر من مظاهر شجاعة العربية ؛ ففيها إقدام على مخالفة لقرينة من قرائن المعنى من غير خشية لبس ، اعتمادا على قرائن أخرى ، ووصولا بالعبارة إلى دلالات و فوائد تجعلها عبارة راقية ذات رونق و جمال”

أقسام التقديم

قسم الإمام الجرجاني التقديم إلى نوعين 

1- ” تقديم على نية التأخير : و ذلك كل شيء أقررته مع التقديم على حكمه الذي كان عليه و في جنسه الذي كان فيه ، كخبر المبتدأ إذا قدمته على المبتدأ، و المفعول إذا قدمته على الفاعل منطلقٌ زيدٌ( و)ضرب عمرا زيدٌ(.

2- تقديم لا على نية التأخير ، و لكن على أن تنقل الشيء عن حكم إلى حكم ، و تجعل له بابا غير بابه و إعرابا غير إعرابه ، و ذلك أن تجيء إلى اسمين يحتمل كل واحد منهما أن يكون مبتدأ و يكون الآخر خبرا له فتقدم تارة هذا على ذلك وأخرى ذاك على هذا ، و مثاله ما تصنعه بزيد و المنطلق ، حيث تقول مرة : ) زيدٌ المنطلقُ( وأخرى )المنطلقُ زيدٌ(. فأنت في هذا لم تقدم المنطلق على أن يكون متروكا على حكمه الذي كان عليه مع التأخير ، فيكون خبر المبتدأ كما كان ، بل على أن تنقله من كونه خبرا إلى كونه مبتدأ ، و كذلك لم تؤخر زيدا على أن يكون مبتدأ كما كان بل على أن تخرجه عن كونه مبتدأ إلى كونه خبرا.”

و يضرب الجرجاني أمثلة أشد وضوحا على نماذج للتقديم بقوله :” و أظهر من هذا قولنا ضربتُ زيدا و زيدٌ ضربتُه ، لم تقدم زيدا على أن يكون مفعولا به منصوبا بالفعل كما كان ، و لكن على أن ترفعه بالابتداء ، و تشغل الفعل بضميره ، وتجعله في موضع الخبر له ”

5- أغراض التقديم و التأخير 

هناك العديد من الأسباب و الدواعي لتقديم المسند على المسند إليه لعل السبب المقدم عليها جميعا أن ذكره أهم من ذكر غيره، قال سيبويه في الكتاب ” و إن قدمت الاسم فهو عربي جيد، كما كان ذلك عربيا جيدا ، وذلك قولك : زيدا

ضربت، والاهتمام والعناية هنا في التقديم و التأخير سواء ، مثله في ضرب زيد عمرا و ضرب عمرا زيد” .

و هو ما أشار إليه الجرجاني بقوله:” و اعلم أن لم تجدهم اعتمدوا فيه شيئا يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام. قال صاحب الكتاب و هو يذكر الفاعل و المفعول : كأنهم [إنما] يقدمون الذي بيانه أهم لهم و هم ببيانه أعنى، و إن كانا جميعا يُهمانِهم و يعنيانِهم ” .

و قد عدد الإمام جلال الدين القزويني أسباب الورود التي نتحدث عنها و ذلك بعدما ذكر تقديم المسند إليه،قال فلكون ذكره أهم من ذكر غيره ، فذلك:

أ‌- لكونه الأصل و لا مقتضى للعدول عنه.

ب‌- لتمكين الخبر في ذهن السامع لأن في المبتدأ تشويقا إليه ..

ت‌- لتعجيل المسرة أو المساءة للتفاؤل أو التطير .

ث‌- لإيهام أنه لا يزول عن الخاطر ، أو أنه يستلذ به ، و قد يقوم المسند إليه بنحو ذلك من الأغراض.

ج‌- قد يقوم المسند إليه بغرض تخصيصه بالخبر الفعلي ، و قصر هذا الخبر عليه … .

و على هذه الأسباب مدار التقديم و التأخير ، و قد تكون هنالك أغراض أخرى تدعو إلى التقديم أو التأخير ، قد نعرج عليها فيما يلي من عناصر ، ضاربين لذلك أمثلة توضيحية .

أ‌- الأغراض البلاغية لتقديم المسند:

1- التخصيص و القصر :

نحو قوله تعالى : (لله الأمر من قبل و من بعد )

و قول الشاعر :

عذبة ٌ أنتِ كالطفولة

2- التفاؤل بما يسر المخاطب:

نحو : ناجح أنت – نجحت العملية الفدائية / الجراحية

3- إثارة الذهن و تشويق السامع :

مثل قوله تعالى إن في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب ) (آل عمران/190).

