التشبيه الضمني
تشبيه لا يوضع فيه المشبه والمشبه به في صورة من صور التشبيه المعروفة ، بل يلمحان في التركيب . وهذا الضرب من التشبيه
يؤتى به ليفيد أن الحكم الذي أسند إل المشبه ممكن .
وبيان ذلك أن الكاتب أو الشاعر قد يلجأ عند التعبير عن بعض أفكاره إلى أسلوب يوحي بالتشبيه من غير أن يصرح به في صورة من صوره المعروفة .
ومن بواعث ذلك التفنن في أساليب التعبير ، والنزوع إلى الابتكار والتجديد ، وإقامة البرهان على الحكم المراد اسناده إلى المشبه ،والرغبة في اخفاء معالم التشبيه ؛ لأنه كلما خفي ودقّ كان أبلغ في النفس .
🥀ولنأخذ مثالا لذلك ، وهو قول أبي فراس الحمداني :
سيذكرني قومي إذا جد جدهم
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
فهو هنا يريد أن يقول : إن قومه سيذكرونه عند اشتداد الخطوب و الأهوال عليهم ويطلبونه فلا يجدونه ، ولا عجب في ذلك لأن البدر يفتقد ويطلب عند اشتداد الظلام .
فهذا الكلام يوحى بأنه تضمن تشبيها غير مصرح به ؛ فالشاعر يشبه ضمنا حاله وقد ذكره قومه وطلبوه فلم يجدوه عندما ألمت بهم الخطوب بحال البدر يطلب عند اشتداد الظلام . فهو لم يصرح بهذا التشبيه و إنما أورده في جملة مستقلة وضمنه هذا المعنى في صورة برهان .
🥀ولنأخذ مثالا آخر وهو قول البحتري :
ضحوك إلى الأبطال وهو يروعهم
وللسيف حد حين يسطو ورونق
فممدوح البحتري يلقى الشجعان بوجه ضاحك وهو يروعهم ويفزعهم في الوقت ذاته ببأسه وسطوته ، وكذلك السيف له عند القتال والضرب رونق وفتك ، و هذا كلام يُشم منه رائحة التشبيه الضمني .
فالبحتري لم يأتِ بالتشبيه صريحا فيقول : إن حال الممدوح يضحك في غير مبالاة عند ملاقاة الشجعان و يفزعهم ببأسه وسطوته تشبه حال السيف عند الضرب له رونق و فتك ، ولكنه أتى بذلك ضمنا ، لباعث من البواعث السابقة .
🥀ولنأخذ مثالا ثالثا وهو قول ابن الرومي :
قد يشيب الفتى وليس عجبا
أن يُرى النور في القضيب الرطيب
فابن الرومي يود أن يقول هنا : قد يعتري الفتى الشيب في ريعان شبابه ، وليس ذلك بالأمر العجيب لأن الغصن الغض الندي قد يظهر فيه الزهر الأبيض قبل أوانه .
فالأسلوب الذي عبر به ابن الرومي عن فكرته هنا يتضمن تشبيها لم يصرح به ، فإنه لم يقل مثلا : إن الفتى وقد شاب مبكرا كالغصن الغض الرطيب وقد أزهر قبل أوانه ، ولكنه أتى بالتشبيه ضمنا ، لإفادة أن الحكم الذي أُسند للمشبه أمر ممكن الوقوع .
🥀ولنأخذ مثالا آخر، وهو قول أبي تمام :
لا تنكري عطل الكريم من الغنى السيل حرب للمكان العالي
يريد أبو تمام أن يقول لمن يخاطبها : لا تنكري خلو الرجل الكريم من الغني ، فإن ذلك ليس غريبا ؛ لأن قمم الجبال وهي أعلى الأماكن لا يستقر فيها ماء السيل .
فالكلام يوحي بتشبيه ضمني ، ولو صرح به لقال مثلا : إن الرجل الكريم المحروم الغني يشبه قمة الجبل وقد خلت من ماء السيل . ولكن
الشاعر لم يقل ذلك صراحة ، و إنما أتى بجملة مستقلة وضمنها هذا المعنى في صورة برهان على إمكان وقوع ما أسنده للمشبه .