4- التعجب :

مثل : لله درك!

5- المدح :

مثل : نعم البديل من الزلة الاعتذار

6- الذم :

مثل : بئس الرجل الكذوب.

7- التعظيم :

نحو :عظيم أنت .

8- مراعاة توازن الجملة و السجع :

نحو خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه) (الحاقة:30-31).

ب‌- الأغراض البلاغية لتقديم المسند إليه:

يقول السكاكي :”و أما الحالة التي تقتضي تقديمه على المسند فهي : متى كان ذكره أهم ، يقع باعتبارات مختلفة : إما لأن أصله التقديم و لا مقتضى للعدول عنه ، …، و إما لأنه متضمن للاستفهام ، .. و إما لتضمنه ضمير الشأن و القصة .. و إما لأن في تقديمه تشويقا للسامع إلى الخبر ليتمكن في ذهنه إذا أورده…” .

و هناك من ذكر غير هذا فتأمله

1- التشويق إلى الكلام المتأخر:

نحو قول الشاعر :

ثلاثة ليس لها إياب الوقت و الجمال و الشباب

2- تعجيل المسرة:

نحو قوله تعالى جنات عدن يدخلونها) (الرعد:23، فاطر : 33، النحل : 31).

3- تعجيل المساءة:

مثل :السجن عشرون عاما لقاتل الطفلة .

4- للتبرك به:

نحو :الله سندي . و نحو : الله غايتنا و الرسول قدوتنا و القرآن دستورنا و الموت في سبيل الله أسمى أمانينا.

5- تقوية الحكم و تقريره :

مثل و الذين هم بربهم لا يشركون) (المؤمنون:59).

و بالعودة إلى ما كتب حول الأغراض البلاغية من التقديم و التأخير .. في كتب البلاغة قديمها و حديثها نلاحظ أن هناك عددا آخر من الأغراض نضرب عنها صفحا و نكتفي بما قلنا .

6- مواضع التقديم و التأخير:

أ‌- ما يجب تقديمه و لو تأخر لفسد معناه:

1- تقديم المفعول به على فعله، كقولك : زيدا ضربت ، و فيه تخصيص له بالضرب دون غيره . و هذا الذي ذهب إليه المؤلف رأي أغلب علماء البيان.

2- تقديم خبر المبتدأ عليه نحو: قائم زيد ، ..فإنك إذا أخرت الخبر فليس فيه إلا الإخبار بأن زيدا قائم لا غير من غير تعرض لمعنى آخر من المعاني البليغة .

3- الظرف، و الغالب أنه يرد للدلالة على الاختصاص كقوله تعالى : (إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم)

(الغاشية 25-26) .

4- الحال فإنك إذا “قدمته فقلت : جاء ضاحكا زيدٌ فإنه يفيد أنه جاء على هذه الصفة مختصا بها “ .

5- الاستثناء في نحو قولك : ” ما ضربت إلا زيدًا أحدًا ، فإنك إذا قدمته فانه يفيد الحصر” .

و الملاحظ أن استفاضة الإمام عبد القاهر الجرجاني في البحث عن بالشواهد و الأمثلة سواء القرآني منها أو الشعري للتدليل على هذه الأغراض إنما كان المراد به إثبات الحضور القوي لهذه النماذج التي ادعى البعض من البلاغيين أن الغاية الأولى من التقديم و التأخير هي الاهتمام فقط . و لعل المتفحص لكتاب الدلائل يلحظ هذا الكم الهائل من الأمثلة التي ساقها المصنف رحمه الله .

ب‌- ما يجوز تقديمه و لو تأخر لم يفسد معناه :

و يقصد به كل كلام ورد فيه ذكر لشيئين أو أكثر ، و جاءت المذكورات متتالية ، فإن ترتيبها ذاك يكون لغاية معينة، و غالبا ما يكون الترتيب بذكر الأشرف فالأشرف ، و لو قدم المتأخر ما كان ذلك معيبا ، أو لو عكس الترتيب ما أخل بمعنى العبارة.انظر قوله تعالى فيما يلي : ( و ما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض و لا السماء)( يونس:61) وقوله تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات و لا في الأرض)(سبأ:3). فقدم سبحانه مرة الأرض و في آية أخرى قدم السماء و الترتيب كما قلنا إنما يكون بحسب رغبة المتكلم لا غير ، أو كما يقول صاحب الطراز :” فأنت ههنا بالخيار، فإن شئت قدمت المفضول لما له من المناسبة لمطلع الكلام ، و إن شئت قدمت الفاضل لما له من رتبة الفضل ” .

و قد قسم الجرجاني رحمه الله مواضع التقديم إلى ما يلي :

أ‌- الاستفهام :

” “الاستفهام بالهمزة “، فإن موضع الكلام على أنك إذا قلت :”أفعلت؟” ، فبدأت بالفعل، كان الشك في الفعل نفسه ، و كان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده.

و إذا قلت :” أأنت فعلت؟” فبدأت بالاسم ، كان الشك في الفاعل من هو ، و كان التردد فيه” .

و لا يخفى أن الغرض الحصول على إقرار من المخاطب بأنه الفاعل للذي تستفهم عنه . أو كما قال الجرجاني :” و اعلم أن الهمزة فيما ذكرنا تقرير بفعل قد كان ، و إنكار له لم كان ، و توبيخ لفاعله عليه” . و قد يكون الاستفهام بالهمزة لإنكار أن يكون الفعل قد كان من أصله . و مثاله قوله تعالى (أفأصفاكم ربكم بالبنين و اتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما) (الإسراء:40) .

ب‌- النفي :

“إذا قلت :” ما فعلت” ، كنت نفيت عنك فعلا لم يثبت انه مفعول ، و إذا قلت :” ما أنا فعلت ” كنت نفيت عنك يثبت أنه مفعول” . و إذا قلت :”ما زيدا ضربت ” فقدمت المفعول ، كان المعنى على أن ضربا وقع منك على إنسان، و ظن أن ذلك الإنسان زيد ، فنفيت أن يكون إياه.”

و على خلاف ما ذهب إليه البلاغيون فهناك من لا يرى أن يلحق بباب التقديم و التأخير في البلاغة العربية تقديم أداة النفي على اللفظ الدال على العموم ، و لا العكس أي تقديم اللفظ الدال على العموم على أداة النفي ، يقول: ” فهذه قضية فكرية تتصل بأصل بناء الكلام في أدائه للمعاني ، و هي ترجع إلى قاعدة “سلب العموم أو عموم السلب ” فإذا سلط النفي على العموم لم يلزم منه نفي جميع الأفراد ، لأن المنفي حينئذ هو العموم لا جميع أفراده ، و إذا سلط العموم على المنفي بأداة النفي فإنه يدل حينئذ على نفي جميع الأفراد “ . مثل : ليس كل إنسان كاتبا ( بتسليط السلب على العموم معناها أن بعض الناس ليس كاتبا ، و هذه جملة صادقة) ، و لكن ” كل إنسان ليس كاتبا” بتسليط اللفظ الدال على العموم على الجملة المنفية المسلوبة ، و كأنك تقول لا أحد في الناس هو كاتب ، و هذا الحكم لا يصدق ، أي هو كاذب .

جـ- الخبر :

و هو نوعان أحدهما ظاهر غير مشكل :” و هو أن يكون الفعل فعلا قد أردت أن تنص فيه على وجه واحد فتجعله له ، وتزعم أنه فاعله دون واحد آخر ، أو دون كل أحد” .و الثاني أن لا يكون القصد إلى الفاعل على هذا المعنى و لكن على أنك أردت أن تحقق على السامع انه قد فعل ، و تمنعه من الشك ، فأنت تبدأ بذكره ، و توقعه أولا – و من قبل أن تذكر الفعل – في نفسه .. و مثاله قولك “هو يعطي الجزيل ” .

د – غير و مثل :

و هما مما يرى تقديمهما في الكلام ، و قد ذكر علماء البلاغة العربية ان هاتين الكلمتين غير و مثل” تلازمان التقديم في التراكيب البلاغية إذا أريد بهما الكناية عن الشخص الذي يجري الحديث عنه “ .و ذلك نحو قول الشاعر أبي فراس الحمداني :

بلى، أنا مشتاق و عندي لوعة و لكن مثلي لا يذاع له سر

و نحو قول أبي تمام :

“و غيري يأكل المعروف سحتا و تشحب عنده بيض الأيادي”

و نحو قول المتنبي في قصيدة يعزي فيها عضد الدولة ابا شجاع في عمته :

مثلك يًثني الحزن عن صوبه و يسترد الدمع عن غربه

و لم أقل “مثلًك” أعني بــه سواك يا فردا بلا مشبـــه

كاتب
كاتب
مصطفى خميس خريج كلية اللغة العربية جامعة الإسكندرية، لعيب كرة قدم سابق لدي نادي أهلي دمنهور، مدون ومحرر اخبار ومالك عدة مواقع إلكترونية.
تعليقات