🌷وفيما يلي طائفة أخرى من أمثلة التشبيه الضمني :
_______________________
🥀٠١ قال المتنبي :
وما أنا منهم بالعيش فيهم
ولكن معدن الذهب الرغام
المشبه حال الشاعر لا يعد نفسه من أهل دهره و إن عاش بينهم ،
و المشبه به حال الذهب يختلط بالتراب ، مع أنه ليس من جنسه .
🥀٠٢ وقال أيضا :
ومن الخير بطء سيبك عني
أسرع السحب في المسير الجهام ُ
المشبه حال العطاء يتأخر وصوله ويكون ذلك دليلا على كثرته ، والمشبه به حال السحب تبطئ في السير ويكون ذلك دليلا على غزارة مائها .
🥀٠٣ وقال أبو العتاهية :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس
المشبه حال من يرجو النجاة من عذاب الآخرة و لا يسلك مسالك النجاة ، والمشبه به حال السفينة التي تحاول الجري على الظارض اليابسة .
🥀٠٤وقال ابن الرومي :
ويلاه إن نظرت و إن هي أعرضت وقع السهام ونزعهن أليم
المشبه حال المحبوبة إذا نظرت و إذا أعرضت ، والمشبه به حال السهام تؤلم إذا وقعت وتؤلم إذا نُزعت .
* * * *
نماذج أخرى للتشبيه الضمني:_
_________________________
🥀قال أبو الطيب المتنبي:
مَن يَهُن يَسهُلِ الهَوانُ عَلَيهِ
ما لِجُرحٍ بِمَـيِّـتٍ إيلامُ
هذا البيت من الشعر فيه تشبيه،فما هو؟
وهل يمكنك أن تشير إليه بالإصبع؟
الجواب: لا، لأنه لم يوضع في صورة من صور التشبيه المعروفة، ولم يأتِ المتنبي بتشبيه صريح،
فهو لم يقل: إن الشخص الذي اعتاد الهوان والذل،وصار لا يشعر بقسوة الإهانة، كالميت الذي لا يتألم حتى وإن أصابته الجراح، ولكننا نرى أنه يشبه ضمنا من هانت عليه نفسه، فهو لا يتأثر، كالميت فاقد الشعور والإحساس، وأتى بجملة ضمّنها هذا المعنى في صورة البرهان.
🥀قال البحتري يصف أخلاق ممدوحه:
وَقَدْ زَادَهَا إفْرَاطَ حُسْنٍ جِوَارُهَا
خَلاَئقَ أصْفَارٍ مِنَ المَجْدِ، خُيَّبِ
وَحُسنُ دَرَارِيِّ الكَوَاكِبِ أنْ تُرَى
طَوَالِعَ في دَاجٍ مِنَ الليلِ غَيهَبِ
شبّه البحتري أخلاق ممدوحه التي تزداد حسنا وتألقا لوجودها في جوار أخلاق وضيعة لأقوام لا فضل فيهم ولا مجد لهم، بحال الكواكب العظام تزداد تلألؤا في الليل البهيم.
وقد رأينا أنه لم يصرح بالتشبيه، ولم يأت بطرفيه على صورة من صوره المعروفة، فلا مشبه ولا مشبه به ظاهران صريحان، وإنما لمح إليهما، وضمنهما في الكلام.
ورأينا كذلك كيف أنه ضمن التشبيه برهانا على أن الحكم الذي أسنده إلى المشبه -وهو ظهور الأخلاق الحسنة وازدياد جمالها لوجودها إلى جانب قوم لا أخلاق فيهم- ممكن، والدليل على ذلك أن الكواكب المضيئة يحسن منظرها ويزيد اشعاعها وتألقها إذا كان الليل شديد الظلمة.
بلاغة التشبيه الضمني:
____________________
١: إنه دعوى مع البينة والبرهان.
٢: إنه إبراز لما يبدو غريبا ومستحيلا.
٣: إنه جمع بين أمرين متباعدين، وجنسين غير متقاربين.
٤: إنه دلالة على التشبيه بالإشارة، لا بالوضوح والصراحة.